خدمة‭ ‬الزوجة‭ ‬لزوجها.. ‬بين‭ ‬العقلية‭ ‬القانونية‭ ‬والحكمة‭ ‬الربانية

د. هالة سمير:

في هذا العصر الذي نعيش فيه تتنوع المؤثرات الخارجية التي تدعونا للتساؤل عن كثير من أحكام الشرع المستقرة عبر القرون حتى نعيد النظر فيها ونخضعها لنوع من المحاكمة العصرية تماشياً مع ما تمليه السياقات الاجتماعية والسياسية والتاريخية المختلفة.

ولا شك أن المراجعة والحرص على اقتفاء الحق إذا ظهر أمرٌ محمود، ولكن لا بد أولاً من امتلاك أدوات الفهم والتفكير الصحيحة للقدرة على البحث، ثم الانتباه للدوافع المندسة والنوازع الخفية التي تختبئ تحت كثير من هذه النقاشات وما وراءها من دعاوى عريضة.

إذا قامت سوق الحقوق بين الزوجين وصار الأمر تعاملاً تجارياً انطفأت الجذوة الربانية وصارت العلاقة باهتة

من النقاشات العصرية ما يتعلق بقضايا المرأة في هذا الزمان، وهي نقاشات مُحمّلة تحميلاً شديداً بالدعاوى العصرية المنادية بتحرير المرأة وإخراجها من السجن الذي فُرض عليها من قديم على يد الذكور في المجتمع، مع التفاوت في شدة هذه الدعاوى وحدتها، وكثيراً ما يقع الانفعال لكثير من النساء بسماعهن هذه النداءات، وكثيراً أيضاً ما يكون مِن تحت هذا الانفعال أنواع من المظالم والإساءات والأذى الواقع على النساء خصوصاً، ما يدفعهن للسقوط خلف كل ناعق ينادي بتحرير القيد وفك الأَسْر ورفع الظلم، إلى غير ذلك من شعارات فخمة خاوية.

وهذه الدعاوى إذا توطَّنت وتمكَّنت من نفوس النساء (أو الرجال) فإنها توقع الإنسان في حرج أمام طائفة من النصوص الشرعية التي لا تتناسب مع وجهة النظر العصرية الذائعة بين جماهير البشر عبر أبواق الدعاية الغربية وغيرها؛ فيلجأ الإنسان -إن كان فيه خير- إلى التساؤل والتشكك في معنى وثبوت هذه الأحكام، ويُدرك بوضوح وجود إشكال أمامه في هذه القضية، وربما اتجه إلى إنكار هذه الأحكام وتحريفها حتى ينتهي به الأمر إلى حال هو أشبه بإنكار الدين جملة والعياذ بالله.

ومن العبث العلمي أيضاً وقلة الجدية في التعامل مع أي علم من العلوم أن يدخله الإنسان وهو في ذهنه هدف معين أو قضية واضحة النتيجة عنده؛ فيلجأ إلى استخراج ما يدعمها من ذلك العلم، ونفي وإنكار ما يعارضها؛ فهذا من قلة الأمانة المبنية على حالة من عدم المبالاة بالحق والاستخفاف بشأن الحقيقة، فهي مجرد محاولة عاطفية لإرضاء الذات عمّا تراه، دون إتعابها بعض الشيء لمحاولة الوصول إلى حقيقة الحال، وهذا كثيراً ما يقع للأسف في تعامل أهل هذا الزمان مع النصوص الشرعية التي يجدون الواقع الذي تلبسوا به قلقاً في إنزالها عليه.

ثنائية صراعية

بالرجوع إلى قضية المرأة، فإن السياق المعاصر المتأثر بالدعاوى النسوية المذكورة يفرض على كثير من النساء الإيمان بثنائية صراعية بين جنس الذكور وجنس الإناث فرضاً ليس معه ولا وراءه تردد ولا تفكير في الحل، وكأنها معركة حتمية لازمة لا مفر من خوضها في هذه الحياة، وعلى كل طرف أن يجاهد في سبيل الخروج بأقل الخسائر! ولا يخفى ما تحت هذا الاعتقاد من أصول فكرية مادية بل إلحادية أحياناً تخفى على أصحابها، وذلك أن حصر الإنسان في بُعدٍ حيوانيّ قائم على الصراع ومنازعة القوة، واعتبار القوة والسيطرة المحرّك لهذا العالم ولا شيء من ورائها، وأن السعي للقوة الغاية اللازمة لكل إنسان؛ كل هذا فكرٌ مادي سوداوي يُبعد الأخلاق عن الصورة، ويبعد الدين، ويبعد باللزوم الإله أيضاً؛ فلا شيء أعلى ولا شيء أسمى.

ومن العجيب أن الله تعالى ختم آية من الآيات المركزية في مسألة الصراع بين الذكر والأنثى (وهي آية النشوز في سورة «النساء») بقوله سبحانه: (إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً) (النساء: 34)، وكأنه سبحانه يُذكر بتلك العلوية والاستعلاء والقدرة والقوة التي تحيط بالبشر الضعفاء؛ ما يُحتم عليهم إن عقلوا أن يخشوا نقمته ويتقوا غضبه، ولا يستكبروا ويطلبوا العلو على كل ضعيف، وهذا هو الاختلاف بين الأصل الديني في علاقات البشر والأصول المادية الإلحادية التي تتسرب إلى الأفكار دون أن يدري أصحابها شيئاً عن ذلك.

يقول الإمام الطبري في تأويل هذا الجزء من الآية الكريمة: «إن الله ذو علو على كل شيء، فلا تبغوا أيها الناس على أزواجكم إذا أطعنكم فيما ألزمهن الله لكم من حق سبيلاً لعلو أيديكم على أيديهن، فإن الله أعلى منكم ومن كل شيء، وأعلى منكم عليهن، وأكبر منكم ومن كل شيء، وأنتم في يده وقبضته، فاتقوا الله أن تظلموهن وتبغوا عليهن سبيلاً وهن لكم مطيعات، فينتصر لهن منكم ربكم الذي هو أعلى منكم ومن كل شيء، وأكبر منكم ومن كل شيء».

فإذا فهمنا هذا اتضحت عندنا بوصلة النظر في هذه الأمور بتذكر مركزية الإله أولاً، وأنه هو العلي الكبير، وهو الحَكَم الذي قوله الحق، وعرفنا القصة الصحيحة لهذا الخلق لا القصص المزيفة المُختلقة التي يبثها أهل الباطل في العقول عن تاريخ الصراع واستعباد الرجل للمرأة كما يسمونه، فالله تعالى يقول: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا) (الأعراف: 189)، فمن نُصدق؛ خالق الكون، أم المفسدون في الكون؟

الفقه في باب الزواج موضوع لأوقات التنازع أما حال المسالمة فالأصل التعامل بالحسنى

خدمة الزوجة لزوجها

وبالنظر في إحدى تلك المسائل المذكورة وهي مسألة خدمة الزوجة للزوج، نجد المدونات الفقهية تذكر أن جمهور الفقهاء يرون خدمة الزوجة لزوجها غير واجبة وإن كان الأولى بها فعل ما جرت به العادة، وطائفة من الفقهاء يرون وجوبها؛ فترى بعض أولئك المفتونين يأتون إلى هذه المسألة فينتزعون نحو هذا القول، ويضعونه في سياق أجنبي غريب حتى يجعلوه كأنه دليل على أن المرأة مساوية للرجل في مهامه، وأنه لا فرق بين الزوجين إلى غير ذلك.

والذي ينبغي التنبه إليه -بعيداً عن الصحيح من هذين القولين، فكلاهما قول لأئمة مجتهدين- أن التعامل بمبدأ الواجب وغير الواجب، ذلك التعامل القانوني المتحفظ، هو مما لا تقوم به حياة؛ فإن من مقاصد الزواج الكبرى قيام تلك المودة والسكينة بين الأزواج، فإذا قامت سوق الحقوق بينهم وصار الأمر تعاملاً تجارياً بحتاً انطفأت تلك الجذوة الربانية وصارت العلاقة باهتة لا حياة فيها، والأصل أن الفقه في هذا الباب ومثله من أبواب العقود إنما هو موضوع لأوقات التحاكم والتنازع، أما حال المسالمة والمسامحة فالأصل التعامل بالحسنى، وهذه هي الأخلاق التي تقوم بها الحياة، لا أخلاق بخلاء التجار، ولا تُتصوَّر حياة بمثل هذه الأخلاق نعوذ بالله منها.

ومتى صدّقت المرأة أو صدّق الرجل أنه يدخل صراعا بهذه العلاقة، فإن هذه العقلية القانونية المسمومة تبدأ في الاستحواذ عليهما، ولكن متى فهم مراد ربه من خلق زوجته وفهمت مراد ربها من خلق زوجها كان الأصل هو التعامل بالإحسان والإكرام والمسامحة في الحقوق كعادة أهل الكرم من الأنبياء والصالحين عليهم السلام، وليتأمل الإنسان سيرة النبي صلى الله عليه وسلم كيف كان مع أهل بيته ليعرف أن هذه الأفكار الدخيلة والتعاملات المعاصرة هي أقرب للمرض منها إلى السلامة.

Exit mobile version