«أردوغان» في الميزان

إذا كانت الأيام دولاً، فإن الدول أيام، ولا تخطئ عين الناظر أن يوماً للإسلام بزغ فجره، وأشرقت شمسه مع «الطيب أردوغان» ورفاقه الذين بدؤوا معه مرحلة العدالة والتنمية، فلم يكن هذا مجرد لافتة للحزب، وإنما عنوان للمرحلة؛ مرحلة تحقيق العدالة، وترسيخ التنمية، ولا يريد الإسلام أكثر من ذلك ليصبغ المجتمع بصبغته، ويعيد ما اندرس من مسيرته، فإن الحيوية الذاتية داخل الدعوة الإسلامية تترعرع في جو الحرية والعدالة، وفي ظل البناء والتنمية، وهذا ما سعى إليه أردوغان وعمل على تحقيقه، فعاد إلى تركيا وجهها المشرق باختيار الناس وليس بقرار من الحاكم، وتخطى الأمر حدود الدولة التركية إلى مساعدة المسلمين، ومؤازرة المظلومين أياً كانوا.

ولو ضربنا أمثلة من الداخل أولاً سنجد:

1- عودة المساجد إلى دورها وسابق عهدها، والاهتمام والعناية بها، بما يملأ الزائر زهواً وفخراً بعظمة الإسلام في القديم والحديث، فأنت بين عبق التاريخ في مسجد الفاتح، وقمة العمارة والحضارة في مسجد تشامليجا الذي يتسع لأكثر من ستين ألف مصلٍّ، وتتسع ساحاته وملحقاته إلى ثلاثمائة ألف، وقد غصت بالمصلين في إحدى ليالي القدر التي شهدها الرئيس أردوغان في رمضان، وعلى ذكر عودة المساجد، فإن إعادة فتح مسجد آيا صوفيا كان من الآمال التي تحققت على يد أردوغان، وكان قد عبر عن أمنيته هذه على صفحات مجلة «المجتمع» في بداية مشواره السياسي، بل قلت في كلمة ألقيتها في المسجد، إن قرار عودة الصلاة إلى آيا صوفيا في هذه المرة أشد خطورة من قرار السلطان محمد الفاتح بتحويله إلى مسجد؛ لأن الفاتح الأول اتخذ القرار وهو المنتصر صاحب اليد الطولى والكلمة العليا، أما الفاتح الثاني فأخذ القرار في الوقت الذي تترصد له فيه الضباع والذئاب!

إن كل سجدة في مسجد آيا صوفيا الكبير ستكتب في ميزان الفاتح مرة، وفي ميزان أردوغان مرتين.

2- من بركات مدارس الأئمة والخطباء التي تهتم بالتعليم الديني أن خرّجت للأمة جيلاً يهتم بقضاياها، وفي مقدمتهم الرئيس أردوغان، الذي أعاد لهذه المدارس رونقها وما سلب منها مادياً ومعنوياً، ومن جميل ما رأيت أن طلاب هذه المدارس يخرجون منها لأداء صلاة الظهر في المسجد بلباسهم الموحد، فترى مشهداً ملائكياً عجيباً.

3- تجولت في كثير من المحافظات التركية، وكلما ابتعدت عن العواصم المشهورة رأيت وجهاً آخر لتركيا المتمسكة بأصولها، المحافظة على تراثها وجذورها، الفخورة بدينها وتاريخها، وفي إحدى زياراتي لولاية ديار بكر ذات الأغلبية الكردية، وعادتي السؤال عن موقف الناس من الرئيس أردوغان وحزب العدالة والتنمية الحاكم، فقال لي أحد الشباب المثقف: إن أمي إذا رأت الرئيس أردوغان على الشاشة لا تملك دموعها، وتقول: لأنكم لا تدركون ما فعله لنا هذا الرجل! وفي زيارتي لمدينة شانلي أورفا قال لي مسؤول جمعية الدعاة والخطباء الأتراك: إن حزب العدالة والتنمية أرسل لهم استطلاع رأي عن شعبية الحزب والرئيس، فكان رده لو أرسلتم إلينا «جاكيت أردوغان» سيحصل على أغلبية!

ثانياً: لو أخذنا أمثلة على المواقف الخارجية:

1- عادت تركيا في ظل حكم العدالة والتنمية إلى الواجهة في القضايا الدولية والإقليمية، بالإضافة إلى ما يتمتع به الرئيس أردوغان من مواهب شخصية، وحضور ملف وفكر يسمو عن القُطرية إلى الأممية، ولعل موقفه من حصار قطر الذي أُحكمت خطواته دولياً وإقليمياً، يثبت أنه أفشل مشروعاً أُعدت له كل وسائل النجاح، واستطاع أن يمنع جرحاً لو نزف ما اندمل، ولو كانت أهداف الطيب مادية لانضم إلى الجانب الأكثر عدداً وعدة، ومالاً ونفطاً.

2- مما يؤكد انحياز تركيا الجديدة ورئيسها الحالي إلى قضايا العدل ونصرة المظلوم، أن أكبر قاعدة عسكرية لها في الصومال وليس في الخليج، ومن يتابع الشأن الصومالي يرى بداية النهضة، والخطوات الثابتة نحو الاستقرار، وإلى جوار القاعدة العسكرية، وجدت البصمة الإسلامية في المسجد الكبير الذي رفع فيه الأذان الرئيس أردوغان.

3- لو لم يكن من حسنات رجب طيب أردوغان إلا حفظ التوازن في ليبيا ومنع الاقتتال الداخلي، ومساندة مؤسسات الدولة حتى تعبر إلى الاستقرار، لكفاه ذلك فضلاً وأجراً، أما القول بأن ذلك من أجل ثروات ليبيا، فقد أسلفنا أنه وقف ضد من هم أغنى وأقنى، من أجل مبادئه ونصرة حلفائه، ورأينا ذلك في مساعدة أذربيجان في استعادة إقليم كاراباخ المحتل من أرمينيا منذ ثلاثين سنة، ويقف خلفها أمريكا وروسيا، وفرنسا وإيران!

هذه مجرد أمثلة ورؤوس أقلام؛ لأن الأمر لا يتسع له مقال، لكن خلاصة القول: إن الرئيس أردوغان لو لم يكن مهموماً بشأن الأمة ومتعلقاً بآمالها وآلامها، ولو انكفأ على الشأن التركي فقط لعظَّمه الأتراك أكثر من أي زعيم سابق، ولشهدوا له بحق أنه مؤسس تركيا الجديدة بصورتها الفريدة، ولكن قدر الرجل أنه رجل أمة، وهذا ما سمعته من أحد كبار أساتذة السياسة في الجامعات التركية د. محمد العادل، مؤسس أقدم مركز للدراسات الإستراتيجية، حيث قلت في حوار عام: إن الأستاذ عباس العقاد صاحب العبقريات قال: إن لكل شخصية عبقرية مفتاحاً، فما مفتاح شخصية أردوغان؟ فقال: الأمة.

وأختم بما علَّق به الإمام يوسف القرضاوي، يرحمه الله تعالى، لما علم بنبأ الانقلاب العسكري الذي وقع في 15 يوليو 2016، على الرئيس أردوغان، فقال: «والله لن يخزيه الله أبداً؛ فقد نصَرَ المظلوم، وآوى الطريد، وأمَّن الشريد».

أسأل الله تعالى أن يتم على يديه نهضة تركيا ورفعتها.

Exit mobile version