رحلة الحج مع والدتي (1988م) … فيض المشاعر وروعة المواقف في أطهر بقاع المعمورة

د. علي محمد محمد الصلّابي
08 ذو الحجة 1444ه/ 26 يونيو 2023م

نذرتْ والدتي العزيزة (الحبيبة) نذراً لله عزّ وجل أن تحج إلى بيت الله الحرام بمجرد خروجي من السجن، وقد يسر الله الأسباب، وتكفل الوالد الكريم بنفقات الحج، وقد كان والدي قد حج من قبل، أما الوالدة وأنا فلم نحجّ بعد، فهي حجة الإسلام الأولى. وشرعنا في إحضار المطلوب من الأوراق والتكاليف، وقدمناها إلى لجان الحج في مدينة بنغازي، وكان من ضمن المشرفين على لجان الحج أحد الضباط رحمه الله، واسمه محمد الطويل. وذات يوم كنت قرب مسجد (بن كاطو) ومقر البريد، فصليت الظهر في المسجد القريب، فوجدت الأخ الكريم محمد الطويل رحمه الله، فقال لي: غداً سنرفع وثائق الحجاج إلى السفارة السعودية في طرابلس للحصول على تأشيرة الحج، وسأتأكد من أوراقك وأوراق الوالدة.
وبعد ذلك، رجعت إلى البيت، وفي صلاة العصر، وجدت الأخ محمداً، فقال لي: هناك من أخذ أوراقك وأوراق الوالدة وغاب أثرها، وقال لي: سبحان الله! كيف سخرني الله لكم ليتم أمره، وهو يتلو قول الله عز وجل: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً﴾ [الطلاق: 2]. وبالفعل أحضرت له الصور الشخصية والأوراق المطلوبة، وذهبنا معاً إلى مقر لجان الحج، وسافرتْ أوراقنا إلى طرابلس، وتحصلنا على تأشيرة الحج، فما قدّره الله لا يمكن للبشر أن يمنعوه. وحان وقت الرحيل للأراضي المقدسة، وكنا حجزنا عبر السفينة غرناطة.
1- على ظهر الباخرة غرناطة:
﴿بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [هود: 41].
وبعد دعاء السفر: باسم الله، ﴿سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون﴾ [الزخرف:13-14]، “اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى، اللهم هون علينا سفرنا هذا، ‌واطو ‌عنا ‌بعده، اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنقلب، وسوء المنظر في الأهل والمال”.
وفي الساعة السابعة مساءً تحركت الباخرة غرناطة متوجهة نحو بيت الله الحرام، وكانت نظرة الوداع على مشارف مدينتي العزيزة بنغازي، فتذكرت قول رسول الله (ﷺ) عندما غادر مكة، فقال: “والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت”.
ولكن الحنين إلى بيت الله كان أشد وأقوى من الحنين إلى مسقط الرأس، وتبقى مكة المشرفة والمدينة المنورة في شغاف القلب ما دامت الروح تسري في جسدي البالي.
وفي الباخرة العملاقة، تعرفت على الناس وتعرفوا علينا أنا وأخي محسن ونيس القذافي، وكانت معه والدته السيدة أمل شنيب رحمها الله، وأخته ماجدة، وأنا معي والدتي، فكنا أسرة واحدة في رحلة الحج العظيمة. وقد عرف الناس الذين معنا في السفينة بأني قريب عهد بالسجن السياسي، إذ كان هناك من يعرفنا وهناك من تعرَّف علينا، إذ كانت حادثة إطلاق السجناء مدوية في ليبيا، وانتشرت قصيدة الشاعر السوداني الفيتوري:
أصبح الصبح
فلا السجن ولا السجان باق
فرحة نابعة من كل قلب يا بلادي.
لقد خرج السجناء جميعاً، وكانوا حوالي خمسة آلاف سجين سياسي غادروا زنازينهم، كأن ما عانوه من قبل لم يكن إلا حلماً. واستثنى النظام من هؤلاء 100 سجين لهم قصص يشيب لهولها الولدان، وقد ذكر تفاصيل حياتهم كل من الأستاذ علي العكرمي في رواية طريق جهنم، ودبَّجها الروائي والشاعر الأردني أيمن العتوم، وكذلك الرجل الفاضل الأستاذ صالح القصبي، في كتابه: “كأنك معي”.
وفي رحلة الحج، تعاطف معنا كثير من الحجاج الذي كانوا في السفينة عندما علموا بأننا من جماعة “أصبح الصبح”. وبفضل الله سارت الأمور على ما يرام، وكان لدعاء السفر أثر في تلك الرحلة المباركة، وفي تلك الليلة الفريدة من نوعها بعد سنوات السجن المظلمة.
ولقد تبادلت أنا وأخي محسن أطراف الحديث، والذكريات المؤلمة، وقد نسيت في تلك الليلة طعام العَشاء، ودخلت حجرة النوم في السفينة الساعة الثانية عشرة مساء، واستيقظت لصلاة الفجر، وعَيَّن ربّان السفينة القِبلة، وطبعاً كانت القبلة تتغير بخط السير في البحر الأبيض المتوسط.
وفي ظلمة الليل، وتأملي في البحر ونحن في أعماقه على متن السفينة تذكرت يونس (عليه السلام)، وذهب بي التفكير إلى أعماق البحر اللجيّ، وأحداث قصة نبي الله يونس (عليه السلام)، ودعاءه العظيم: ﴿وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ۝ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنبياء: 87، 88].
سبحان الله العظيم! كانت لي تأملات وتدبر في مخلوقات الله وسط الصحراء الكبرى في ليلها ونهارها، ونجومها وقمرها وشمسها وترابها وجبالها حين كنت طالباً في الثانوية العامة، واليوم على متن الفلك المشحون؛ شعرت برهبة وخشية عظيمة لخالقي العزيز الجبار، وبدأت أستحضر الآيات الكريمة. وفي تلك الفترة كان حفظي للقرآن الكريم والقدرة على الاستدلال به من المتع النفسية والروحية والإيمانية، وذلك بالربط بين آيات الله التي نعايشها في الرحلة وكتابه العزيز؛ قال تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ ۝ وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ۝﴾ [إبراهيم: 32، 33].
رأيت القمر وأنا على متن السفينة، وعشت بعقلي ومشاعري ووجداني وفطرتي شروق الشمس، وكأنها تخرج من وسط المياه، وترتفع قليلاً قليلاً، وعشت هدوء الليل؛ سكناته ونجومه وقمره، وانفلاق الإصباح مع سطوع الشمس. وعشت مع قصة خليل الله إبراهيم (عليه السلام) في سورة الأنعام: ﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ ۝ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ۝ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ۝ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: 76 – 79].
إن التأمل والتدبر والتفكر، واستخدام العقل في النظر إلى هذا الكون الفسيح ومخلوقات الله الذي فيه، هي السبيل لتعريف البشر على الخالق العظيم العزيز الحكيم سبحانه وتعالى، وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد. وكأن هذا الكون وما فيه يقول للناس: ﴿هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [لقمان: 11].
كانت رحلة الحج بالباخرة مثيرة وغنية بالأحداث على مستويات عدّة، والاحتكاك بالمواطنين عن قرب، سواء الظالم لنفسه أو المقتصد أو السابق بالخيرات. وكذلك المناقشات والحوارات التي ما زِلت أذكرها؛ من أن بعض الناس متضايق من إحضار أمه معه، أو أنها أصرت على الحج وكان متذمراً، ويقول: إنها مُتعبة له، وذكرت القصة التي أجاب فيها عمر (رضي الله عنه) رجلاً كان برّاً بأمه وحملها على أكتافه، فقال (رضي الله عنه): حملتها وتريد موتها وحملتك وتريد حياتك. وبالعموم، كان الناس يستجيبون لتعاليم دينهم، وإن كانت نسبة الجهل فيه مخيفة.
وفي اليوم التالي للرحلة، تعرضنا لدوار البحر، وحدثت بعض الأعراض البسيطة لعدد من الإخوة والأخوات. وبعد صلاة العصر ألقيت درساً تفصيلياً عن حجّة النبي ﷺ الموثقة بالسنة النبوية والأحاديث الصحيحة؛ إحرامه وتلبيته وفي طوافه وسعيه، وفي أيام مِنى، والوقوف بعرفة، ورمي الجمرات، والحلق والتقصير، وأيام التشريق، وطواف الإفاضة، وطواف الوداع، من كتب السنة المعتمدة، كالبخاري ومسلم. وشجعت الناس على الأخذ بالتمتع في المناسك بدل الإفراد أو الإقران، وبيّنت لهم قول الرسول ﷺ: “لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت معي الهدي”.
ووضحت لهم أننا سنبقى في مكة أكثر من خمسة عشر يوماً قبل الوقوف بعرفة، وأنه بإمكاننا التمتع بعمل عمرة ثم نتحلل من الإحرام إلى قبل يوم التروية عند الإحرام بالحج والذهاب إلى منى قبل يوم عرفة، وقد استجاب أكثر من 80% لدعوة الحج بالتمتع، وبعض الناس أصر على الإفراد. وعند وصولنا إلى مكة، اعتمرنا، ولبسنا ملابسنا العادية، وجاء أولئك الذين أخذوا بالإفراد، وطلبوا منّي فتوى حتى يصبحوا مثلنا، وقد ضحكنا حينها كثيراً. وانتقل كثير ممن أحرم بالإفراد إلى نسك التمتع، أي الاعتمار ثم التحلل وفك ملابس الإحرام بعد أداء مناسك العمرة، ثم الإحرام بالحج قبل يوم عرفة.
استجاب الناس للمواعظ والتذكير والفقه، وعاشوا مع رسول الله ﷺ في مناسكه فقد حضّرت تحضيراً جيداً لتعليم الناس مناسك الحج، وكان معنا واعظ من الدولة، إلا أنه كان مؤدباً خلوقاً ومتواضعاً، وأحال كثيراً من الناس إليّ في الفتوى، وقد بينت لهم أن الحج هو أحد الأركان الخمسة للإسلام، وقد فُرض في العام العاشر، وهذا ما ذهب إليه ابن القيم، واستدل بأدلة قوية، وهو اللائق بهديه ﷺ في عدم تأخير ما هو فرض، لأنّ الله تعالى يقول: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: 97].
كما بيَّنتُ للحجاج الليبين الذين كانوا معي على متن السفينة بأن نبينا محمداً ﷺ لم يحج من المدينة غير حجته التي كانت في العام العاشر، وقد عُرفت هذه الحجة بحجة البلاغ، وحجة الوداع، وحجة الإسلام، لأنه ﷺ ودّع الناس فيها، ولم يحج بعدها، وحجة البلاغ؛ لأنه ﷺ بلّغ الناس شرع الله في الحج قولاً وعملاً، ولم يكن بقي في دعائم الإسلام وقواعده شيء إلا وقد بينه، فلما بيّن لهم شريعة الحج ووضّحه وبيّنه وشرحه، أنزل الله تعالى عليه: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [المائدة: 3].
ولما نزلت هذه الآية بكى بعض الصحابة، ومنهم عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، وكأنهم فهموا الإشارة إلى قرب أجل الرسول ﷺ، ولما قيل لسيدنا عمر (رضي الله عنه): ما يُبكيك؟ قال: إنه ليس بعد الكمال إلا النقصان، وكان عدد الذين مع رسول الله ﷺ أكثر من مئة ألف.
كان الحجاج على متن الباخرة، وهم يستمعون إلى حجة الرسول ﷺ؛ يتأثرون ويصلون على النبي ﷺ، وبعضهم تفيض عيناه بالدموع. وكنت حريصاً على تتبع هدي النبي ﷺ في حجته، وأحضرت معي ما حضّرته، وكتبته، وبدأت في شرح حجته ﷺ.
وقد وفقني الله عز وجل في تعليم ركّاب السفينة مناسك الحج على هدي النبي ﷺ، وقد حرصت أنا وأخي ووالدته وأخته ووالدتي على تطبيق المناسك، وكذلك كثير من الليبيين الذين كانوا معنا في الفلك المشحون، إذ كان الأغلبية يبحثون عمن يبيّن لهم أحكام الحج وتعاليمه، وكان البعض يحاول أن يسأل بعض الأسئلة التعجيزية، ولكن الردود كانت جاهزة بفضل الله تعالى وتوفيقه.
وقد ساعدنا ربّان السفينة في الاستفادة من إذاعة الباخرة، وأصبح الجميع في مقاهي السفينة وغرفها يستمعون إلى المواعظ والأحكام والدروس التي كانت تبثّ من خلالها، وقد استغرقت الرحلة خمسة أيام حتى وصلنا إلى جدّة.
وكانت تلك الأيام مفيدة لنا في الاحتكاك بالكهول والشباب والشيوخ والنساء، ففتحت حوارات ونقاشات حول الحج والإسلام والوسطية والتطرف والغلو وغيرها من الأفكار، وكان بعض اللجان الثورية ممن معنا في تلك الرحلة يشارك ويناقش.
3- التائبون يرحمهم الله:
إن من المواقف التي ما تزال في ذاكرتي بعد عقود من الزمن أن رجلاً أتى إليّ في السفينة وهو يبكي، ويقول لي: “إن زوجتي التي هي معي في رحلة الحج قد يئست من التوبة ومن قبول الحج؛ ذلك أننا وقعنا في علاقة محرمة قبل زواجنا ترتّب عليها مولد بنت وقد قُتلت”، وكان مضطرباً متأثراً، وبينت له أن التوبة مفتوحة أبوابها، ومن أسماء الله: التواب والغفار والرحيم، واستدللت بآيات من الذكر الحكيم، فظهر البشْر على محياه، وتغيرت أسارير وجهه، وطلب مني الذهاب معه إلى زوجته وترغيبها في رحمة الله ومغفرته سبحانه وتعالى. ومن الآيات التي ذكرتها لهم: قول الله تعالى: ﴿قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ۝ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ ۝ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ [الزمر: 53 – 55].
وقول الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً ۝ يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً ۝ إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً ۝ وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً﴾ [الفرقان: 68 – 71].
وبينت لهم أن التوبة الصادقة لله عز وجل يتقبلها الله، بل يبدّل الله سيّئاتهم حسنات، كما ذكر الله سبحانه: ﴿فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً﴾.
فتغيّر حالهم ورغبوا في مغفرة الله ورحمته، وأصبحت بيني وبينهم علاقة ربانية، وكان هذا الرجل في الحرم المكي يتأثر من قراءة الإمام ويتفاعل مع الآيات ويبكي. وقد انتقل الرجل والمرأة إلى رحمة الله عز وجل في ما بعد، وقد تركوا أولاداً وأحفاداً، فرحمة الله عليهم.
ومن هذا القبيل كانت أسئلة الناس عن التوبة والتخلص من الذنوب والآثام والمعاصي والمظالم، قصص كثيرة وجدوا في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله حلولاً وإجابات، فأحبوا دينهم وتعلقوا به.
4- المرور بقناة السويس:
عندما مررنا بقناة السويس نشطت الذاكرة في التاريخ القديم والحديث، وكيف شُقت هذه القناة، وسبحان الله كيف أمد الله تعالى العقل البشري بهذا التفكير، وهيأ له الأسباب والإمكانات لعمارة الأرض والقيام بواجب الخلافة فيها، وربط حركة التجارة العالمية بين الدول والقارات، وتوزيع الرزاق للأرزاق على عباده بوسائل لا تعد ولا تحصى، وقد كان الجو جميلاً، وقد مررنا بالقناة عند الساعة 2:39 ظهراً.
خلال رحلة السفينة، مررنا بالديار المصرية وبأمّ الدنيا، ورأينا المزارع والبساتين والفلاحين والجنود وعامة الناس الذين يحيّون الناس في السفينة ويطلبون منهم الدعاء مع صيحات التكبير، وقد وقفنا في ميناء بور سعيد والمصريّون يعرضون بضاعتهم على الحجّاج ويسترزقون من فضل الله عز وجل، والمدن التي مررنا بها: الإسكندرية والإسماعيلية وبور سعيد، وكانت الأشجار والأراضي الخضراء والنخيل والبساتين ترى بالعين المجردة، وكذلك المباني والمساجد والمآذن. ومن المناظر اللافتة رؤية أحد الجنود المصريين يقلع قميصه العسكري وقت الظهر، ويلوح به للحجاج.
فضلاً عن ذلك، كانت الجلسات الأخوية والأسرية على متن السفينة وهم ينظرون إلى ضفاف المدن المصرية مؤثرة وجميلة ورائعة. وعندما أصبحنا في وسط البحر الأحمر، وفي الساعة الثانية عشرة مساء أعلن ربّان السفينة الاستعداد للإحرام. واقتربنا من ميقات (رابغ)، وشرعنا في الاستعداد ولبس ملابس الإحرام، وطبقنا السنن الواردة عن النبي ﷺ؛ من تقليم الأظافر، وحلق العانة، والاغتسال… إلخ، بنية الإحرام، وارتفعت الأصوات بالتلبية: “لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك”.
إنها لحظات لا تُنسى، ونقطة تحول في حياتي، وانتقال إلى عالم جديد بعد السجون والظلم والقمع والحرمان، فسبحان الله! ولدتني أمي عارياً ثم لفّتني بالقماش الأبيض، وها أنا قادم إلى ربي قاصداً بيته العتيق الذي رفع قواعده سيدنا إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام ليكون مثابة للناس وأمناً، بالقماش الأبيض أيضاً.
ولا شك أن الشروع في لبس الإحرام يذكرنا بالقدوم على الله عز وجل، فالناس هنا سواسية؛ الغني والفقير، والعالم والجاهل، والمسؤول والعامي، وكل ألوان البشر. وآنذاك اعتراني شعور عجيب عندما تأملت في تلك اللحظات الإيمانية الربانية الروحانية قولَ عز وجل: ﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ﴾ [الأنعام: 94].
جلست مع الحجيج في مسجد السفينة، ثم دخلت الحجرة، ووجدت أخي محسن القذافي يلبّي وحده مع خشوع وتأثر ظاهرين، لا أستطيع تذكر الساعة، وذلك لأن الساعة التي كانت في يدي قد تجرّدت منها قبل الإحرام بقليل. والساعة التي كانت معي أصلها لشقيقي الدكتور أسامة، حيث أخذتها منه قبل ركوب السفينة، وبعدما ضعفت بطارية الساعة التي كانت في يدي، التي أهداها لي شقيقي الدكتور حسن.
وفي تلك الليلة، التقيت برجل أسمر اللون كان معنا في رحلة الحج من قبائل الطوارق الليبية، وكان لقاءً غريباً مدهشاً وفريداً من نوعه، فروح الرجل كانت هي التي تتحدث، والكلمات تتدفق من أعماقه ببساطة وتواضع وتعبّر عن إخلاص لله عظيم، وصدق في التوجّه نحو بيت الله تعالى، يريد شيئاً يقرّبه إلى الله عز وجل مهما كان هذا الشيء، ولو على حساب صحته، ويريد أن يضرب في الأعمال الصالحة بكل السهام التي يتقبلها العزيز الوهاب، وقد طلبت منه الدعاء.
5- دخول ميناء جدة:
دخلنا ميناء جدة يوم الأربعاء بتمام الساعة 8:25 صباحاً، وكان الجو حاراً، وبعد الوصول إلى الميناء، دخلنا على الجمارك، بحمد الله تعالى وتوفيقه، وختمت الوثائق، ووزعت المشروبات على الحجاج، ولم يكن في الميناء غير الليبيين، وصلينا الظهر قصراً في قاعة الجمارك، وكانت الإجراءات الأمنية مشددة، وهذا أمر طبيعيّ، ويحقق قول الله عز وجل: ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً﴾ [آل عمران: 97].
دخلنا مدينة الحجاج، وكانت عامرة بالأسواق والبضائع، والحركةُ التجارية نشطة. وبدأت قوافل الحجاج عبر الحافلات تتجه نحو بيت الله الحرام بالتدرّج. وتحركنا بعد صلاة المغرب. وحدث أن صلينا في جدة في أحد مساجدها صلاة العصر وألقى شيخ ذلك المسجد درساً في مسائل الحج. وكان السائق الذي يقود الحافلة التي كنا فيها غير موفق ولا متوازن في قيادته، وأربك الحجاج، وتجول بنا في أنحاء مدينة جدة التاريخيّة.
6- دخول مكة:
وعندما دخلنا ضواحي مكة وبرزت الجبال السود الصّلدة، خرج من سجلات الذاكرة أولئك الذين كانوا يتجولون بين ربوعها؛ سيدنا محمد ﷺ وأصحابه، فهنا كان يعيش رسول الله ﷺ.
وهنا صدع بدعوته، وآمن أبو بكر وسعد وعلي وزيد وعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوّام وعثمان بن عفّان وعمر بن الخطاب؛ وحمزة بن عبد المطلب وعمار بن ياسر وسمية وفاطمة وخديجة، الذكريات تتزاحم، وتتداخل وتتعانق، والخيال يسرح، والذاكرة تمده بالمعلومات المتدفقة في هذه الأجواء الروحانية العالية.
ذكرتني السيدة أمل شنيب، والدة أخي محسن رحمها الله، بدعاء دخول مكة: اللهم اجعل لي فيها قراراً، واجعل لي منها رزقاً حلالاً. الأمن أمنك والبلد بلدك، والعبد عبدك… إلخ.
وبسبب الازدحام الكبير دخلنا الحرم المكي الساعة 10:55 ليلاً، وظهرت لنا المآذن التي حول الحرم شاهقة عالية مرتفعة بأنوارها الجميلة. وكان القلب مع اللسان ينطق: الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، اللهم زد هذا البيت تعظيماً وتشريفاً ومهابة وتكريماً. ووصلنا إلى مقرّ السكن، وأنزلت الحقائب، وافتقدنا حقيبتين ثم وجدناهما في نهاية الأمر.
واستعددنا أنا ووالدتي وأخي محسن، وعمتي أمل شنيب وابنتها ماجدة لأداء العمرة التي نويناها، وفي تمام الساعة الواحدة بعد منتصف الليل خرجنا من السكن قاصدين البيت الحرام مريدين الدخول من باب السلام الذي دخل منه رسول الله ﷺ عند فتح مكة، ومع قدومنا وظهور الكعبة المشرفة المباركة، انفجرت بالبكاء والدعاء، ووقف شعر رأسي، وأصابتني قشعريرة سرت في جسدي، وسيطرت عليّ حالة أذهلتني، وتزاحمت الخواطر والأفكار والمشاهد، وسرح الخيال ثم رجع مركّزاً على البيت العتيق والطواف والعمّار والمصلين والركّع السجود.
وشرعنا في الطواف حول البيت العتيق سبعة أشواط، تخلله الأدعية والأذكار وتلاوة القرآن، وغُصت في أعماق التاريخ، وكأني حضرت هذا المشهد الرفيع الذي ذكره الله في كتابه العزيز: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ۝ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ۝ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [البقرة: 127 – 129].
لقد طُفنا حول البيت العتيق في أجواء إيمانية رفيعة، وتجليات روحانية فريدة، بين بكاء وفرح واختلاط مشاعر، وتزاحم ذكريات من عبق التاريخ إلى حاضرنا السعيد. وصلينا في مقام إبراهيم (عليه السلام)، واجتهدنا في الدعاء، ومن ثم شربنا من زمزم، وكنت مصاباً بفقد الشهية بعد خروجي من السجن، وكنت جلداً على عظم كما يقال، وكنت إذا أكلت أستقيء بعدها، فدعوت الله بالشفاء، وأن ييسر لي طلب العلم، وأن يغفر لي ويرحمني ويتولاني، وقد كنت عند خروجي من السجن وقفت أمام بابه وقلت: “اللهم سيرني ولا تخيرني، فما تختاره لي فهو الخير، وما أختاره لنفسي يحيّرني”.
كانت الدعوات تخرج من أعماق القلوب، وتصعد إلى خالقي العظيم، فما قصدت بابه إلا فتح وما دعوته إلا استجاب، وما تركني ربي في طفولة ولا شباب، ولا في سجن ولا في مهجر، وأسأله أن يحسن ختامي، وأن يحشرني مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وأن يبارك في علمي وعملي، وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم ولعباده نافعاً.
ثم بعد الطواف والصلاة في مقام إبراهيم وشرب ماء زمزم بدأت بالسعي بين الصفا والمروة، مع تلاوة قول الله عزّ وجل: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾
[البقرة: 158].
ولقد شرعنا في الأذكار والتسبيح، وحمد الله والصلاة على النبي ﷺ وتلاوة القرآن، وفي تلك المناسك يتبين لك رسالة الإسلام التي جاءت لتحطم الوساطة المصطنعة بين الله وعباده، وتحطم الفوارق المتعلقة بين الناس.
وفي الشوط السابع من السعي بين الصفا والمروة، ارتفع أذان الحرم المكي الشريف لصلاة الفجر، وبعد إتمام الطواف بين الصفا والمروة وصلاة الفجر هجم النعاس عليّ هجوماً عنيفاً، ورجعنا إلى البيت، وما زال أمامنا الحلقُ، فقام محسن بحلقي، وحلقته بعد وصول الإجهاد إلى أقصاه، لننام بعدها.
وبعد الاستيقاظ، أفطرنا ونزلنا إلى السوق القريب من الحرم، ثم ذهبنا إلى المسجد الحرام وطفنا حول البيت الحرام، وبعد صلاة المغرب جلسنا في حلقة الشيخ صالح اللحيدان من كبار علماء السعودية، واستفدنا من علمه الغزير وإجاباته القوية، لأسئلة الناس. وبعد صلاة العشاء قرأنا ما تيسر من القرآن الكريم، ثم ذهبنا إلى الأسرة وأحضرنا لهم العشاء، وبعد ذلك رجعنا إلى الحرم وإلى الطواف حول الكعبة، ووصلت إلى الحجر الأسود وقبلته، وقلت كما قال عمر بن الخطاب t: “والله إني أعلم بأنك حجر لا تنفع ولا تضر غير أني رأيت رسول الله ﷺ يقبلك، ولولا ذلك ما قبلتك”.
ثم التزمت الملتزم، ودعوت الله بما فتح عليّ. ومن الأدعية الجامعة في الطواف، قول الله تعالى: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [البقرة: 201]. وهذا الدعاء يقال بين الركن اليماني والحجر الأسود، وللعبد أن يدعو بما يشاء، ويذكر الله ذكراً كثيراً: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وأكثرت من هذا الدعاء: “اللهم اجعله حجاً مبروراً وذنباً مغفوراً وسعياً مشكوراً، اللهم اغفر وارحم واعف عما تعلم إنك أنت الأعز الأكرم”.
وكما اجتهدنا في الطواف، وابتعدنا عن القيل والقال، وتتبعنا في تلك الرحلة المواضع التي ذكر العلماء أن الدعاء يستجاب فيها؛ في الطواف عند البيت، وفي المسعى، وفي مزدلفة، وعند الملتزم، وعند شرب ماء زمزم، وخلف مقام إبراهيم، وفي منى، وفي عرفات، وعند الجمرات، فهذا موسم الدعاء، وموسم التضرع إليه والجأر إليه بالدعاء المتواصل بالسكينة والخشوع والتذلل بين يديه سبحانه وتعالى.
وكنا نتدبر أنا وأخي محسن قوله تعالى: ﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ۝ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ۝ لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ [يس: 38 – 40].
من اللطائف التي ذكرها العلماء أن الطواف من عند الحجر الأسود، ويجعل البيت الحرام يسار الطائف عكس عقارب الساعة، ولا مانع من التأمل والتفكر حول الطواف، إذ المعروف أن التيامن (من جهة اليمين) سنة الرسول ﷺ الذي كان يعجبه التيامن في كل شيء، فأية حكمة أن يجعل الطواف من اليسار، وأن يكون البيت يسار الطائف؟ وما المعنى في ذلك؟ فرأيت الأفلاك والكواكب كلها حتى الشمس تجري في دائرة تطوف بها من اليسار إلى اليمين عكس عقارب الساعة، حتى المجرة التي تسمى “درب التبانة” جريانها من اليسار، وكذلك دورة الإلكترونات من اليسار إلى اليمين.
وإن الدم يدور في جسم الإنسان من القلب إلى سائر أنحاء الجسم من جهة اليسار، عكس عقارب الساعة، وإذ قلنا يتحرك أو يدور، فذاك معنى الطواف، وكأن الأفلاك تطوف بتسبيح خالقها والكون كله يسبح خالقه بما يسمى بالحركة أو الدورات، فذاك هو الطواف قال تعالى: ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً﴾ [الإسراء: 44].
وقد تعلمنا أن الإكثار من الطواف في موسم الحج مستحب، ولذلك أكثرنا منه، وكان معظم الوقت في الحرم المكي بين الصلوات المكتوبة والنوافل والطواف ومجالس العلم وتلاوة القرآن الكريم، والصور في مشهد الطواف كثيرة، فهذه صورة رجل فاقد لرجليه يطوف حول البيت، وهذه امرأة قد تقوس ظهرها وتسعى بين الصفا والمروة، وهؤلاء شباب، وأولئك كهول وشيوخ ونساء، وهذا يدعو وهذه تبكي، وهذا ساجد وذاك راكع، ﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ [الحج: 26].
وجاء يوم الجمعة، حيث حضرنا الخطبة في المسجد الحرام، وكانت الحشود كبيرة والمسجد الحرام امتلأ حتى أصبح الناس يصلون خارج الحرم. وقد رأيت وفود الحجاج تتوافد على مكة كلما اقتربنا من يوم التروية، والوقوف بعرفة، فهناك وفود من أمريكا وكندا وأوروبا وأفريقيا والدول العربية والعالم أجمع. وكانت أكثر وفود الحج تنظيماً ودقة وترتيباً:

لعلمت أنك في العبادة تلعب
من كان يخضب خدّه بدموعه

فدماؤنا بنحورنا تتخضب

لمّا وقفت على ثرى عرفاتِ
لما ذكرت الموت في أهــــواله

وذكرت هول النزع والسكرات
وذكرت بالجمع الغفير مواقفاً

أخرى بيوم الحشر والحسرات
ومضى لهيب الخوف يحرق مهجتي

والنفس تبكي سالف الغدراتِ
فرفعت كفي والدموع كأنها

سيلٌ تدفَّق من ذُرا السَّرواتِ
يا ربِّ تبت إليك فاقبل توبتي

واجعل مكان السيئ الحسناتِ
فسمعت في عمق الضمير منادياً

دَعْ ما مضى وقضى وقم للآتي.
وبعد غروب الشمس من يوم عرفة سرنا بهدوء وسكينة نحو المزدلفة مع التلبية والذكر، وفي الطريق جمعنا بين المغرب والعشاء جمع تأخير، ووصلنا إلى المزدلفة، ونمنا وتركنا قوافل الحجاج الليبيين الذين رجعوا إلى منى، وصلينا الفجر في المزدلفة، ووقفنا عند المشعر الحرام فيها، وأكثرنا من الدعاء والذكر، قال تعالى: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾ [البقرة: 200].
كانت كل المواقف تدعونا إلى طلب المغفرة والرحمة من الله. إن الآية الكريمة تقول: ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [البقرة: 199]. وقد حضرني ونحن في عرفة قول عبد الله بن المبارك، رحمه الله: من ظن أن الله لا يغفر لهم – أي لأهل عرفة – فإنه أسوأ الناس حالاً.
ومع هذا الظن الحسن بالمغفرة، يتوجس قلب المؤمن بالتقصير الدائم الذي هو من طبيعة المخلوق، فيكثر من الاستغفار. ومن ثم إن الاستغفار بعد المغفرة شكر، كما ورد عن الرسول ﷺ إذ قيل له إنك تكثر الاستغفار، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال: “أفلا أكون عبداً شكوراً؟”.
وبعد صلاة الفجر وشروق الشمس من عند المشعر الحرام في اليوم العاشر من ذي الحجة انطلقنا من المزدلفة إلى منى – وهذا يوم العيد – لنؤدي بعض المناسك في هذا اليوم الأغر، يوم الحج الأكبر – على قول بعض العلماء – لأن الحجاج يقومون بعدة أعمال من مناسك الحج: يهراق فيه الدم، وتذبح الذبائح، ويحلق أو يقصر فيه الشعر، ويحل المحرم من إحرامه، ولأن فيه – أي يوم النحر – الحج كله، فالوقوف بعرفة في ليلته والرمي والنحر والحلق والطواف في صبيحته، وهو العيد الكبير، عيد الأضحى للمسلمين، يكبرون، ويظهرون الفرح والسرور.
ومن عظمة أعياد المسلمين أنها تأتي بعد الطاعة، فعيد الفطر جاء بعد صيام شهر كامل، والعيد الكبير جاء بعد الوقوف بعرفة. وقد حرصنا أنا وأخي محسن على مراعاة الترتيب الذي فعله النبي ﷺ، وهو: الرمي فالذبح فالحلق والطواف. وإن كان الذبح قد قامت به شركة الراجحي بعد أن اشترينا منها الهدي.

وأفضل منك لم تلد النساء
خلقت مبرءاً من كل عيب

كأنك قد خلقت كما تشاء
واستمرت ذكريات المدينة في عهد تأسيس الدولة الإسلامية تتزاحم وكأني أنظر إلى شاشة أمامي، هذه غزوة بدر وتلك أحد، وهذه الأحزاب والمشاهد، والحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ونزول الوحي على رسول الله، وأحداث عظيمة ملهمة للأمة الإسلامية على مرّ العصور وتوالي الدهور.
لقد عظم شرف المدينة المنورة المباركة بهجرة النبي ﷺ إليها، حتى فضلت على سائر بقاع الأرض، خلا مكة المكرّمة، وفضائلها كثيرة، منها: كثرة أسمائها، ومحبته ﷺ لها، ودعاؤه برفع الوباء عنها، ودعاؤه لها بضعفي ما في مكة من البركة، وفضيلة الصبر على شدّتها، وفضيلة الموت فيها، وحفظ الله إياها لمن يريدها بسوء.
وفي ذلك الموقف العظيم، فاضت المشاعر النبيلة مختلطة بالإيمان، متواصلة مع التاريخ، وقد حان الدخول للمسجد النبوي الشريف بعدما نزلنا في مقر الإقامة وصلينا صلاة العشاء في المسجد النبوي، ويا لها من صلاة، ويا له من خشوع، ويا لها من سكينة جرت في قلبي ولامست روحي. فبعد السجن الطويل والانقطاع عن العالم، إذ برحمة الله التي وسعت كل شيء تنقذنا من تلك المحن ويكرمنا الله بالمنح الربانية من حج بيته الحرام، وزيارة مسجد رسول الله ﷺ الذي قال عنه: “صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام”.
حرصنا أنا وأخي محسن على زيارة قبر الرسول ﷺ وصاحبيه، وتحققت الرؤيا، وكان موقفاً مهيباً عند الوقوف على قبره ﷺ، لم أتمالك نفسي من البكاء، وأصبت بالقشعريرة، واستحضرت تاريخ الصحابيين العظيمين: أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
قال الشاعر:
قــــــــــــــــــــــــــــــــل إن خير الأنبياء محمد

وأجل من يمشي على الكثبان
وأجل صحب الرسل صحب محمد

وكذاك أفضل صحبه العمران
رجلان قد خلقا لنصر محمـــــــــــــــــــــــد

بدمي ونفسي ذانك الرجلان
كانا على الإسلام أشفق أهله

وهما لدين محمد جبلان
وبقينا في المدينة يومين، حافظنا فيهما على الصلوات في المسجد النبوي، ودخلنا الروضة في المسجد النبوي الشريف وصلينا فيها، وهي التي قال رسول الله ﷺ فيها: “ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على حوضي”. ويحضرني وأنا أدقق مسودة تلك الزيارة التاريخية، ما قاله الشاعر الدكتور أنس الدغيم في زيارته الروضة الشريفة:
واللهِ يا خيرَ الرِّجالِ أنا على * عِلّاتِ قلبي جِئتُ بابَكَ زائرا
لم ينحَنِ التاريخُ في بابٍ ولا* وقفَ المَدى إلّا أمامَكَ صاغِرا
وزرنا مسجد قباء، وبعض المعالم التاريخية في المدينة. واستحضرت تاريخ الأنصار رضي الله عنهم، وما نزل فيهم من قرآن وأحاديث، كقوله عليه الصلاة والسلام في الأنصار: “لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق، فمن أحبهم أحبه الله ومن أبغضهم أبغضه الله”.
هذه ديار الأنصار التي استقبلوا فيها رسول الله ﷺ وأصحابه في هجرتهم إليها، لقد أعطاهم الأوسمة الباقية على مدار الزمن، فقد قال فيهم ﷺ: “لو أن الناس سلكوا وادياً أو شعباً لسلكت وادي الأنصار وشعبهم، ولولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار”. وقد دعا رسول الله ﷺ بالمغفرة لهم ولأبنائهم ولأزواجهم ولذرياتهم، ولا شك أن دعاء النبي ﷺ مستجاب، فقد قال: “اللهم اغفر للأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار”.
وفي اليومين اللذين قضيناهما في المدينة كانت المشاهد العظيمة لا تفارقني، فقد سيطرت على فكري وعقلي ووجداني، كان صوت بداخلي يناديني بأن هذه الرحلة ليست الأخيرة للمدينة، وقد استجاب الله دعائي بأن يسر لي الأسباب للدراسة فيها، وقد قضيت فيها أبرك أيام عمري. وتعرفت على علماء أجلاء وطلاب علم، وتزوجت فيها، وأكرمني الله بإخوة لا تنقطع علاقتي بهم في الدنيا ولا في الآخرة بإذن الله. وإن الحنين للأراضي المقدسة والمكث في المدينة لا يزال يراودني، وأملي في الله أن تكون آخر أيامي بها، وما ذلك على الله بعزيز،
ورجعنا من المدينة إلى جدّة، وكانت أسرتنا في الحج (أنا ومحسن القذافي ووالدته ووالدتي وأخته ماجدة) أسرة واحدة متماسكة منسجمة، سجلنا ذكريات لا تنسى، وأصبحت علاقة والدتي بمحسن كأحد أبنائها، وقويت مع الحاجة أمل شنيب وماجدة، واستمرت حتى بعد هجرتي الطويلة من بلادي العزيزة الحبيبة (ليبيا). فقد رجعنا عبر البحر بالسفينة (غرناطة)، وكانت رحلة ممتعة ورائعة وفريدة، وتعرفنا على أصدقاء جدد وإخوان لنا في الله كذلك. ووصلنا إلى مدينتي الغالية العزيزة الحبيبة (بنغازي)، واستقبلنا الأهل بالاحتفالات والأفراح والولائم، وجاء الزوار من الأقارب والأصدقاء، ليباركوا لنا ما أتمه الله علينا من حجة الإسلام.
وقد توفي بعض الرجال والنساء ممن كانوا معنا في الباخرة في الأراضي المقدسة، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [لقمان: 34].
بقيت حوالي خمسة أشهر بعد رجوعي من الحج بين الخطابة والدروس والدعوة إلى الله. وقد عرض عليّ الزواج، فاعتذرت، وكذلك اعتذرت عن العمل في التجارة.
وقد اتفقت مع والدي على الخروج من ليبيا وطلب العلم الشرعي بالمدينة، ووافقني ووشجعني، وقال لي: أعمامك مصرّون على أن نجمع لك مالاً وتنطلق في التجارة، وأنا لستُ مقتنعاً بذلك، لعلّ الله أن ييسر لك في طلب العلم، ويبارك لك فيه، وتكتب كتباً ينتفع بها المسلمون، ويكتب لنا بها صدقة جارية. وقد وقف معي بالمال، وأخرج لي تأشيرة للسعودية عن طريق أخيه الحاج صالح التيناز (رحمه الله)، الذي كانت له علاقة متميزة بالسفير السعودي بطرابلس، وكتب لي خطاباً للجامعة الإسلامية بالمدينة.
وتواصل والدي مع الشيخ فتحي الخولي (المقيم في جدّة)، وهو مصري حاصل على الجنسية السعودية، فاستقبلني بالدموع عندما وصلت إليه، ولي معه قصة طويلة رحمه الله تعالى ستكون في الجزء المتعلق بهجراتي في بلاد المسلمين في كتاب آخر بإذن الله تعالى. وفي ذلك الوقت كان الحصول على العملة الصعبة والسفر بها يعرّض الإنسان للمشاكل، فرتّب لي مصاريف السفر والخروج من مطار بنغازي من خلال معارفه. ولا أنسى الحاج عبد الله بن غزي، رحمه الله، وهو من إخواننا في الله ومن عمّار مسجد الشهداء، ومن أصدقاء والدي منذ شبابهم، عندما علم بعزمي على الخروج من ليبيا لطلب العلم، ودّعني بالبكاء، وأهداني ألف دولار، وأصرّ على أخذها مساعدة منه لي على طلب العلم.
وقد رأيت رؤيا تشير لضرورة الخروج من ليبيا وطلب العلم، وحبب الله إليّ هذا الطريق، وقدمته على كل شيء، مع أنني خرجت من السجن بحصيلة لا بأس بها من العلوم الشرعية، وتتلمذت على الشيخ محمد الحراثي، وإخوة كرام، إلا أن عطشي لطلب العلم لا يرتوي، فقدمت رغبتي فيه على كل شيء. وإلى يومي هذا ما زلت طالباً للعلم محباً للعلماء الربانيين، ولهم مكانة عظيمة في نفسي، ومنزلة كبيرة في قلبي. أعمل على الاستفادة منهم إذا التقيت بهم أو من كتبهم أو دروسهم أو مقالاتهم، وما أزال أكرر قول الشاعر أبي بكر الإلبيري:
فَقوتُ الروحِ أَرواحُ المَعاني … وَلَيسَ بِأَن طَعِمتَ وَأِن شَرِبتا
فَواظِبهُ وَخُذ بِالجِدِّ فيهِ … فَإِن أَعطاكَهُ اللَهُ أَخَذتا
وفي تاريخ 28/ 12/ 1988م، خرجت من مطار بنغازي إلى قبرص، ومن ثم إلى جدة، وفي مطار قبرص انتظرت ساعات في الترانزيت لركوب الطائرة السعودية المتوجهة إلى مطار الملك عبد العزيز، وفي حوالي الساعة الثامنة صباحاً من يوم الجمعة الموافق لــ 29/12/1988م، وقبل ركوب الطائرة، اتصلت بالوالدة العزيزة، فردَّت عليَّ بحزن وأسى، وقالت لي: لقد جاء رجال الأمن الداخلي بعد صلاة العشاء بالأمس يبحثون عنك، فلا ترجع بعد اليوم، الهجرة ولا السجن؛ أسمع صوتك عبر الهاتف ولا تكون خلف القضبان. اذهب في أرض الله تحرسك عناية الله وحفظه. وهذا ما سأعرض تفاصيله في رحلة الهجرة خارج الوطن وطلب العلم في الكتاب القادم (هجرتي في بلاد المسلمين) إن شاء الله تعالى.

Exit mobile version