هل تشيخ الكتب وتموت؟

 

الكتاب هو الذي إن نظرت فيه أطال إمتاعك وشحن طباعك وبسط لسانك وجود بنانك وفخم ألفاظك، وعرفت به في شهر ما لا تعرفه من أفواه الرجال في دهر، والكتاب يطيعك بالليل كطاعته بالنهار ويطيعك في السفر كطاعته في الحضر ولا يعتل بنوم ولا يعتريه كلال السفر.

أما القراءة فهي مفتاح العلم وسبب لرفعة الإنسان دنيا وآخرة، والقراءة وسيلة لمعرفة أحوال الأمم السابقة وأداة لمعرفة مكائد الأعداء والقراءة وسيلة لاستغلال وقت الفراغ وترويح للنفس.

إذن: هل أصبح الكتاب الإلكتروني يشكل تهديداً للكلمة المطبوعة؟ وهل يمكن أن يقضي عليها؟ إنَّ الثورة التي أحدثها جوتنبرج في مجال الكلمة المطبوعة باختراعه للحروف المعدنية المنفصلة كانت النواة والركيزة الأساسية لتطور عملية الطباعة وتقدمها فيما بعد حتى وقتنا هذا، والآن ونحن في بداية الألفية الثالثة تفاجئنا التقنية بمنتج جديد وإن بدا في أولى مراحله، إلا أنه يمثل تحدياً قوياً للكلمة المطبوعة، ألا وهو الكتاب الإلكتروني، هذا المنتج صغير الحجم سيغير بلا أدنى شك وجه القراءة، وإن تباينت حوله الآراء في الوقت الراهن.

إنَّ بعض الباحثين سبق أن أطلق على وسائل التقنية الحديثة وما تنطوي عليه من إمكانات هائلة تستطيع من نفسها تغيير خارطة العالم، إنها النمل الأبيض الذي يلتهم هويتنا، ولكن كما هو الحال في عملية العولمة بسلبياتها وإيجابياتها.

كذلك هو الحال في استخدام التقنية، فالأمر في الثانية يعتمد على ركيزتين أساسيتين، الأولى تعزيز وترسيخ القيم والمبادئ الدينية بداخلنا وفي نفوسنا، أما الأمر الثاني فهو تكوين وتنمية الوعي الذاتي لدى الفرد، كي يتغير الاتجاه الذي يريد الإبحار فيه.

منذ سنوات ليست بعيدة، هاجم الكثيرون وسائل التقنية مثل الفاكس والبريد الإلكتروني؛ بحجة أنها أداة باردة لتوصيل المشاعر والأحاسيس فهم يفضلون تسلم رسالة مكتوبة بخط اليد عن رسالة الفاكس؛ لأنَّ ذلك يفقدها دفئها وحميميتها، وللتغلب على مثل هذه المبررات، قام العلماء بتوفير البريد الإلكتروني الصوتي الذي يستطيع المرسل من خلاله إرسال رسالة بصوته، كما يستطيع رؤيته من خلال آلة التصوير الحاسوبية.

يُروى أنَّ شخصاً حبس نفسه داخل غرفة ومعه ما يكفيه من طعام وشراب لمدة ثلاثة أيام وانقطع عن العالم الخارجي تماماً وبصحبته جهاز الحاسوب الخاص به والمتصل بشبكة الإنترنت وخرج من غرفته بعد الموعد المحدد ليجتمع مع أهله وأصدقائه ويناقشهم في أهم الأحداث التي جرت في العالم وكأنه كان معهم، مثبتاً لهم أنَّ الإنترنت بساط معلوماتي يحملك إلى العالم.

تقول الأستاذة جيهان الشناوي في دراستها عن “الكتاب الإلكتروني يغيِّر وجه القراءة”: في حقيقة الأمر، شئنا أم أبينا الطريق المعلوماتي طريق سريع جداً، ولن نستطيع تجاهله ولا الوقوف أمامه.

ومن ثم ينبغي التعامل معه -ثورة المعلومات وطريقها السريع- بمنظور واقعي ومستقبلي، فلو أخذنا الكتب الإلكترونية على سبيل المثال، لوجدناها مقارنة بالكتب المطبوعة، سهلة الحمل، وأصبحت كالهواتف المتنقلة صغيرة الحجم، سهلة الاستخدام، تناسب فئات العمر المختلفة، الأمر الذي جعلها تمثـِّل تحدياً لا يُستهان به على الإطلاق لشكل الكتاب المتعارف عليه منذ زمن بعيد، ولأكثر من 1500 سنة.

ومن المتوقع أن تهز الكتب الإلكترونية وبعنف قيمة الكتاب المطبوع، وتغير من طرق الطباعة ووسائل البيع، وستنشئ أسواقاً جديدة في مختلفة المجالات.

كما أنها ستغير من مفهوم الكتاب ذاته؛ لأنَّ نسخة واحدة من الكتاب كافية للوصول إلى الملايين، ولا حاجة لنسخها مثلما هو الحال في شرائط الفيديو، وستكون للوثائق الأكثر شعبية نسخ موجودة على الموادم من أجل التحديث الدائم، وبسعر زهيد، مقارنة بأي كتاب ورقي، فإنَّ نسبة غير قليلة من الثمن تئول مقابل إنتاج الكتاب وتوزيعه، وليس مقابل جهد المؤلف.

ختاماً أقول: هل ستستطيع الكتب الإلكترونية تغيير عادات الناس الذين اعتادوا على قراءة المواد المطبوعة؟ بالنسبة لكبار السن، فقد أكدوا أنَّ ذلك مستحيل صعب، ولسوف تظل مكتباتهم وما تحويه من روائع مصدر فخر واعتزاز لهم، في الوقت الذي يحمل فيه شاب كتاباً إلكترونياً واحداً يحوي أكثر مما تحمله أرفف كاملة في مكتبة أيّ شخص آخر.

ومع ذلك فإن هناك قواعد أساسية ينبغي الانتباه لها ومنها:

1- معرفة فضل العلم وشرف أهله وبيان أهمية القراءة.

2- التشجيع على القراءة من خلال إنشاء مكتبة للمطالعة في البيت بشكل منظم، وإجراء مسابقات بحثية، وإهداء كتيبات في بعض المناسبات (الزواج، رمضان، العقيقة، العيد…)، وتنشئة الأطفال من صغرهم على حب القراءة.

3- الحرص على قراءة الكتب الشرعية مع الابتعاد عن كتب الفلسفة والمنطق والفرق الضالة والمذاهب المبتدعة.

4- التنويع في القراءة والمطالعة، فقد كان محمد بن الحسن يرحمه الله قليل النوم في الليل وكان يضع عنده الدفاتر، فإذا ملّ من نوع، نظر في نوع آخر.

5- إعادة القراءة تثبيتاً للمعلومة، يقول البخاري يرحمه الله: لا أعلم شيئاً أنفع للحفظ من نهمة الرجل ومداومة النظر في الكتب.

6- إتباع القراءة والعلم بالعمل والتطبيق على صعيد الواقع والالتزام بذلك سلوكاً وآداباً وأخذاً وعطاءً وتعاملاً.

 

 

 

 

 

____________________________________

مستشار اقتصادي وأستاذ بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.

للتواصل: zrommany3@gmail.com.

Exit mobile version