راهب العلم والفكر والدعوة.. عبد الحليم أبو شقة (1-2) *

بقلم: أ.د. يوسف القرضاوي

(مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) (الأحزاب: 23)، صدق الله العظيم.

فقدت الحركة الإسلامية والصحوة الإسلامية، بل الأمة الإسلامية، أحد الرجال الأفذاذ الذين عاشوا حياتهم لله تعالى، ونذروا أنفسهم ومواهبهم وملكاتهم لله سبحانه، ولنصرة دينه والنهوض بأمته من الذين آثروا أن يعملوا في صمت، ويبنوا في هدوء، ويشاركوا في صنع التاريخ بعيداً عن الصخب الذي يصك الأسماع، والبريق الذي يخطف الأبصار، ونصب أعينهم قول الله تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {162} لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (الأنعام).

إنه أبو عبد الرحمن الأستاذ عبد الحليم محمد أبو شقة، الذي وافاه أجله صباح الإثنين 23 ربيع الآخر 1416هـ/ 18 سبتمبر 1995م.

لقد عرفته عن قرب، فعرفت فيه مجموعة من المكارم والفضائل، قلَّ أن تجتمع في إنسان، إلا من خصَّه الله بفضله.

عرفت فيه رجلاً سلفي العقيدة، نقي الإيمان، لا تعرف الخرافة ولا الشركيات إلى عقله سبيلاً.

عرفته سُني الطريقة، ملتزماً بالسُّنة في عباداته وآدابه في نفسه وأهله، بعيداً عن البدع والمحدثات، فكل بدعة ضلالة.

عرفته رباني الأخلاق والسلوك، فهو قوي المراقبة لربه، شديد المحاسبة لنفسه، طويل الوقوف بين يدي مولاه، يطيل الركوع والسجود والتسبيح تلذذاً بالمناجاة.

ومع هذا يرى أن الإسلام ينكر الرهبانية المبتدعة، والصوفية المنحرفة، ويقرر أنه ليس هناك تعارض بين الطموح إلى السمو الروحي وتناول متع الحياة الدنيا المشروعة، بل هناك تكامل وتوازن.

عرفته عن قرب واتصال وثيق بين أسرتي وأسرته، فعرفت فيه الزوج الكريم مع أهله، والأب البار بأولاده، والقريب الوصول لقرابته، والجار المحسن إلى جيرانه، والأخ المؤثر لإخوانه، والوطني الغيور على وطنه، والعربي الحريص على عروبته، والمسلم الصادق في إسلامه، والإنسان الكريم في إنسانيته.

عرفته رجلاً سليم الصدر لا يحقد على أحد، ولا يضمر لأحد غلاً ولا شراً، عف اللسان، لا ينطق بكلمة فحش لا جداً ولا هزلاً، ولا يذكر أحداً بسوء لا حضوراً ولا غيبة، سخي النفس لا يضن بجهد ولا مال في سبيل الحق الذي يؤمن به، حيياً يخجل من أي نكتة خارجة، ويحمرّ وجهه خجلاً من أي كلمة منكرة، يهوى النقاش العلمي ويسعى إليه ويحرض عليه، ولكنه لا يطيق جو المراء والجدل ولدد الخصومة، وإذا سخن الجو في معركة جدلية آثر الانسحاب.

مربياً بالفطرة والدراسة والخبرة، يحمل أبداً روح الأبوة الحانية والإيجابية البانية، والأستاذية الهادية، مجاهداً في سبيل الحق والخير والهدى، لا يدخر وسعاً ولا يبخل بجهد ولا بنفس ولا مال لنصرتها، ذا ملكة نقدية تكتشف العوج بيسر، وتلاحظ الخطأ بسهولة، ولكنها تحاول العلاج وتجتهد في التقويم.

متسامحاً سهلاً، هيناً ليناً، يكره العنف، وينكر الغلظة والفظاظة، ويدعو بالحكمة والموعظة الحسنة، ويجادل بالتي هي أحسن، ويؤمن بالتفاهم والحوار مع الآخر، أياً كان خلافه في السياسة أو الفكر أو العقيدة، ويعجبه أسلوب الجماعة الإسلامية في باكستان في رفضها الإستراتيجي للعنف بأي طريق.

وهو مع هذه السماحة والسهولة يحمل قلباً يشتعل غيرة على دينه ووطنه وأمته، وعقلاً يتوهج تفكيراً في مخارج لها من أزمتها، وإرادة صلبة لا تلين في مواجهة الباطل.

لقد عرفت الأستاذ عبد الحليم اسماً منذ ما يقرب من نحو نصف قرن، ثم رأيته وجهاً من أكثر من أربعين سنة في منزل العلاَّمة الأستاذ محمود محمد شاكر، وقد كان يلقي بعض الدروس على نخبة من شباب الحركة الإسلامية، ولم يكن إلا اللقاء والمصافحة.

ثم عرفته عن كثب منذ أن أعرت إلى قطر عام 1961م، وكان قد سبقني إليها بسنوات، فهو من الرعيل الأول الذين أسهموا في تأسيس النهضة التعليمية في قطر، في رحاب الدوحة الفيحاء تعارفنا وتآلفنا نحن وزوجاتنا وأولادنا، ولكما مضى الزمن ازدادت صلتنا توثقاً، كنا نلتقي باستمرار هو، رحمه الله، والإخوة أحمد العسال، وحسن المعايرجي، ومصطفى الأعظمي، وانضم إلى المجموعة بعد عودته من لندن د. عز الدين إبراهيم، نلتقي لنتشاكى هموم الأمة، ونتدارس شؤون الفكر، وشجون الدعوة، ومسائل الساعة، وقضايا المصير.

وكان عبد الحليم أبداً الرجل الهادئ الحكيم الذي يحمل الأمل في ساعة اليأس، ويبشر بالفجر في حلكة الليل، ولا ييأس من روح الله أبداً، وهو الرجل المتمسك بالحق لا يحيد عنه، ولا يبيعه بالباطل، بفتوى يفتيها لنفسه، بل كان –مع تسامحه مع الناس– شديداً على نفسه.

زارنا في أوائل الستينيات في الدوحة الداعية الكبير أبو الحسن الندوي، وجلسنا معاً جلسة روحية دعوية أخوية شفافة، وكان فيما قاله لنا: إنه نصح أحد الدعاة المشاهير في ذلك الوقت أن يتجنب الطريق التي يسلكها فإنها خطرة، وقال الشيخ: لقد قلت له: ابتعد عن هذه المركب، فإنها ستغرق، وهنا قال الأخ عبد الحليم: وهب يا أستاذ أن هذه المركب ستغرق، هل ركوبها صحيح ومشروع في الأصل أو لا؟

وهنا عرفت أن هذا الرجل رجل مبادئ وقيم، وليس رجل مكاسب ومصالح.

ولقد كان مديراً لمدرسة الدوحة الثانوية، وكان معه أحد إخواننا المعلمين الأكفاء، فكان تقريره عنه: أنه رجل بناء، لا يجد فكرة تبني وتنشئ إلا تبناها وتعهدها، واجتهد بعقله وعزمه أن يحولها إلى عمل مشهود، وواقع ملموس.

وأشهد أن هذه الكلمة التي شهد بها هذا الأستاذ أصابت كبد الحقيقة، وأنها توصيف لشخصية الرجل، الذي عاش عمره يحاول أن يبني ولا يهدم، وأن يجمع ولا يفرّق، وأن يقوي ولا يضعف.

لقد نشأ في قلب الحركة الإسلامية الأم –حركة “الإخوان المسلمون”– وتتلمذ مباشرة على إمامها ومؤسسها الشهيد حسن البنا، جلس إليه، واستمع منه، وصحبه وسأله وأجابه واقترب من كبار الإخوان، ودخل في النظام الخاص، واتُّهم في بعض قضاياه، ودخل السجن، وأصابه ما أصابه من التعذيب، ولا غرو أن كان لديه رصيد غير قليل من التجربة في العمل الحركي، وأهميته وثماره ونواقصه أيضاً، وقد شكا إلى مرشده الأستاذ حسن البنا في أواخر حياته ما يشعر به من أن التنظيم الخاص يشكو الجفاف الروحي، وأنه في حاجة إلى دفقات روحية لترطيب هذا الجفاف، وأقره الأستاذ على قوله، ووعده خيراً، ولكن الأحداث كانت أسرع، والقدر كان أعجل؛ (إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاء لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) (نوح: 4).

كان الفقيد، رحمه الله تعالى، يعيش في دولة قطر، طيب العيش، هادئ البال، مستقر الحال، في مركز جيد، وبمرتب جيد، فقد كان مديراً للمدرسة الثانوية الوحيدة في ذلك الوقت، وكان موضع التجلة والتقدير من الجميع، ولكنه عزم وصمم على الاستقالة من عمله وتغيير مسار حياته، فالعمل الوظيفي يستهلك وقته وجهده، وهو في حاجة إلى هذا الوقت وهذا الجهد للعمل العلمي، إنه يريد أن يتحرر من أعباء الوظيفة ليفرغ لأعباء الفكر، وما ادَّخره من مال في تلك السنوات التي عملها في قطر يمكن توظيفه في عمل حر مناسب يشرف عليه، ولكن يكله إلى من يقوم بإدارته، وكان هذا العمل الذي اختراه قريباً مما شغل به نفسه، هو “النشر”؛ فأنشأ “الدار الكويتية” للنشر، ثم رأى أن يسميها “دار القلم”، واختار الكويت مقراً لها في أول الأمر، لما فيها من الانفتاح والتحرر والنشاط الثقافي، ثم لما استنشقت مصر أنسام الحرية في أوائل عهد الرئيس السادات، رأى أن الأولى به المقام بمصر، فهي مصدر التأثير في العالم العربي، بل العالم الإسلامي كله.

كان الناس يستغربون من تصرف هذا الرجل، الذي ترك الوظيفة المرموقة والمرتب المغري في الخليج في حين يلهث الكثيرون وهنا وهناك في سبيل الحصول على موضع ما في تلك البلاد!

ولكن صاحب الرسالة يفكر في غير ما يفكر فيه العامة من الناس، على أن الله قد عوَّضه بالعمل الحر خيراً؛ (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً {2} وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) (الطلاق).

كان أعظم ما يشغله تقويم الفكر، وتصحيح المفاهيم، وتكوين حركة عقلية ناقدة داخل الحركة الإسلامية، وكان هذا ما يثيره مع إخوانه المقربين منه كلما جلس إليهم أو جلسوا إليه، وكان ما يهمه أكثر هو الآليات التي يحقق بها هذا الهدف الكبير.

وكان من الوسائل التي انتهى إليها تفكيره مع مجموعة خاصة من إخوانه؛ إخراج مجلة فكرية عصرية ذات مستوى رفيع، تهتم بمشكلات الأمة، وقضاياها الكبرى، وأزمة الفكر الإسلامي والحركة الإسلامية من منطلق الشريعة والنظرة الإسلامية الأصيلة، وفي ضوء اجتهاد عصري، لا يتعصب لقديم، ولا يتعبد لجديد.

كانت هذه المجلة هي التي تمثلت في “المسلم المعاصر”، فهو في الحقيقة الأب الأول لفكرتها، الذي لم يزل يدعو إلى اجتماع بعد اجتماع في بيروت وفي الكويت وفي غيرهما، حتى خرجت إلى حيز الوجود.

وكان له في أعدادها الأولى إسهام قوي مباشر، عرفه الناس من خلالها صاحب قلم حر، وفكر مستقل، وعقل نقاد، كما يتجلى ذلك في مقالتيه عن “أزمة العقل المسلم المعاصر”، وعن “أزمة الخلق المسلم المعاصر”.

ولخلاف في سياسة التحرير مع رئيس التحرير ترك المجلة لأخيه وصديقه د. جمال الدين عطية؛ لأن من طبيعته ألا يعمل إلا في جو صاف من كلال خلاف.

وقد بدأ يكتب في عدة اتجاهات؛ أفكاراً وخواطر متناثرة حول “التربية”، وحول “الحركة الإسلامية”، وحول “العمل الفكري”، من منظوره الإسلامي، ومن منطلق المعاناة والشعور بالنواقص والعوائق، والتطلع إلى الكمال.

ثم بدا له موضوع “المرأة” وما آل إليه أمرها بين الإفراط والتفريط، أو بين جاهليتين:

1- جاهلية التقليد الأعمى للآباء، وخصوصاً في عصور التخلف الحضاري، والانحراف عن الإسلام.

2- جاهلية التقليد الأعمى للغرب، التي تريد أن تذيب الحدود بين الرجل والمرأة، وبين الحلال والحرام، وحاجة المرأة إلى التحرر من ربقة الجاهليتين معاً، والعودة إلى الإسلام الصحيح، أي إلى الكتاب والسُّنة لمعرفة هدي الله، ثم تنزيل هذا الهدي على الواقع المعاصر، حتى يستقيم أمر الله، وهذا هو التجديد المنشود في قضايا المرأة.

ولقد استغرق هذا الموضوع كل جهده وفكره ووقته، وطفق يراجع فيه كتب السُّنة جميعها؛ فوجدها بحراً زاخراً، فاكتفى بالصحيحين، ووجد فيهما –مع القرآن الكريم– ضالته التي ينشد، لا يأخذ من غيرهما إلا أحياناً.


* العدد (1169)، ص48–49 – بتاريخ: 8 جمادى الأولى 1416ه – 3/10/1995م.  

Exit mobile version