الأسرة‭ ‬المسلمة.. ‬مَنْ‭ ‬يزرع‭ ‬بذور‭ ‬الفتنة؟

 

تقوم الأسرة المسلمة على ركيزتين أساسيتين؛ هما المودة والرحمة؛ (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً) (الروم: 21)، فالمودة تعني الحب والرغبة في القرب وكل المشاعر الجميلة الدافئة، وهذا لن يتحقق إلا في ظل الاهتمام والمراعاة واللطف في التعامل، بينما تتجاوز الرحمة هذه المشاعر في العلاقات إلى تلمس الأعذار والتعاطف والمواجدة والتنازل عن بعض الحقوق وتقديم المزيد من الواجبات رحمة بالطرف الآخر.

يوجد بالتأكيد حقوق وواجبات متبادلة ومتوازنة وعادلة بين الزوجين وفقاً لقاعدتين قرآنيتين:

الأولى: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (البقرة: 228)؛ فكل حق يقابله واجب، ولكن هذه الحقوق والواجبات مرنة لأنها مشبعة بروح المودة والرحمة؛ فتتغير بحسب ظروف وقدرة كل زوجين مادياً وصحياً ونفسياً مع البقاء على خطوطها العريضة واضحة حتى لا تحدث حالة من سوء الفهم.

 الثانية: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ) (النساء: 34)، وهذه هي الدرجة المذكورة في القاعدة القرآنية الأولى.

والقوامة باختصار تكليف للرجل بتولي قيادة هذه الأسرة بما يتمتع به من قدرة على تحمل المسؤولية ولدوره الحيوي في الإنفاق على الأسرة، والقوامة لا تعني مطلقاً كما يتصور البعض التسلط والدكتاتورية ونحو ذلك من القيم القبيحة قرينة الاستبداد والاستعلاء.

ويكفي إلقاء نظرة على البيت النبوي كي نفهم التطبيق العملي للقوامة؛ فعندما سئلت أم المؤمنين عائشة عما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته قالت: «كانَ يَكونُ في مِهْنَةِ أهْلِهِ -تَعْنِي خِدْمَةَ أهْلِهِ- فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ خَرَجَ إلى الصَّلَاةِ» (رواه البخاري).

وكان صلى الله عليه وسلم يتشاور معهن في الأمور الخاصة والعامة مثلما حدث «يوم الحديبية»، يتحاور ويستمع ويبتسم.

أما الهدف من تنظيم هذه الحقوق والواجبات فهو تحقيق السكن؛ فالأسرة هي ذلك المكان الذي يجد فيه كل فرد من أفرادها سكنه وسكينته في عالم مليء بالسعي والكفاح والضغوط.

“الترندات”

رغم بساطة فلسفة الأسرة المسلمة، ورغم واقعيتها الشديدة، ورغم إشباعها الحقيقي لفطرة الإنسان السوية؛ فإن الواقع يشهد هشاشة متزايدة للأسرة وأرقام طلاق مخيفة، بل وقفزات جنونية جديدة في معدلات الطلاق (15% زيادة في معدلات الطلاق بمصر في عام 2021 ومتوقع زيادة أخرى في عام 2022م)، مع حالة من حالات الكساد في الزواج وارتفاع معدلاته بطريقة طفيفة.

وفي هذا السياق، يمكننا قراءة وتحليل مجموعة من «الترندات» التي طالت الأسرة وأحدثت حالة من الفوضى والبلبلة من منظورين متكاملين:

الأول: من يقف وراء هذه «الترندات»؟ ولماذا؟

الثاني: ما دلالة التفاعل على هذه «الترندات»؟ وهل يمكننا تشخيص بعض ما تعانيه الأسرة في ضوء التعاطي مع هذه «الترندات»؟

لو أخذنا عينة من «الترندات» الأخيرة المتعلقة بالأسرة التي أحدثت حالة من الضجيج على مواقع التواصل الاجتماعي بين الجمهور المصري، سنجد أنه في الشهر الماضي، مثلاً، وفي أقل من 3 أسابيع، كانت هناك 5 «ترندات»، بدأت بتصريحات نقيبة أطباء القاهرة في حفل تخرج لطالبات طب الأزهر، وكانت تنصحهم أن البيت هو الأولوية الأولى للمرأة قبل مهنتها؛ هجوم شديد من أصحاب التيار النسوي على هذه التصريحات، قابله دفاع كبير أيضاً، تلاه تصريح آخر لطبيبة شهيرة بأن المرأة غير ملزمة بالطهو، وأن الطهو ينبغي أن يكون بالتشارك أو بالتبادل، وتصدر وسم «الزوجة غير ملزمة» مواقع التواصل، ثم أعقبه تصريحات محامية وناشطة نسوية أن الزوجة في الشريعة الإسلامية غير ملزمة بالرضاعة، وإن فعلت ذلك فلها الحق في الحصول على أجر من الزوج، فتعزز وسم «غير ملزمة»، وأصبح حديث الإعلام كله، ولكن وسماً آخر جاء كرد فعل لـ«غير ملزمة» تحت وسم «غير ملزم»؛ فهو غير ملزم بعلاج الزوجة، وغير ملزم بكتابة قائمة، وغير ملزم بكثير مما يعد من رفاه الحياة، ثم جاء وسم زوجة المهندس التي خانته وسلبت أمواله ليصبح حديث مواقع التواصل الاجتماعي.

هنا نسأل السؤال الأول: هل ما يحدث هذا طبيعي؟ هل هو مجرد «ترند» لاقى تفاعلاً فانتشر، أم أن الأمر مدبر ممن يريد بذر بذور الفتنة في المجتمع؟ ما يجعلني أرجح الخيار الثاني أن تصريحات نقيبة أطباء القاهرة (لست هنا بصدد التعليق على توازن تصريحاتها) قديمة ومطولة تم اقتطاعها، والفيديو منشور منذ عام كامل؛ فلماذا الآن يتصدر «الترند»؟

الشيء ذاته حدث مع تصريحات المحامية والناشطة الحقوقية؛ فقد أعربت عن رأيها هذا في حوار قديم نشر عام 2017م، وكلامها كان في سياق مختلف عما تم نشره (وإن كان لا يخلو من محاولة العبث بقيم الأسرة) فمن يقف وراء ذلك؟ ولماذا؟

تصدُّر «الترند» وحده لا يكفي كسبب لما يحدث، الإلهاء أيضاً لا يكفي، في رأيي أن الهدف الخبيث هو إلقاء مزيد من الزيت على النيران؛ فالأسر الممزقة التي تضربها الخلافات تزداد انهياراً، والشباب والشابات الذين هم في مقتبل العمر وبصدد تكوين أسر جديدة يتم زرع الخوف داخل قلوبهم وفرض فلسفة جديدة قائمة على حقوق وواجبات خانقة؛ حيث يكون الطلاق خياراً محتملاً جداً؛ لذا يجب الحذر حتى لا يضيع حقك أو تقدم أكثر مما يجب.

وهنا يطرح السؤال الثاني نفسه: لماذا تفاعل رواد مواقع التواصل مع هذه «الترندات» بهذه الحرارة سلباً أو إيجاباً؟

والإجابة أنه لمس وجعاً حقيقياً داخل الأسرة وهشاشة أصابتها في أجواء أصبح التربص بين الزوجين بديلاً للمودة والرحمة.

كارثة حقيقية

على أن الكارثة الحقيقية هي ما يقوم به بعض الأطباء النفسيين المشهورين ومستشاريّ العلاقات الزوجية في مواجهة هذه الهشاشة، فبدلاً من تقديم نصائح وأفكار لدعم بنيان الأسرة؛ أفكار عن الصبر الجميل الإيجابي في مواجهة ما نرفضه من الطرف الآخر، وأفكار للتقريب والتفهم، وأفكار للإصلاح؛ نجد هؤلاء يتحدثون عن حتمية الهروب من هذه العلاقات السامة والمؤذية، ونجد النسويات يطالبن الفتيات بتأجيل فكرة الزواج حتى تستقر دراسياً ووظيفياً، وبعضهن يدعون بشكل صريح للعنوسة كبديل لعلاقات الزواج الفاشلة بعد أن يزرعن الخوف وعدم الأمان في عقول الفتيات وقلوبهن مستشهدات بأبشع القصص لعمل فزاعة للفتيات.

أما الشباب فهو عازف بطريقة مؤلمة عن الزواج، والأمر يتجاوز الظروف الاقتصادية الصعبة؛ فالشباب مسكون بالخوف والقلق، مشغول بتبعات الطلاق، والمتأمل لتعليقات الشباب ومشاركتهم لوسم «زوجة المهندس» يلحظ هذا القنوط من الزواج ومن النساء حتى انتهى المطاف بالبعض بالدعوة للفجور تحت مسمى «المساكنة» للتخلص من سلبيات الزواج التقليدي.

Exit mobile version