العلم بين “الفهلوة” والسلفية المزيفة (4 – 7)

 

بداية، نتساءل: إذا رأيت جسماً دائرياً من مسافات بعيدة مثل القمر والشمس، فهل يعني هذا أن شكل هذه الأجسام الدائرية مربعة، أو مستطيلة، أو شكلها معين أو مثلث مثلاً؟ أعتقد أنه من الجنون أن نقول ذلك، فهي دائرية شكلاً من المسافات البعيدة إذاً هي كروية بديهة، وخصوصاً إذا تأملنا في الآيات الآتية: (وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ {3} وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ) (الانشقاق)، شكلها للعين دائري، وإذا مدت في نهاية الحياة تلقي ما فيها، وهو دليل أن لها سمكاً كبيراً، والسمك مع الدائري يعني يشكل شكلاً كروياً، والحجم الكروي السميك حينما يُمد طبيعياً يُضغط فيلقي ما في جوفه ويتخلى عنه من أجل الامتداد واتساع الحجم سطحياً.

وهذه آيات تؤكد كروية الأرض، قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الرعد: 3)، لو كانت الأرض ممدودة ومسطحة وغير كروية وهي ممدودة كما يتصورها أدعياء المسطحة والله لانتقدت العرب وأهل البلاغة القرآن، ولكنه سبحانه يتضمن معنى ضمنياً علمياً يحتاج إلى الزمن والوقت حتى يدركه الإنسان من خلال تجاربه واكتشافاته، وإن فهمها الإنسان في العصور السابقة فهماً ظاهرياً سطحياً ولكن مضمونها فيه العلم المختزل، فسبحان الله جعل الأرض أينما تكون فيها تراها ممدودة ومبسوطة، وهذه هي البلاغة والعظمة العلمية من الخالق التي يراعي فيها عقل المخلوق الناقص على مر العصور وتطور هذه العقول لتبهرها إلى قيام الساعة!

أما الآية الثانية ومثيلاتها أثبت الله تعالى فيها الحركة والكروية والخصوبة، قال: (وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) (ق: 7)، اختزل الحركة والكروية إثباتاً بالمحسوس الملموس (وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) حجة وإثباتاً للعقلاء، فمن ينفي الكروية والحركة يجب أن ينفي الخصوبة المقرونة بهما.

و”المد” هنا “مددناها” دليل الكروية، حيث المد الذي لا ينتهي كما أسلفنا، وقال: (وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ)، فالرواسي لا تكون إلا للجسم المتحرك حتى يتوازن بحركته ولا يتفلت بحركة غير متوازنة، وإن لم تصدقوا ذلك فلا تصدقوا أنها خصبة للزراعة والنبت الذي تحسونه وتلمسونه وتعايشونه، وهذا قمة الصغار عقلاً وعلماً وشعوراً.

البعض يدعي المعرفة القطعية الأكيدة، وأنه الذي اكتشف كذب العدو وضحك الأمريكيين على المسلمين بقولهم: “إن الأرض كروية وتتحرك”، وهي ثابتة! وغيرها من أقوال لا يأخذ بها حتى من كان له ولو شيء يسير من الفطنة والكياسة.

كروية الأرض تحدث عنها علماء المسلمين القدماء، بل حتى الحضارات القديمة ما قبل الميلاد تحدثت بذلك، قالت ذلك الحضارة البابلية في العراق، ومنهم أخذت اليونان هذه المعلومات، بل وأكدت اليونان أن جميع الأجرام كروية.

أيضاً العلماء والباحثون المسلمون من قال ذلك، قالها ابن رشد (ت 595هـ)، وهو من أكبر علماء الأندلس، وابن حزم أيضاً أكد أن هناك إجماعاً من علماء الأمة على كروية الأرض، وقد بين ذلك في كتابه “الفصل في الملل والأهواء والنحل”، وأن من ينكر ذلك من العلماء هم قلة، وأكد ذلك بالدليل العلمي من القرآن والسُّنة النبوية، وقال رحمه الله تعالى حول قوله تعالى: (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ) (الزمر: 5)، وأشار إلى أن هذا البيان الواضح في تكوير بعضها على بعض وهو مأخوذ من تكوير العمامة “كور العمامة”.

وكذلك الإمام الذهبي ذكر وأكد ذلك، وقال: إن الأرض كروية، والإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى أكد ذلك وذكره في المنهاج.

يتبع..

Exit mobile version