هجمات الفلسطينيين تثبت عجز قوة الاحتلال أمام المقاومين

مثلت الهجمات الفلسطينية الأخيرة استهدافاً للجبهة الداخلية “الإسرائيلية”، لاسيما في مدن بئر السبع جنوباً، والخضيرة شمالاً، وتل أبيب في الوسط، وأوقعت أحد عشر قتيلاً، وخلال أسبوع واحد فقط، مما ساهم في استعادة “الإسرائيليين” لأيام صعبة واجهوها في الانتفاضتين: الحجارة 1987م، والأقصى 2000م، حين انطلقت سلسلة عمليات فدائية متعددة الأشكال في مختلف المدن الفلسطينية المحتلة عام 1948م.

وقد جاءت عمليات الأسبوع الأخير من مارس/آذار، استمراراً لانتشار المقاومة بين قطاعات مختلفة من الشعب الفلسطيني، لاسيما وأن المنفذين توزعوا بين فلسطينيي 48، والضفة الغربية، مما شكل دليلاً على فشل ذريع لاستراتيجية الاحتلال في مواجهة المقاومة، رغم أن التقديرات “الإسرائيلية” تحدثت أننا أمام موجة هجمات متوقعة عشية حلول شهر رمضان.

اعتقدت العديد من أوساط الاحتلال الأمنية والعسكرية، أن هذه العمليات مثلت إضعافاً لقدرات أجهزة الأمن على مواكبة تطوير نفسها، وأحالت التفوق النوعي الإسرائيلي، خاصة القنابل والصواريخ المتطورة إلى قوة محايدة، وأحبطت نظرية الأمن “الإسرائيلي”، وعملت على إحلال مفهوم المجتمع المذعور محلها، خاصة في ظل انتهاج المقاومة لأسلوب الضرب لمختلف الأهداف “الإسرائيلية”، وفي شتى مواقع جغرافيا فلسطين المحتلة.

مع العلم أن هذه العمليات الفلسطينية أفقدت الأسلحة التقليدية التي يحوزها الاحتلال من وسائل الهجوم والردع قيمتها، أو تكاد، لأن الصاروخ المطور بمعونة أمريكية يمكنه تهديد عاصمة عربية، أو تدمير قاعدة عسكرية لجيش نظامي، لكنه لا يستطيع إلقاء القبض على مقاوم يقتحم مستوطنة، أو مسلح يطلق النار في الشارع، أو يحمل سكينا ويطعن في المستوطنين.

تجلى الاعتراف “الإسرائيلي” بفشل وقف هذه العمليات، من خلال التأكيد على أن الجيش لن يكون بمقدوره أن يضع حداً نهائياً لهذه الهجمات بوسائل القوة، وإن أفضل سبيل للخروج من المأزق الأمني الذي تتواجد فيه “إسرائيل” هو التوجه بسلسلة من التسهيلات للفلسطينيين، وهو ما حصل فعلاً في غزة والضفة والقدس، دون الحديث عن فتح آفاق سياسية جديدة، في ظل حكومة بينيت-لابيد اليمينية.

لم يكتف “الإسرائيليون” المنتقدون لسياسة حكومتهم “الفاشلة” في عدم وقف العمليات، بل وصف السياسة الأمنية التي تكلفت الحكومة بتطبيقها بـ”الكارثية”، وتكمن أهمية هذه التصريحات، فضلاً عن كونها إقراراً بعجز القوة “الإسرائيلية” في القضاء على المقاومة، فإنها تصدر عن مرجعيات عسكرية نافذة وكبيرة.

وقد شهدت وسائل الإعلام “الإسرائيلية” في الأيام الأخيرة جملة اعترافات “قاسية” عن نتائج العمليات الفلسطينية، تعيد إلى الأذهان الوصف الذي أطلقه ذات مرة إيهود باراك رئيس الحكومة وقائد الجيش الأسبق، حين زعم أن “الفلسطينيين أضحوا مثل الوسادة، كلما وجهت لهم لكمة، ارتدوا بقوة، وكأنهم لم يتلقوا اللكمة”، ولم يخف “الإسرائيليون” إحباطهم من نجاح المقاومة الفلسطينية بعد كل ما تعرضت له من ضربات في تنفيذ هذه السلسلة من العمليات، مما يجعل حديث الأجهزة الأمنية عن تقليص قدراتها أمر ليس فقط مبالغاً فيه، بل ومحض خيال!

لا تتردد المحافل الأمنية “الإسرائيلية” في التأكيد، تصريحا وليس تلميحاً، أنه بغض النظر عن الجهود التي تبذلها الأجهزة الأمنية التي يتم استثمارها في ضرب المقاومة، لكن يتوجب الإقرار مرة واحدة وللأبد أنه لا يمكن القضاء على هذه المقاومة، ومن يندفع من بين قادة الجيش كي يعلن كل يوم انتصاراً وهمياً على المقاومة الفلسطينية، فإن ما تقوم به يمثل الرد الحقيقي والمؤلم على مثل هذه الإعلانات الفارغة من أي مضمون!

بدا لافتاً أن الأوساط البحثية والإعلامية “الإسرائيلية” استدعت بعد العمليات الأخيرة أحداث عامي 1996، و2002م، حين نفذت المقاومة الفلسطينية عشرات العمليات الاستشهادية في قلب المدن “الإسرائيلية”، مما دفع العديد من المعلقين للمطالبة صراحة بالتخلي عن الكثير من المسلمات التي تعلقوا بها في الماضي، ومفادها عدم القدرة على منع مواصلة استهداف “الإسرائيليين” في الشوارع والمقاهي والمنتديات، مما يجعل أي حديث “إسرائيلي” عن الحسم العسكري أمام الفلسطينيين ناجم عن شعور متوهم فقط!

لقد عبرت تلك الأقوال والتصريحات عن تململ في أوساط النخبة السياسية والعسكرية “الإسرائيلية”، ولكن ما طرحه المجتمع “الإسرائيلي” كانت تساؤلات جدية ومصيرية عن قدرة الجيش الحقيقية في تحقيق الأمن المفقود، حيث حفلت وسائل الإعلام بعشرات ومئات التقارير والمقالات التي شككت في جدوى هذه السياسة، وحذرت من عواقبها، مؤكدة أن من شأن الإمساك بالخيار العسكري لوحده تبديد إنجازات الحملات العسكرية من جهة، وزيادة دوافع المقاومة بين الفلسطينيين من جهة أخرى.

القناعة التي خرج بها “الإسرائيليون” من العمليات الأخيرة مفادها أنه طالما بقي هناك مسلحون، وتوفر للمنظمات الفلسطينية مقاتلون يسارعون بوعي وتصميم نحو أهدافهم، ويتطوعون لمهاجمة المواقع العسكرية للجيش، آخذين بالحسبان أنهم لن يعودوا من المعركة، طالما بقي كل هؤلاء، فلن تنتصر إسرائيل على الفلسطينيين، والتجربة تشير أن المعدلات الإحصائية والمنحنيات التي تشير لانخفاض عدد العمليات، مسألة مؤقتة، ولا تبشر بحسم المعركة أمام الفلسطينيين، مما يجعل إعلانات النصر تعبر عن أمنية “إسرائيلية”، أكثر من كونها تجسيدا للواقع!

مع العلم أن الاجتماعات الماراثونية لحكومة نفتالي بينيت والمجلس الوزاري المصغر للشئون الأمنية والسياسية لدراسة الرد على تصاعد عمليات المقاومة، تعطي انطباعا مزيفا بأن هناك خيارات أمنية لم يستخدمها الجيش ضد الفلسطينيين، لكن الحقيقة أنه استنفد كل طاقته في مواجهتهم، ورغم ذلك فقد أكدت العمليات الأخيرة أن بنية المقاومة لم تقوض، ومع انتهاء كل الحملات العسكرية “الإسرائيلية” ضد الفلسطينيين، وكنتيجة لها، فقد ازدادت دوافعهم للانتقام، وتطورت أساليبهم، وتضاعفت جرأتهم.

ما من شك أن سلسلة العمليات الفلسطينية الأخيرة شكلت عامل إحراج كبير لجيش الاحتلال وأجهزته الأمنية، وعلى رأسها جهاز الأمن العام- الشاباك، ووصل الإحراج والإرباك درجة لا تحتمل، حين بدأ كبار قادته يغيرون لهجتهم، وكفوا عن الحديث عن القضاء على المقاومة، وأخذوا يعترفون بأن ما يمكن فعله فقط هو محاولة تقليص حجمها، انطلاقا من فرضية إسرائيلية تسللت الى أروقة صناعة القرار السياسي والعسكري مفادها أن البنية التحتية للعمليات ليست مادية يمكن تدميرها بعملية عسكرية، بل معنوية كامنة في وجدان كل فلسطيني.

لعل هذا ما قصده ضابط “إسرائيلي” كبير وهو بصدد استعراض جهود الأجهزة الأمنية في القضاء على قوى المقاومة، قائلا: لقد نجحنا في تصفية كل الخلايا العسكرية، وبقيت أمامنا خلية واحدة فقط عدد أفرادها أربعة ملايين فلسطيني، مما يعني أن هذه البنية في المناطق المحتلة هي جميع الرجال الذين تتراوح أعمارهم بين 17-50 عاما، وقد اعتقل الجيش ما نسبته 5% منهم، والنتيجة العملية للحملات العسكرية “الإسرائيلية” ضد الفلسطينيين عقب الهجمات الأخيرة ستكون إثارة الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال، بحيث يتحول كله إلى مسلح محتمل.

وصل الأمر ببعض الكتاب “الإسرائيليين”، على قلتهم، لمطالبة دولة الاحتلال بألا تندهش حين يأتي الفلسطينيون مفعمين بالحقد، ويطلقون النار على “الإسرائيليين” في شوارع “إسرائيل”، ويستلون سكاكينهم باتجاههم، أو يدعسونهم بسياراتهم، لأن هؤلاء المهاجمين تحولت حياتهم الخاصة عذاباً، ولذلك فهم يسفكون دماءهم في مطاعم “الإسرائيليين” ليفسدوا شهيتهم، لأن عندهم أطفالاً وأهالي في منازلهم يعانون الجوع والإذلال من سياسة الاحتلال.

Exit mobile version