حتى لا يجف نبع العطاء

 

ما إن جلست أمام مرآتها على إثر انتهائها من الأعمال المنزلية حتى رأت آثار الزمن على شعرها الذي كان لامعاً وعلى بشرتها التي كانت ناضرة وعلى قوتها التي كانت تعمل بلا كلل ولا ملل إن عمرها الآن قارب الأربعين لقد أعطت كثيراً دون انتظار مدح أو شكر أعطت دون أن يلتفت إلى عطائها أحد بل قلما يذكرها أحد في يوم ميلادها أو زواجها.

تمر الأسابيع والأشهر دون هدية أو نزهة تخفف من أعباء الحياة لا يذكرونها إلا عندما يطلبون منها شيئاً ويلومونها عند أدنى تقصير إلى متى تذكر الآخرين ولا يذكرها أحد؟ إلى متى تعطي دون أن يقدم لها أحد كلمة شكر أو هدية ولو رمزية؟ إلى متى تعاني من الإهمال وتعيش في زوايا النسيان حية كالأموات أو ميتة بين الأحياء.

ربما كانت هذه بعض الخواطر التي تجول في ذهن عدد من النساء بعد مضي مدة من حياتهن الزوجية المثقلة بأعباء لا تنتهي، وربما يغذي هذه الخواطر أحاديث في وسائل الإعلام لنساء تتحدث الواحدة منهن عن معاناة المرأة وظلمها واضطهادها وتدعوها إلى ممارسة دورها في الحياة وانتزاع حقوقها من يد الغاصبين، يدعونها لتعيش مباهج الحياة وأن تتخلص من كل القيود التي منعتها في السنوات الماضية من العيش وفق ما تحب لا ما يحب الوالدان والزوج والمجتمع.

وتدعوها لأن تقف مع نفسها وقفة جادة، فقطار الحياة يمر وسيأتي يوم تعاني فيه من آلام الوحدة والحرمان، سيتزوج الأبناء وينصرف الزوج عنها إلى مجالس أكثر جاذبية أو يقعده المرض والسن.

لا بد من وقفة جادة، هذه ضرورة لا بد أن تتكرر نراجع فيها نقاط الانطلاق وأماكننا على خط الحياة والطموحات وتطلعاتنا ما تحقق منها وما يمكن أن يتحقق وما يستحيل أن يتحقق إذا سرنا بنفس الطريقة.

على أي شيء اتفق الزوجان عند بدء زواجهما، كثير من الزيجات لا يتفق الزوجان على شيء ولا يضعان خطة للحياة ولا طريقة لحل الإشكال الممكن، وفي مثل هذه الحالات يرتفع سقف التوقعات بين الزوجين ويصابان أو أحدهما بخيبة أمل كبيرة عند حدوث أدنى خلل.

لو بنيت هذه العلاقة على قواعد واضحة للوصول إلى أهداف نبيلة يسعى لها الزوجان ومبادئ واضحة لا يمكن أن يحيدا عنها وتقسيم للأدوار يقوم على العدل والفضل لما جاءت مثل هذه اللحظة التي تشعر فيها الزوجة أو الزوج أن عمرها مضى دون فائدة، وأن على كل منهما أن يعيد حساباته مرة ثانية.

في هذه المؤسسة المهمة تقوم العلاقة بين الزوجين على مبدأ الحب والوفاء والإحسان، ومن طبيعة المحب أن يعطي بنفس راضية سمحة، ومن طبيعة أهل الوفاء تقدير المعروف، ومن واجب كلا الزوجين الإحسان في القول والعمل والمشاعر.

هل تقوم العلاقة بين الزوجين على أساس أن أحدهما يعطي دون أن يأخذ والآخر يأخذ دون أن يعطي؟ هل يمكن أن نصف هذه العلاقة بأنها علاقة طبيعية بين شريكين فضلاً عن أن تكون بين زوجين؟

في عالم العلاقات كل حق يقابله واجب، فهل نقبل بعلاقة تقوم على تلاقي الأرواح قبل تلاقي الأجساد؟ أن تكون الحقوق من نصيب أحد الأطراف بينما الواجبات من نصيب الطرف الآخر؟ وهل تلام المرأة إذا طالبت بحقوقها من اليوم الأول حتى لا تأتي عليها لحظة تنسف فيها كل مجهوداتها طوال سنوات حتى لا تأتي عليها لحظة يستغرب الزوج من قولها أريد حقوقي، أو تشعر بغصة كلما رأت امرأة تأخذ أكثر من حقها ولا تقوم إلا بالقليل من واجباتها؟

ما المانع من أن تأخذ المرأة نصيبها من الحياة في ذات الوقت الذي تعطي زوجها وأبناءها حقوقهم؟ ولماذا يغيب عنا وعن المجتمع أن كل نجاح لفرد من أفراد الأسرة هو نتاج لجهود جميع أفرادها كباراً وصغاراً؟ هذا هو الوضع الطبيعي للعلاقة داخل أسرة مترابطة، أما الزعم أو الظن بأن المرأة لكي تأخذ حظها من الحياة والشهرة والأضواء لا بد أن تجني على نفسها وأسرتها، فأمر مبني على الأنانية المفرطة التي تؤذي صاحبها قبل أن تؤذي من حوله، وقد لا يدرك ذلك إلا بعد فوات الأوان بعد أن تخفت الأضواء أو تزول، وبعد أن ينفض الجميع إلى نجم آخر أكثر تألقاً وعطاء.

أدوار متعددة

مفهوم الحياة المتوازنة هي الحياة التي يستطيع الفرد أن يقوم فيها بأدواره المتعددة داخل الأسرة والمجتمع ودوائر العمل دون أن يطغى حق على بقية الحقوق، ولا شك أن هذا يحتاج لجهد وتفكير وتدريب ومشاركة من المحيطين، لكن ثمرة هذه الحياة المتوازنة يجنيها الجميع أيضاً، يمكن للجميع أن ينجحوا إذا صلحت النوايا، وإذا تشاركنا في وضع الخطط المناسبة وتشاركنا في تنفيذها، وشعرنا أن نجاح الفرد هو نجاح للجميع، وأن سبق فرد من أفراد الأسرة هو بمثابة تحفيز لبقية الأسرة.

وإذا كنا نقول: من واجب المرأة أن تساعد زوجها وأبناءها على النجاح وتحقيق الذات، فإن من واجب الزوج والأبناء أن يساعدوا ربة البيت فيما تسعى إليه من خير، فكما أن نجاح الأسرة يضاف إلى رصيد الزوجة، فكذلك نجاح الزوجة يضاف إلى رصيد الأسرة.

وكم من زوج وأبناء عاونوا ربة البيت وريحانته بالمال والجهد لكي تتم دراستها العليا وما يتطلبه ذلك من توفير الوقت والمال وتأجيل مشاريع لكي تصل المرأة إلى أرقى الدرجات العلمية التي لم يسع زوجها لها خطوة واحدة، لكنه يسعد ويسر كلما رأى زوجته تتقدم خطوات.

ثم لتقف المرأة مع نفسها وقفة هادئة منصفة، هل مرت هذه الحياة بلا لحظات حلوة وبلا استمتاع بثمرات النجاح؟ ولماذا اختفت هذه اللحظات من الحياة؟ وما الطريق إلى إعادتها مرة ثانية؟ هل شعرت أن كل نجاح لزوجها وأبنائها هو إضافة لرصيدها عند نفسها وعند الناس؟ أم تصورت أن كل نجاح لزوجها يصرف وجهه وقلبه إلى امرأة أخرى أذكى وأرق وأجمل وأصغر؟

وهل من الضروري لكي تحصل المرأة على نصيبها في الحياة أن يكون ذلك على حساب كونها امرأة وأماً وزوجة وأختاً وبنتاً؟ وما قيمة امرأة تحصل على المجد والشهرة والمال بينما تصارع آلامها وحيدة بعيدة عن الأضواء التي ستزول حتماً بزوال المنصب أو بالتقدم في السن؟

لا نريد أن نعقد ملازمة بين نجاح المرأة وانقطاعها عن القيام بواجباتها نحو أسرتها الصغيرة والكبيرة، وقيامها بواجبها نحو أسرتها وحرمانها من تحقيق النجاح، ليس هناك تلازم أبداً، كلما اتسعت العقول بالحكمة والقلوب بالحب والعزائم بالإرادة الصلبة نال كل فرد من أفراد الأسرة نصيبه من الحياة والنجاح والمجد، وأدرك الناس أن ميادين النجاح واسعة، وأن بإمكان المرء أن ينجح وبإمكانه أن يساعد الآخرين في تحقيق النجاح.

وكلمة أهمس بها في أذن كل امرأة أحست أن قطار السعادة قد فاتها وأنها أعطت بلا مقابل، لا يقدر الناس ولا العطاء حق قدره إلى الله تعالى، لذلك كان الجزاء الأوفى بيد الله عز وجل، وما يلقاه الإنسان في الدنيا من تقدير وتوقير داخل البيت وخارجه ما هو إلا بشارة وتمهيد للجزاء الكبير عن الكريم سبحانه الذي إذا أعطى أدهش، وليس ذلك دافعاً لترك الحقوق، بل سبباً لبذل المزيد من الجهد والعطاء، فإن النفوس الخيرة لا يسعدها شيء كما يسعدها العطاء، ولا يسعدها شيء قدر مشاهدة لحظة نجاح شاركت بصنعها من خلال نصيحة أو رعاية أو معونة بجهد أو مال.

Exit mobile version