راهب العلم والفكر والدعوة.. عبد الحليم أبو شقة (2-2) *

بقلم: أ.د. يوسف القرضاوي

وقد عاش لهذا الكتاب ما يقرب من العشرين عاماً، يقرأ ويبحث ويلاحظ ويسجل، ولا يكتب فصلاً من فصوله إلا عرضه عليَّ لأبدي ملاحظاتي عليه، وفي الغالب كان يأخذ بها أو يناقشني فيها، ولم أكن أنا وحدي الذي يشاوره في ذلك، فهناك أكثر من واحد، ولكنه كان يقول: مراجعتهم مستحبة، ومراجعتك واجبة.

وخرج الكتاب بأجزائه الستة، موسوعة إسلامية معاصرة في قضايا المرأة، وسماه “تحرير المرأة في عصر الرسالة”، يرد بذلك على مؤلف “تحرير المرأة” وهو قاسم أمين، كأنما يقول له: إن المرأة قد حررتها رسالة الإسلام منذ أربعة عشر قرناً.

وكان للكتاب صدى واسع في الأوساط العلمية والإسلامية المختلفة في مصر وفي العالم العربي كله، بل وفي العالم الإسلامي على امتداده، وكتبت عنه المجلات والصحف، وعقدت ندوات بشأنه شاركتُ في بعضها.

وكان الكتاب مفاجأة للكثيرين ممن لم يعرفوا مؤلفه من قبل عن كثب، أما الذين عرفوه فقد علموا أن الشيء من معدنه لا يتغرب؛ (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ) (الأعراف: 58).

وبعد صدور الكتاب لم يألُ الأستاذ، رحمه الله، جهداً أن يستمع إلى ملاحظات القرَّاء والدارسين، وأن يسعى بنفسه إلى كل من عنده ملاحظة على الكتاب ليناقشه فيها، وهو مستعد –إن ظهر له الحق– أن يرجع عن رأيه راضياً كل الرضا، وهو صادق في ذلك فيما علمته عنه.

وكم أسف، رحمه الله، أن الإخوة السلفيين رفضوا كتابه رفضاً كلياً، وحاول أن يلقى بعضهم ليحاورهم في المسائل التي يخالفون فيها، فأبوا أن يلقوه مجرد لقاء، وأن يسمحوا بمجرد قراءة الكتاب، وقد علق على ذلك الشيخ الجيل علي الطنطاوي بأنهم بهذا يرفضون القرآن والبخاري ومسلماً، فليس في الكتاب أكثر من هذا.

وبلغه أن أحد الإخوة من العلماء والدعاة المعروفين لديه ملاحظات على الكتاب، فأرسل إليه يطلب لقاءه أين شاء، ومتى شاء ليستمع منه إلى ملاحظاته، وكان ذلك في هذا الصيف، ويبدو أن هذا اللقاء لم يتم.

واقترح عليه كثيرون أن يختصر الكتاب حتى يسهل على الكثيرين اقتناؤه وتسهل قراءاته أيضاً، ففعل ذلك وأخرج منه ثلاثة أجزاء، وأحسب أن الأجزاء الباقية مهيأة للطباعة، والله أعلم.

ولكنه في لقاء قريب معي قال: إن هذا الاختصار في حاجة إلى اختصار أيضاً، ليخرج كل جزء في رسالة صغيرة.

ولعل بعض أحبائه وتلاميذه –ومنهم الأخت هبة رؤوف– يقوم بهذا الأمر، ويحقق للفقيد أمله في قبره، رحمه الله.

كان يقول: أريد أن أنهي موضوع المرأة وأغلق ملفه إن أمكن، لأتفرغ للقضايا المهمة الأخرى، وخصوصاً قضايا الدعوة الإسلامية، والحركة الإسلامية، وعنده فيها أشياء وأفكار وأطروحات بعضها مكتوب في صورة مسودات، وبعضها خواطر قد تكون مرتبة أو متناثرة في القرطاس، أو أفكار مركوزة في الرأس.

وقد عرض بعض هذه المسودات على عدد من إخوانه، وأنا منهم، كما عرض بعض هذه الأفكار في مركز الدراسات الحضارية، وقد ناقشناه فيها وطلبنا إليه أن يعرضها بصورة أوسع، وبعد دراسة أعمق، في ندوة أكبر تعقد بعد ذلك، فوعد بذلك.

ومن هذه الأفكار: أن شمول الفكرة لا يستلزم شمول الحركة، وأن من الخير للحركة الإسلامية أن تتفرغ للعمل الدعوي والتربوي وتحسنه، وتعمل على إنشاء الجيل المؤمن المنشود حقاً، وأن يقوم بالسياسة حزب ولاؤه للإسلام، تؤيده الحركة ولكنها ليست مسؤولة عنه، فإن للسياسة رجالها، والدعوة والتربية رجالها، وكل ميسر لما خلق له.

المهم أن الرجل كان رجل إصلاح وبناء، وكان عقله ولوداً، يلد الأفكار الإيجابية البناءة، وكان عنده من الإرادة والصبر والمتابعة ما يجعله يجتهد في نقل الأفكار إلى أعمال، وكان لا يسمع بفكرة جيدة إلا شجع صاحبها، ولا يقرأ مقالة أصيلة في مجلة إلا كتب لصاحبها يشد على يديه، وربما ذهب لزيارته في بيته وهنأه على مقالته، وسأله المزيد والاستمرار في هذا الاتجاه.

ولا يسمع بشاب نابه ذي فكر ورأي إلا فتح له بيته ومكتبه، وفتح له صدره وقلبه، وقد يساعده مادياً إن احتاج إلى مساعدة دون منٍّ ولا أذى، بل دون أن يعلم بذلك أحد.

وكان جهده غير المنظور وراء البيان الذي أصدره د. أحمد كمال أبو المجد، معلناً فيه عن ميلاد تيار إسلامي جديد، له توجهاته وخصائصه، وقد ترك بصماته عليه في أكثر من موضع، وأشار إلى ذلك صائغ البيان، حفظه الله، وإن لم يذكر أسماء.

وكان من مظاهر اهتمامه بالعمل الفكري العمل على تكوين جمعية رسمية تتفرغ لهذا الأمر، وتعطيه حقه من الوقت والجهد والتأمل والدراسة، وتجمع صفوة المهتمين بهذا الأمر، وهي التي تقوم ببحث القضايا الكبيرة التي تفتقر إليها الحركة الإسلامية في مسارها، فهي تأخذها مدروسة مبلورة مصفاة، وعليها تبني سياساتها وقراراتها، وتعد مناهجها وأنظمتها.

كما أنها تبصر الأمة في قضاياها المصيرية، وتعمل على توحيد المفاهيم الكبرى ما استطاعت، وقد جمع لهذه الجمعية عدداً من المؤسسين من رجال العلم والفكر المشغولين بهموم الأمة، ومسيرة الدعوة، واجتهد أن يحصل على تصريح بإقامتها في مصر، فلم يوفق، فذهب إلى أمريكا وأوروبا حتى استطاع أن يسجلها في باريس باسم “جمعية تجديد الفكر الإسلامي”، على ما أذكر، وكان يبذل لهذه الجمعية من ماله وجهده، دون أن يذكر ذلك لأحد.

وقد كان يشغله أمر هذه الجمعية وتنشيطها إلى حد كبير، وتحدث معي في ذلك، ومع الأخ د. أحمد العسال، ومع أ. فهمي هويدي، ود. سيد دسوقي، وكثير من مؤسسي الجمعية، وقد زارني قبل رحلتي الأخيرة إلى أمريكا في أول سبتمبر من أجل هذه القضية خاصة.

قال: لا بد أن تضع يدك في يدي لنعمل على تنشيط الجمعية، حتى تقوم بواجبها وتحقق ما نرجوه منها، ولا بد أن يفرغ لها بعض الرجال القادرين تفريغاً كاملاً، وبعضهم نصف تفريغ، وبعضهم قَبِل، وبعضهم يحتاج إلى سعي لإقناعه، وأشار إلى بعض الأسماء المرشحة وقال: بدون التفريغ لن تنهض الجمعية بالعبء المنوط بها، ووعدته أن أتابع الموضوع بعد العودة من رحلة أمريكا.

ولقد كان ينتهز فرصة الإجازة الصيفية وحضوري وأمثالي إلى القاهرة لنلتقي باستمرار، ونتحدث في مشروعات المستقبل، وبخاصة ما يتعلق بالفكر والتربية والثقافة.

وفي هذه الإجازة كانت عنده مشروعات طموحة، وآمال كبيرة وأفكار حية، جلسنا عدة مرات نتجاذب أطراف الحديث حولها، وإن كانت المتاعب الصحية قد بدأت تقلقه أكثر من ذي قبل.

وكان أهم ما يميزه هو روح التفاؤل والأمل التي لا تفارقه، وبالرغم من جؤارنا وصراخنا من الضربات الهائلة التي تكال للصحوة الإسلامية، ورغم المكايد الجهنمية التي تكاد للحركة الإسلامية، ورغم الهجمة الشرسة التي هجم بها على الأمة الإسلامية من شمال وجنوب ومشرق ومغرب، ورغم ما يعانيه الإسلام من جهل أبنائه، وعجز علمائه، وكيد أعدائه، وفساد أمرائه، وشح أغنيائه، رغم هذا كله كان يقول: لا تحزن ولا تقنط، إن الصحوة غدت حقيقة واقعة، وإن أحداً لن يستطيع أن يطفئ الشمس؛ (وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ) (التوبة: 32)، يقول ذلك بثقة الموقن، ويقين الواثق، فتنتقل إليك الطمأنينة وتحل في قلبك السكينة.

ومع هذا كان يحس بأن المنظمة كلها مقبلة على مرحلة من أخطر مراحل التاريخ، وأن الأمة في حاجة إلى أن تجتمع كل قواها لتواجه الخطر، وأن الخلافات الأيديولوجية لا ينبغي أن تنسينا الوقوف في وجه هذا الخطر الزاحف بل الماحق، وإن كل عمل لتقريب القوى الوطنية بعضها من بعض مطلوب شرعاً في هذه المرحلة، وقال: وأنا أستخدم تعبيرك هنا “فريضة وضرورة”، قلت له: أنا أؤيد هذا، وقد شاركت في المؤتمر القمة الإسلامي الذي عقد في بيروت في أكتوبر 1994م، كما شاركت في بيان لجنته التحضيرية من الجانب الإسلامي.

وكان من الأفكار التي طرحها، رحمه الله، عقد ندوة صالون ثقافي يجمع بين الإسلاميين والقوميين والليبراليين وغيرهم من كل حريص على مصلحة الوطن ومصير الأمة، وكان قد اقترح على د. أحمد كمال أبو المجد أن يتبنى هذه الفكرة، وأن يكون ذلك في بيته، ولكنه قال: إن مشكلة د. أبو المجد هي مشاغله وأسفاره التي لا تكاد تنتهي، واقترحت عليه أن تعرض الفكرة على د. محمد سليم العوا فبيته مناسب، وقد استقبل مثل هذا اللقاء قريباً فيه، فقال: إنه عرضها على أ. فهمي هويدي، ورحب بها، ومن دقته المعهودة زار بيت أ. فهمي وأراه المكان ومدى سعته، ورآه مناسباً، ولم يبق إلا التنفيذ، وهذا عرفته من أ. فهمي.

وبعد عودتي من أمريكا زارني، رحمه الله، في المنزل، فوجدني متوعكاً، فقد أصبت بنزلة برد في أمريكا ما زلت أعاني من أثرها، فلم يطل المكث معي، وخرج على أن نلتقي بعد، فلم يقدر لنا اللقاء.

ولكن بعد يومين كلمني من منزله وقال: إنه قرأ فصل “اللهو والفنون” من كتابي “ملامح المجتمع المسلم الذي ننشده”، ولم يكن يحسبه بهذا المستوى من النضج والرشد والتأصيل، وأنه يوافق كل الموافقة الإخوة الذين اقترحوا أن ينشر في رسالة مفردة، فهو نفسه لم يلتفت إليه ضمن الكتاب الذي يبلغ أربعمائة صفحة، بل إنه يرى اتباع هذا الأسلوب مع كل القضايا المهمة في الكتب الكبيرة، بحيث تفصل في رسائل صغيرة الحجم، ورخيصة الثمن.

كانت آخر وصاياه لي في هذه المكالمة: لا تدع الكلمة الرشيدة تكتبها، ولا الكلمة تلقيها، فمن الناس من يقرأ ولا يسمع، ومنهم من يسمع ولا يقرأ، ولا بد أن تصل الكلمة الرشيدة إلى الفريقين، وهذه رسالتك أعانك الله عليها.

ثم كانت آخر مكالمة له، أنه طلب مني نسخة من شريط المحاضرة التي ألقيتها في دار الحكمة عن المشروع الحضاري لأمتنا، وهو مكون من ثماني نقاط، وقد أعقبته مناقشات طويلة، ورددت عليها، بحمد الله، ردوداً مقنعة، وكان مشغولاً بأمر المشروع الحضاري، ويريد أن يجمع كل ما يُقال أو يُكتب فيه، كم ألحَّ في طلبه، ووعدته بالفعل أن أحضر له الشريط، وكلفت بعض الإخوة بذلك، ولكن قدر الله كان أسرع فهوى النجم، وانطفأت الجذوة، وحال الأجل دون الأمل، ولقي الرجل ربه راضياً مرضياً، إن شاء الله، ولا نزكي على الله أحداً، ولا نتألَّى على الله، ولكن نشهد للرجل، أنَّا لا نعلم عنه إلا خيراً، بل نعلم عنه من الخير الكثير، وهذا ما يشهد به كل من عرفه، فقد كان رجل صدق وإخلاص، في تعامله مع ربه، وفي تعامله مع أسرته، وتعامله مع إخوانه، وتعامله مع الناس أجمعين، يتحرى الحق، ويبحث عن الحلال، ويتجنب الحرام، ويتقي الشبهات استبراء لدينه وعرضه، ويهمه الآخرة قبل الدنيا، والدين قبل الطين، ورضا الخالق قبل رضا الخلق.

وقد روى أحمد، وأبو يعلى، وابن حبان في صحيحه، والحاكم، عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ما من مسلم يموت فيشهد له أربعة من جيرانه الأدنين أنهم لا يعلمون عنه إلا خيراً، إلا قال الله تعالى: قد قبلت علمكم فيه، وغفرت له ما لا تعلمون”.

اللهم قد قلنا فيه ما نعلم، فاغفر له ما تعلم ولا نعلم، وأجرنا في مصيبتنا فيه، وأخلفنا فيه خيراً، وأخلفه في أهله وولده بخير ما تخلف عبادك الصالحين.

أما أنتم يا إخوان عبد الحليم وتلاميذه فأقول لكم: إن الأفكار والآمال لا تموت بموت أصحابها، وحق عبد الحليم عليكم أن تتبنوا أفكاره، وتحققوا أحلامه ولا تدعوها تموت، بذلك توفون للرجل حقه، وتبرّونه بعد موته، وتضيفون إلى عمره عمراً آخر، وهذه يدي في أيديكم، والله معكم ولن يتركم أعمالكم.

وأملي من بعض الخلص من تلاميذه: أن يبحثوا في أضابيره وأوراقه ومسوداته، بمساعدة أهله، وأن يضموا متفرقاتها ويجمعوا شتيتها، فعسى أن يجدوا فيها من الأفكار والأطروحات ما يستحق أن ينشر على الناس.

غفر الله ورحمك يا أبا عبد الرحمن، أيها الأخ الحبيب، والصديق الكريم، والمسلم العظيم، وتقبلك في الصالحين، وجزاك عن دينك وأمتك خير ما يجزى به العلماء العاملون، والدعاة الصادقون، وإنا لله وإنا إليه راجعون.


* العدد (1170)، ص46-47 – بتاريخ: 15 جمادى الأولى 1416ه – 10/10/1995م.  

Exit mobile version