عيد الأضحى.. ومعاني الوحدة والانتصار

 

يأتي عيد الأضحى بعد أداء شعيرة عظيمة، هي شعيرة الحج، بسعيها وطوافها وشعائرها ومشاعرها، وهي كما عبر أبو حامد الغزالي في بداية كتاب “أسرار الحج” من سفره النفيس “إحياء علوم الدين”: “فإن الحج مِنْ بَيْنِ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ وَمَبَانِيهِ عِبَادَةُ الْعُمْرِ وختام الأمر وتمام الإسلام وكمال الدين”.

الأضحى والشعائر طريق الانتصار وإنعاش الروح

وهكذا تأتي الأعياد عند المسلمين بعد أداء عبادة، فعيد الفطر يأتي بعد أداء فريضة وهي الصيام، وعيد الأضحى يأتي بعد أداء فريضة أخرى وهي الحج، وهذا يشير إلى أن الفرحة الحقيقية للمسلم إنما تكون بالطاعة والقيام بفرائض الإسلام، وليس الفرحة باللهو والعبث ومخالفة أوامر الله وارتكاب مناهيه، وهذا هو المعنى الحقيقي للتقوى: “ألا يراك الله حيث نهاك، وألا يفتقدك حيث أمرك”.

وهذا يشير إلى معنى مهم وهو أن التشريع الإسلامي يتابع بتدابيره حركة المسلم في هذه الحياة، ويحيطه بالعبادات المتتالية: فالعام الهجري يبدأ بشهر حرام، ثم الصلوات خمس مرات في اليوم والليلة، ونوافل الصلوات من قيام ونوافل، ثم رمضان والصيام فيه، ثم يليه الستة من شوال، ثم الصيام طوال السنة: “اثنين وخميس، أو ثلاثة أيام من كل شهر، أو صيام يوم وإفطار يوم، كما كان صيام داود عليه السلام”، ثم يأتي موسم الحج بشعائره للحجاج الذي يرجعون منه كيوم ولدته أمهاتهم، كما أخرج البخاري ومسلم بسندهما عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من حجَّ فلم يرفث ولم يفسق رجعَ كيومِ ولدتهُ أمُّه”، ولغير الحجاج بالعمل الصالح في العشر الأوائل من ذي الحجة مصداقاً لما أخرجه البخاري بسنده عن عبدالله بن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ما مِن أيّامٍ العملُ الصّالحُ فيها أحبُّ إلى اللهِ مِن هذه الأيّامِ العَشْرِ”، قالوا: يا رسولَ اللهِ ولا الجهادُ في سبيلِ اللهِ؟ قال: “ولا الجهادُ في سبيلِ اللهِ إلّا رجلٌ خرَج بنفسِه ومالِه ثمَّ لم يرجِعْ مِن ذلك بشيءٍ”.

وهذا الحشد الكبير من العبادات والشعائر؛ فرائضَ ونوافلَ، يؤسس مسلمًا حقيقيًّا، وينشئ قلباً منيباً وروحاً شفافة ونفساً مشرقة، وهذا المدد الروحي الكبير يحفز المسلم على العمل الصالح الدائم، وعلى الاستمرار قدماً في عمارة الأرض وقيادة الحياة، ويحول بين الإنسان والانجراف الفكري أو النفسي، وكذلك يرفعه عن الانحراف الخُلُقي؛ فإن الإسلام رسالة أخلاق، ومتى انحرف المسلم أخلاقيًّا وارتكب المنكرات الأخلاقية من كذب وغش وتدليس وتضييع للأمانة فقد استُودع من الأمة، وقد قال أمير الشعراء أحمد شوقي قديماً:

وإذا أصيب القوم في أخلاقهم ** فأقم عليهم مأتماً وعويلا

ويقول أيضاً:

وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت **   فإن همُ ذهبتْ أخلاقُهم ذهبوا

كما أن هذه الطاعات بأبعادها الروحية هي سبيل الوحدة بين المسلمين، وهي طريق النصر المؤكد، فلن ينصر الله أقواماً لا يطيعون الله، ولا يلتزمون أخلاق الإسلام.

الأضحى والشعائر طريق الوحدة والقوة

وهذه الشعائر من حج وصلاة وصيام وغير ذلك هي التي تمثل الضمان الآمن والأمن الضامن لتحقيق الحد الأدنى من وحدة المسلمين، فلن يستطيع أحد أن يجهز على هذه الأمة ما دامت هذه الشعائر قائمة وموجودة، قد تضعف وقد تمرض لكنها لن تموت، فهذه الأمة تستمد قوتها من قوة الله الحي، والله حي لا يموت.

هذه الأمة بشعائرها الجامعة وكتاب ربها وسُنة نبيها وقبلتها الواحدة ستظل قائمة لا نائمة، وموجودة لا مفقودة، وحقيقةً لا وهمًا، ورائدة لا راكدة.

كما أن هناك معنى مهمًّا تتجلى فيه معنى الوحدة، وهو وحدة دين الأنبياء، وهو دين الإسلام؛ حيث إن الأضحية سُنة نبي الله إبراهيم، أخذها عنه خاتم الأنبياء سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا يشير إلى أن دين الأنبياء واحد، وأن رصيدهم ممتد في تاريخ البشرية، يكمل بعضهم بعضاً برسالتهم الواحدة، وسُنتهم الواحدة، وطريقهم الواحد، طريق دعوة الناس لتوحيد الله تعالى: ﴿وَمَاۤ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِیۤ إِلَیۡهِ أَنَّهُۥ لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّاۤ أَنَا۠ فَٱعۡبُدُونِ﴾ (الأنبياء: 25).

يقول الشيخ عبدالرحمن السعدي في تفسير الآية الكريمة: “فكل الرسل الذين من قبلك مع كتبهم، زبدة رسالتهم وأصلها، الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له، وبيان أنه الإله الحق المعبود، وأن عبادة ما سواه باطلة”.

وهذا المعنى الإيماني أو العقدي في الوحدة والتوحيد هو الذي ينبثق منه كل تجليات الوحدة وأشكالها: فكرية وسياسية واجتماعية وثقافية وتربوية.

فبالوحدة والقوة سوف تَبقى هذه الأمة، وسوف تُسْتنقذ المقدسات وتعم الحريات، ويُحرر الأسرى والمعتقلين والمسرى، وسوف نشهد على حقيقة وجودنا لنكون أمة شاهدة وشهيدة، وسوف نظل –بهذه الوحدة لا الفرقة- واعين بواقعنا مستشرفين مستقبلنا.

وهذا ما أكدت عليه الرسالة القرآنية: ﴿إِنَّ هَـٰذِهِۦۤ أُمَّتُكُمۡ أُمَّةࣰ وَ ٰ⁠حِدَةࣰ وَأَنَا۠ رَبُّكُمۡ فَٱعۡبُدُونِ﴾ (الأنبياء: 92)، وحذر من الفرقة والتنازع فقال: ﴿وَأَطِیعُوا۟ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَلَا تَنَـٰزَعُوا۟ فَتَفۡشَلُوا۟ وَتَذۡهَبَ رِیحُكُمۡۖ وَٱصۡبِرُوۤا۟ۚ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّـٰبِرِینَ﴾ (الأنفال: 46).

يقول الحافظ ابن كثير تعليقا على هذه الآية في كلمة تاريخية تطبيقية بليغة: “وَقَدْ كَانَ لِلصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -فِي بَابِ الشَّجَاعَةِ وَالِائْتِمَارِ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَامْتِثَالِ مَا أَرْشَدَهُمْ إِلَيْهِ -مَا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنَ الْأُمَمِ وَالْقُرُونِ قَبْلَهُمْ، وَلَا يَكُونُ لِأَحَدٍ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ؛ فَإِنَّهُمْ بِبَرَكَةِ الرَّسُولِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَطَاعَتِهِ فِيمَا أَمَرَهُمْ، فَتَحُوا الْقُلُوبَ وَالْأَقَالِيمَ شَرْقًا وَغَرْبًا فِي الْمُدَّةِ الْيَسِيرَةِ، مَعَ قِلَّةِ عَدَدهم بِالنِّسْبَةِ إِلَى جُيُوشِ سَائِرِ الْأَقَالِيمِ، مِنَ الرُّومِ وَالْفُرْسِ وَالتُّرْكِ وَالصَّقَالِبَةِ وَالْبَرْبَرِ والحبُوش وَأَصْنَافِ السُّودَانِ والقبْط، وَطَوَائِفِ بَنِي آدَمَ، قَهَرُوا الْجَمِيعَ حَتَّى عَلَتْ كَلِمَةُ اللَّهِ، وَظَهَرَ دِينُهُ عَلَى سَائِرِ الْأَدْيَانِ، وَامْتَدَّتِ الْمَمَالِكُ الْإِسْلَامِيَّةُ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا، فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثِينَ سَنَةً، فَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ أَجْمَعِينَ، وَحَشَرَنَا فِي زُمْرَتِهِمْ، إِنَّهُ كَرِيمٌ وَهَّابٌ”.

وهكذا فإن عيد الأضحى وما له من تعلقات شعائرية تجعلها طريقاً للوحدة والقوة، والظفر والانتصار، فلا انتصار بغير وحدة، ولا وحدة بغير انتصار، هذه هي أعياد المسلمين، وهذه هي شعائر الإسلام.

فنحمد الله على هذا الدين العظيم، وعلى هذه النعم السابغة، وعلى هذا الفضل الكبير ﴿قُلۡ بِفَضۡلِ ٱللَّهِ وَبِرَحۡمَتِهِۦ فَبِذَ ٰ⁠لِكَ فَلۡیَفۡرَحُوا۟ هُوَ خَیۡرࣱ مِّمَّا یَجۡمَعُونَ﴾ (يونس: 58)، ويا له من دين لو أن له رجالاً.

Exit mobile version