نظرات اقتصادية في سورة “البقرة” (2)

توقفنا في المقالة السابقة من “نظرات اقتصادية في سورة الفاتحة” عند قوله تعالى: (الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، وأكدنا أن الربوبية المطلقة لله رب العالمين هي مفرق الطرق بين النظام الاقتصادي الإسلامي والنظم الاقتصادية الوضعية؛ فرعاية الله حاضرة، وربوبيته قائمة في كونه، وما سخره للناس فيه، وما أرشدهم إليه، وليس كما حيدت الرأسمالية الأخلاق، وأنكرت الاشتراكية الرسالات السماوية.

بعد الإقرار بالربوبية المطلقة لله رب العالمين، جاء قوله تعالى: (الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ) (الفاتحة: 3)، وقد وردت هاتان الصفتان في البسملة، وقد جاءتا هنا لتبرزا اقتران صفة الربوبية بصفة الرحمة، وعبر سبحانه باسمين من أسمائه؛ الرحمن الذي لا يوصف به غيره، والدالة على منتهى الكمال في اتصافه بها، والرحيم التي تتعلق بعباده فهو رحيم بخلقه.

وبذلك، فإن الربوبية هي ربوبية رحمة وإحسان يحس فيها المسلم بإفاضة النعم والإحسان، فيعيش في ظلال رحمات الله تعالى التي وسعت كل شيء، وتتحول تلك الرحمات إلى سلوك اقتصادي يمارسه في كل خطواته من خلال الرحمة بالغير؛ فيمد يده بالصدقات لمستحقيها، ولا يعرف للاحتكار سبيلاً، ولا للربا واستغلال الغير طريقاً، بل سلوكه السماحة التي تحيط بها الرحمات، وقد روى ابن ماجة عن جابر بن عبدالله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “رحم الله عبداً سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا اقتضى”، وبذلك تكون السوق الإسلامية سوقاً تنافسية شريفة تنمو في حضن القيم الإيمانية والرحمات الربانية؛ فلا احتكار فيها ولا غرر ولا غش ولا نجش ولا غبن ولا أكل للمال بالباطل، فهي سوق تحل فيها مفاهيم الرحمة والعدل والإحسان مقابل البقاء للأقوى، والعمل والاستعفاف والتنافس مقابل الاحتكار، والواجب مقابل الحق، والموازنة بين الدنيا والآخرة مقابل متاع الدنيا ونسيان الآخرة.

كما أن هذه الرحمة لا تقتصر على البشر، بل تمتد للحيوانات رفقاً وإحساناً، حياة وذبحاً، وقد روى ابن ماجة عن شداد بن أوس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إن الله عز وجل كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته”.

سوء التوزيع

كما أن اقتران الحمد بالربوبية والرحمة فيه إشارة إلى أن الحمد يكون حمداً على النعمة، والرحمة قوامها إيصال الخيرات إلى أصحاب الحاجات، والله تعالى خلق العالم مطابقاً لمصالح العباد موافقاً لمنافعهم، وجعل نعمه خارجة عن التحديد والإحصاء؛ (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا) (إبراهيم: 34)، ومن ثم فإن المشكلة الاقتصادية التي تتمثل في وجود موارد محدودة نسبياً في مواجهة حاجات إنسانية متعددة ومتزايدة لا يمكن الركون لتفسيرها وفق النظام الرأسمالي الذي ينظر للندرة النسبية في الموارد أو بما سماه “شح الطبيعة” على أنه جوهر المشكلة الاقتصادية، وصور الإنسان على أنه في صراع معها من أجل البقاء، وكذلك لا يمكن الركون في تفسيرها للنظام الاشتراكي الذي اعتبر جوهرها هو التناقض بين شكل الإنتاج الجماعي وعلاقات التوزيع الفردية.

فالله تعالى برحمته وفضله خلق الموارد لكفاية البشر، وهو سبحانه من طلب منهم تهذيب حاجتهم بالقيم الإسلامية، وبذلك فإن ما يعانيه البشر من مشكلة اقتصادية لا يرجع بأي حال إلى الموارد ذاتها، فهي كافية، وإنما يرجع إلى مخالفة سلوك البشر لما أمر الله تعالى به أو نهى عنه، سواء من ناحية بذل الجهد بالمشي في مناكب الأرض؛ (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ) (الملك: 15)، أو فقدان القيم بعدم ضبط الحاجات بها؛ (وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ) (الأعراف: 31)، وسوء التوزيع.

ومع رحمات الله سبحانه تتنقل الآيات بعد ذلك إلى وعده ووعيده (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) (الفاتحة: 4)، وهذه الآية الكريمة تربط بين الدنيا والآخرة، بين عالم الشهادة وعالم الغيب، بين العقل والوحي، فتنتقل بالمسلم من حوله وقوته الجسدية والمادية المحدودة والعارية المستردة إلى ملكية الله عز وجل الذي استخلف الإنسان لتعمير الأرض وجعل ملكيته مجازية وليست حقيقية، فما يملكه في الدنيا -إذا حان أجله- يتركه كله، ويُسأل عنه كله.

إن الدنيا مزرعة للآخرة، والسلوك الاقتصادي فيها في عالم الشهادة لا ينفصم عن عالم الغيب واليوم الآخر، كما أن الدنيا وما بها من متاع من مال أو جاه لا تعدل عند الله تعالى جناح بعوضة، فكيف بميزان هذه الدنيا يوم الدين؟! إنها دعوة لكل مسلم في سلوكه الاقتصادي أن يبتغي فيما آتاه الله الدار الآخرة ولا ينسى نصيبه من الدنيا غير راكن لها أو مستسلم لمتاعها، وذلك بأن تكون في يده لا قلبه، وأن يوجه وجهته نحو الآخرة وأسواقها في الدنيا من خلال الالتزام بالطاعات والحرص على الطيبات وتجنب الخبائث؛ إنتاجاً وتوزيعاً واستهلاكاً، مستشعراً جوامع الكلم لنبيه صلى الله عليه وسلم في وضع ميزان علم الاقتصاد الإسلامي؛ مفهوماً وتطبيقاً.

روى الترمذي عن أبي برزة الأسلمي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن ماله من أين اكتسبه وفيمَ أنفقه”، موقناً أن التوزيع لا يقتصر على التوزيع الوظيفي الدنيوي من خلال توزيع الدخل القومي على عناصر الإنتاج المساهمة في العملية الإنتاجية، بل يمتد إلى إعادة التوزيع على أسس غير وظيفية، بما يحقق التكافل والعدالة الاجتماعية، ويأتي في مقدمة ذلك الصدقات التي يبقى أثرها في الآخرة، فقد روى الترمذي عن مطرف بن عبدالله بن الشخير عن أبيه، أنه انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ) (التكاثر: 1) قال: “يقول ابن آدم: مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما تصدقت فأمضيت، أو أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت”.

وإذا كانت هذه الآيات السابقة تعكس بصورة جلية الحمد والثناء والتمجيد لله رب العالمين، فإنها تنتقل بعد ذلك إلى آية كريمة بين الله تعالى وبين عبده، إذا قالها العبد أكرمه الله باستجابة سؤله: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (الفاتحة: 5)؛ فلا عبادة إلا لله، ولا استعانة إلا بالله.

والعبادة تعني الطاعة مع غاية الخضوع، وهي اسم جامع شامل لكل ما يحبه الله ويرضاه؛ فكل عمل غير محظور تحسن فيه النية لله تعالى فهو عبادة، ومن ثم لا تقتصر العبادة على الجانب التعبدي البحت من صلاة وصيام ونحو ذلك، بل تمتد لكل سلوك المسلم ومعاملاته، ومنها السلوك الاقتصادي؛ (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {162} لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (الأنعام).

 

Exit mobile version