“خطف الأطفال المقنن”.. عربي يروي قصة احتجاز بناته الثلاث من قبل مؤسسات الرعاية في إيطاليا

 

إذا القومُ قالوا: مَن فَتًى؟ خِلتُ أنّني     ‏عُنِيتُ، فلم أكسَلْ ولم أتبَلّدِ

‏ولستُ بحَلاّل التِّلاعِ مَخافَةً                ‏ولكن متى يَستَرفِدِ القومُ أرفِدِ

بهذه الأبيات الشعرية بدأ حديثه معي ليُذكِّرني أنه عربي من جذور عربية ثم تابع مبتسماً ابتسامةً ساخرة: أنا الشخص الذي إذا سمعتُ يوماً قصة اختطاف الأطفال لم أكن لأصدقها أبداً ولا أتخيل أنها قد تحدث، إذا كُنت أعتقد يوماً في المستحيل فكنت أعتقد أيضاً أنَّ المستحيل يُمكن تحقيقه، فهذا الذي حدث أبعد بمراحل كثيرة عن “المستحيل” إِنَّه “الخيال” الذي تَحول إلى واقعٍ عشته بنفسي، قصة طويلة أحفظ فصولها جيداً، ولِم لا وأنا من كان عليه أن يُدونها ويوثِّقها في عقله وخاطره يوماً بعد يوم كي لا أنساها ما حييت.. ولا أظنها تُنسى.

نبيل الدُريدي، صاحب هذه المأساة العائلية، ولأنه أراد أن يقُص قِصته كما وقعت بترتيب الأحداث ورؤيته الخاصة لقضية “خطف الأطفال المُقنَّن”، كما أطلق عليه في إيطاليا، فقد رأينا أن نترك له المساحة كاملة كي يُطلعنا على ما عنده دون أن نقاطعه.

في البداية، أُعرفكم بنفسي؛ نبيل الدريدي، تونسي الجنسية، مُقيم في إيطاليا، قبل الاستقرار فيها وبناء أسرة تنقَّلت كثيراً بين الدول الأوروبية.

في بلدي تونس زاولت مهنة التعليم بعدما تخرجت في كلية الآداب، أتكلم خمس لغات.

عندما قررت الاستقرار في إيطاليا بدأت في مزاولة المهنة التي أحببتها بقدر حبي للُّغة العربية والشعر وهي “البستنة”، أملك شركة صغيرة للبستنة، وأعمل لحساب نفسي، ويعمل عندي عدد من الأشخاص من جنسيات مُختلفة.

والبستنة لمن لا يعرفها هي تنسيق الحدائق والمنتجعات وتحويلها إلى جنات خضراء.

مكنتني هذه المِهنة من التواصل المباشر مع كبراء القوم في إيطاليا ورجال الأعمال والساسة لأنهم هم من يملكون المنازل الكبيرة والمنتجعات، لذلك فأنا رجل معروف في بلده لديه العديد من العلاقات، قدَّمت أعمالاً اجتماعية وثقافية، وكنت أولَ من أنشأ مكتباً للمهاجرين (نادياً أو منظمة) للمقيمين الشرعيين في البلدية، وكنت أنا الكاتب العام للنادي، وكانوا من 23 دولة مختلفة، كتبت لرؤساء الدول دعوات بخط يدي ودعوتُ السفراء في حفلٍ أقمناهُ احتفالاً بــمناسبة “توأمة جزيرتي جربة التونسية وجزيرة بونتاليكوزا الإيطالية”.

تزوجت من أوكرانية، وأنجبتُ ثلاث بنات (عالية، وجنات، وعالجية)، وقبل أن أبدأ بسرد القِصة كاملة أحب التنويه بأنني ما زلت مواطناً تونسياً، وبناتي يحملن الجنسية التونسية، وزوجتي تحمل جنسيتها الأوكرانية، لم يتخل أي منا عن جنسيته، نقيم في إيطاليا بطريقة شرعية وبإقامة مؤقتة علينا أن نقوم بتجديدها كُلَّ عامين ولم نرغب أبداً بإقامة كاملة -رغم بقائي فيها 22 عاماً- لأننا قد اتخذنا قراراً مُسبقاً عندما شرعنا في بناء أسرتنا أننا لن نستمر في إيطاليا ولن تكون الوطن الدائم لنا، ولعلها من هنا بدأت القصة وتشعبت فصولها.

 

ضربوني في وقت غفلة

احتالوا عليَّ في العام 2018 عندما قررتُ أن أشتري بيتاً أكبر يناسبُ عائلتي التي كبُرت بدورها، حتى أصبحنا نحتاج لمساحة تناسب الفتيات الثلاث، فالكبرى كانت 13 عاماً، والصغرى 3 سنوات، والوسطى 9 سنوات.

قُمتُ بِشِراء بيتٍ أكثر مُلاءمة من البيت القديم، كبير وفاخر وأثثته أثاثاً فاخراً أيضاً، لم أهتم كثيراً عندما اشتريت البيت من صاحبه الإيطالي المُسن الذي كان لديه العديد من المُشكلات في الإرث ولم يستطع توثيق “العقد” بشكلٍ رسمي في ذلك الوقت حتى يتمكن من حَلِّ مشكلاته مع الورثة، ولكني اشتريت البيت واكتفيت بالعقد المؤقت حتى ينتهي من حَلِّ مشكلاته.

الانتقال إلى بيت جديد في ضاحية جديدة يعني تغيير المدارس، وفعلاً توجهت بنفسي إلى قصر البلدية لأقوم بتغيير العنوان وطلب الانتقال للمدارس وكذلك الحافلات المدرسية. 

قمنا بالعمليات الكاملة وترسيمهم في المدارس الجديدة وبدؤوا مباشرة الدراسة، كل شيء على ما يرام، وانطلقنا في حياتنا. 

بقي فقط أن نُكمِل إجراءات الحافلة التي تعثَّرت قليلاً بسبب تغيير العنوان، اتصلنا بالسلطات المحلَّية وقمنا بكل الخُطوات الطبيعية وتقديم كُلّ الأوراق غيرَ أنَّ تاريخ انتهاء إقامتنا مما يُعلن عن قُرب تجديدها كان قد أقترب، لم تنتهِ لكن أوشكت على الانتهاء، وعندما قدَّمنا الأوراق المطلوبة سار كُل شيءٍ بشكلٍ جيد، إلَّا أننا كان ينقصنا عقدُ البيت ولم يكن صاحب البيت قد حَلَّ مشكلته بعد مع الورثة.

مر ثلاثة أشهر فذهبتُ لِصاحب البيت مرَّة أُخرى وطلبتُ منه أن يُوثق ليَ العقد، إلَّا أنه قال لي: لا يمكنني الآن، ما كان مني إلَّا أن ذهبتُ للمُرشدة الاجتماعية في قصر البلدية وأخبرتها بما حدث مع صاحب البيت، جاءت المُرشدة إلى البيت لتقييمه فكتبت في تقريرها: “بيتٌ جميل جداً، فاخرٌ جداً وأثاثه فاخر، ولكن المشكلة الوحيدة هي وثيقة شراء البيت ناقصة”، وبدأ بتخويفنا.

إخافة زوجتي وكما لو أننا قدمنا إليها هدية بدون تعب أو مُقابل، أخبرَت زوجتي أنه في حالة حدوث حادث أو حريق أو ما شابه فإن سيارات الحماية لن تتمكن أبداً من الوصول إليكم لأنكم غير مُسجلين في البلدية.

قلتُ لها: وما الحل؟ قالت: إن إقامتك أوشكت على الانتهاء وإنك لن تتمكن أبداً من الحصول على بيت قبل انتهاء الإقامة.

العقدة في المنشار!

العملية مزدوجة ومُعقدة والوقت قصير وهي تعلم ذلك، فما كان منها إلَّا أن بدأت بالضغط علينا ومُحاصرتنا، لم تُمهلنا الوقت لفعلِ شيء.

شراء بيت يحتاج لتجديد الإقامة ولا يمكن تجديد الإقامة بدون بيت، كُلُّ شيء بات مُستحيلاً أمامي، أحتاج عقد البيت لتجديد الإقامة وأحتاج الإقامة كي أجد بيتاً آخر.

في هذه الأثناء كانت المُرشدة تتحدَّث مع زوجتي باستمرار وتضغط عليها بهدوء ومهارة تدرَّبت عليها جيداً، بَدَت لنا وقتها وكأنها ملاك الرحمة، تُريد إسعافنا وكأنها خُلقت خصيصاً لرعايتنا وحماية مصالحنا، وبدأت تُلح على زوجتي بقبول العرض الذي قدَّمته لنا وهو أن تذهب هي والبنات إلى دار رعاية لمُدة ثلاثين يوماً.

لم تقل لها لمدة “شهر” حتى لا يبدو وقع الكلمة ثقيلاً على الآذان، أرادت أن تجعلها مُجرَّد أيام فقط.

ثلاثون يوماً لا غير حتى يتدبَّر زوجك بيتاً، وبعدها تنتقلوا للإقامة معه مرة أخرى وليس هناك ما يدعو للقلق أو الريبة. 

من هذه العين لا أُريد أن أشرب ماء

قصَّت زوجتي على مسامعي ما دار بينها وبين المُرشدة، فقُلتُ لها نصاً: “من هذه العين لا أريد أن أشرب ماء، أموت عطشاً ولا أشرب منها حتى لو اضطُررت لمغادرة إيطاليا فلدينا بيتٌ في تونس وآخر في إيطاليا ومهنتي أستطيع أن أمتهنها في أي مكان فمثلي مثل “الحلَّاق” يحلِق الشعر في إيطاليا، في أمريكا، في اليابان، لا يتغير شيء، وأنا لن أنفصل عن بناتي حتى في مجرد الفكرة، أو التخَيُّل، ولن أتركهن يغيبن عني ولو يوماً واحداً وأن ذهابي إلى تونس أفضل من ذهاب بناتي لدار الرعاية”.

وكأنها أرادت أن تسمع مني ذلك، فقالت: لا يُمكنك أن تُغيِّر حياتك أو تقلِبها من أجل 30 يوماً، فالسكن مجاني كما ستحصل زوجتك وبناتك على إعانة شهرية، فقلت لها: لستُ أنا الذي يحتاج لإعانة، وأني أملك المال أكثر من كثير من الإيطاليين أنفسهم، فأنا لا أحتاج لتلك المِنحة رُغم أنها حقٌّ لنا فنحن عائلة متعددة الأفراد والجنسيات ولكني لا أريده.

جادلتني كثيراً وقالت: إنَّ هذا حقك، ولزوجتك حق لأنها تعمل لصالح البنات، وكأنها تفتح لنا أبواب الجنة، فأخبرتها أني لست عمر بن الخطاب، ولا أبا لهب، لكنِّي لا أُريد منحتكم، ولكنها لم تيأس ولم تتوقف عن الاتصال بزوجتي وتزيين الوضع لها، كما أنها ذهبت لصاحب البيت وهددته بأخذ البيت مِنه لأنه لا يملك أوراق ملكيته الرسمية، ونظراً لشيخوخته فقد خافَ على نفسه وممتلكاته وله الحق.

كما أخبَرَته أنه في حال حدوث حادث لا قَدَّر الله فإنه المسؤول أمام القانون، وفعلاً أرسل لي ليُخبرني أن أجِد بيتاً بديلاً وأنتقل إليه خلال أيامٍ قليلة.

كان يعلمُ أنَّ ذلك مستحيلٌ أن يحدث خلال أيام، وفي أثناء ذلك كانت تتحدث مع زوجتي وتُضخِّم لها المشكلة، وكأنَّنا في مأزق لا حَلَّ له إلَّا من قِبَلِها، ولكن ذلك كله لم يكُن إلَّا مأزقاً مُصطنعاً ولم يكن بهذه الضخامة التي تُصورها، فقد استقبلتُها أكثر من مرة في المنزل وكل شيء كان أمامها على ما يُرام.

يوم الثلاثاء 13 ديسمبر 2018

الكثير يعلم معنى هذا التاريخ في إيطاليا أكثر من أي مكان آخر (إيطاليا المسيحية) أكثر من أي مكان آخر، أكثر من الفاتيكان وبيت لحم، الكُل مُنشغل بأعياد الميلاد بالإضافة أنه موسم التصفيات مع اقتراب نهاية العام، “تقفيل” الميزانيات والجرد السنوي والانتقال، الكُلُّ مشغولٌ جداً في هذا الوقت.

ولذلك استغلت المُرشدة الاجتماعية الفرصة وذهبت إلى زوجتي أثناء وجودي في العمل، فقد كُنتُ أعمل في حديقةٍ كبيرةٍ جداً، وكان مالك الحديقة صاحبَ أكبرِ مصنع الموزاريلا في العالم ويُدعى تري إستيلي، وهي أكبر منطقة لصناعة الموزاريلا في العالم، كنتُ بعيداً عن المنزل حوالي 70 كيلومتراً، اتصلَت بي زوجتي بعد الظهر وأخبرتني أنَّ المُرشدة جاءت إلينا ومعها شُرطة البلدية وأنها سوف تنتقل للإقامة في دار الرعاية وتأخذ معها القليل من الأغراض لأنها لن تغيب أكثر من 30 يوماً، كما أخبرتني أنها إذا لم نذهب في الحال فإنَّ عائلة أُخرى ستأتي لتُقيم في المنزل وستضيع فرصتنا، بدَت وكأنها تُقدِّم لهم خِدمة عظيمة وأنَّ الأمر مُستعجلٌ جداً.

تركتُ العمل وتوجهت نحو المنزل، إلَّا أنني لم أجدهن، ولكن وجدت صاحب البيت يُخبرني أنني لا أستطيع البقاء في المنزل إلَّا تلك الليلة فقط ثم أرحل في الغد، وهو يعلمُ جيداً أنهُ يطلُب أمراً خارقاً، فحتى لو كنتُ أملِك بيتاً فلا يمكنني نقلُ أثاث البيت بالكامل في ليلة واحدة في الشتاء القارس وفي أعياد الميلاد.

اتصلتُ بأختي التي تقيم في المنطقة نفسها، وجاءت مُسرعة ومعها أختي الثانية، ذهبت معهما، وفي الصباح توجهت مباشرة إلى القنصلية التونسية بعد أن طلبتُ موعداً عاجلاً مع القُنصل وأنا معروفٌ هناك، قالوا لي: اترك الأوراق وسوف نرى ما يمكننا عمله.

بعدها اتصلت بالمرشدة لتُطمئني على البنات وعلى زوجتي التي كنت شديد الغيظ منها في هذه الأثناء لأنَّها اتخذت القرار مُنفردةً ولم تنتظرني، رغم أني كنت أعلم أنها اضطرت لذلك، وأن المرشدة هددتها بأن تأخذ البنات وحدهن؛ لأنها لا يمكن أن تتركهن يسكنّ في بيت غير مسجل، لكني رغم ذلك كنت مغتاظاً منها حانقاً عليها.

القنصلية طمأنتني، والمرشدة تطمئنني من ناحية أخرى وتخبرني بأني أستطيع زيارة زوجتي وبناتي متى شئت، وأنَّ عليَّ الاهتمام بإيجاد منزل في القريب العاجل لأسترد أسرتي.

هي تعلم أن إيجاد منزل خلال يوم أو يومين أمرٌ مُستحيل، وخاصة إذا كنا في وقت الأعياد وفي تلك المنطقة التي أسكن فيها، أي أنَّ الظرف الوقتي والظرف المكاني لم يكونا في صالحي، ذهبتُ إلى بيت أختي مرة أخرى، من فترة إلى أخرى تأتي زوجتي أو إحدى البنات مع المُرشدة إلى البيت ليأخذن بعض الأغراض القليلة مثل كُتب المدرسة أو الملابس ويعودن لبيت الرعاية.

بعد أيام أُصبتُ بجلطة وتدهورت حالتي وتم نقلي إلى المستشفى عن طريق طائرة الإسعاف وليس سيارة الإسعاف وذلك لسوء حالتي في ذلك الوقت، فقدتُ الوعي وأفقت في الطائرة وقصُّوا عليَّ ما حدث.

بقيت يوماً في المستشفى ثم انتقلتُ بعدها إلى بيت أختي وأنا في حالةٍ حرجة صحياً ونفسياً، كُنت أكلِّم نفسي وأسير هائماً وحدي وظهرت التغييرات السلبية على شخصيتي، أصبحتُ أشتاق لعاداتي القديمة مع البنات، كنت أذهب كل يوم إلى السوبر ماركت وأنا عائد من العمل، تتصل البنات في وقتٍ معين ليطلُبن ما يُردن فأشتريه لهُن ثمَّ أذهب إلى البيت.

تغيرت حالتي وشعرت بالفراغ وانقلابٍ كبير لحياتي، فلم تعد الحياة كسابق عهدها، بناتي كبيرتهن كانت صغيرة وتم انتزاعهن مني جميعاً.

أصبحت لا أذهب إلى السوبر ماركت ولا إلى العمل نفسه ولا إلى المنزل، ظللتُ مُستاء لمدة عشرة أيام من زوجتي ومن انفرادها بالرأي وبدأت أستعيد وعيي فذهبت إليهن لنبحث سوياً عن حل.

وصلتُ إليهن وكان الاستقبال حاراً وخاصة من المُرشدات وكأنَّهن ملائكة الرحمة! وكدن يبكين من التأثر لما حدث لنا، ويؤكدن أنهن سوف يساعدننا على إيجاد الحل بأقصى سرعة، صدقوني لو أني أرى المشهد من بعيد أو أسمعه من أحد لصدَّقتُ تمثيلهُن المتقن البارع، ولكن ليس أمامي إلَّا أن أُصبِّر نفسي وأُصَبِّر بناتي، أذهب لزيارتهن وأحمل لهُن ما يُردن وأبحث عن منزل وأبحث عن حلِّ لتجديد الإقامة.

اتصلتُ بالقنصلية وعلمت أن المرشدة اتصلت بالقنصلية أيضاً وأخبرتهم أنها تعمل لصالحنا ووكَّلت لنا محامية لم أرتضيها أبداً لكنَّها أصرت عليها.

الجُب

أصرت المرشدة على هذه المحامية، وادعت أنها خبيرة وراحت تتواصل مع القنصلية وبعض العاملين فيها وتتواصل معي لتعرِف أين أنا وما توصلتُ إليه وهم في أثناء هذا يحفرون لي الجُب.

حاولت أن أهدأ وأكون طبيعياً، مرَّ الشهر الأول ولم أجد منزلاً، وعدني بعض المُلاك ببيوت لكن بعد فترة.

مرّ الشهر الثاني أيضاً، بدأت أُلاحظ أني كلما ذهبت لزيارتهن وجدت زوجتي وحدها والبنات خرجن مع المرشدات، يتحجَّجن بأن السيارة لا تسمح بكل هذا العدد، يتعمدن ألَّا ألتقي بالبنات كثيراً، ويتعمدن أن يختلين بهن بعيداً عن أمهن.

وكنت أخشى من ذلك بشدة؛ لأنهن يمارسن دائماً مختلف أشكال الاستغلال بحق الأطفال والبنات سواءً من أجل إرسالهن إلى عائلات المثليين التي تقوم بتبنيهن وتعليمهن المثلية الجنسية، أو إجراء التجارب الطبية على عدد من الأطفال وإعطائهم العقاقير الطبية التي يريدون اختبارها وحتى بيع بعض الأطفال بعد إخفائهم عن ذويهم لمُدة طويلة، للأسف إنهم يقومون بتجارة البشر وتجارة الأعضاء دون حسيب أو رقيب.

بدأت أُلاحظ أنَّ زوجتي تتغير شيئاً فشيئاً، صارت أكثر هدوءاً أو لا مبالاة في حالة من الاسترخاء الغريب جداً عليها، ليست منزعجة لشيء وكأنها لم تخسر شيئاً!

كأنها امرأة أخرى حتى علمتُ أنهم يُعطونها مُخدِّراً، لقد كانوا يُدسون لها المُخدِّر في الطعام أو الشراب، زوجتي التي كانت تفترس كلَّ من يقترب من البنات حتى ولو كانت ذبابة، حتى في طريقة حديثها معي كانت شخصاً آخر!

كان عليهن أن يُطبِّعوها معهن، فتركَت الأمر لهن تماماً لا تتدخُّل في أي شأن من شؤون البنات، وكن أيضاً هن من وضعن لها الحدود التي يجبُ ألَّا تتعداها مع بناتها.

في الفترة الأولى من إقامتهن في دار الرعاية كانت زوجتي تقوم على كل ما يخص البنات، وتطهو لهن الطعام بأيديها وتنظفهن وتمشِّط شعورهن.

رغم وجود المرشدات وجود امرأتين لكل منهما ابن يشاركون عائلتي السكن، لكن مع الوقت بدأ دور زوجتي يتراجع، ورغبتها في أن تقوم بدورها الذي ارتضته لنفسها يتراجع حتى انتهى تقريباً وهي لا تُبالي ولا تشعر بذلك.

بدأتُ أعود للعمل رويداً رويداً حتى لا أخسر الزبائن وأملاً في الحصول على منزل وفي توفير محامِ، كانت زوجتي تأتي إليَّ في العمل أثناء وجود البنات في المدرسة، كما أن المُرشدات يفضِّلن أن تذهب زوجتي حتى يختلين بالبنات، وكُنت أُفضِّل أن تأتي زوجتي حتى أتمكن من الحديث معها بعيداً عن المرشدات.

بدأت أحوال زوجتي تتدهور، تهمل في نفسها، مظهرها، نظافتها، غير العهد السابق فليس لها بيت تتحرك فيه براحتها ليس لديها حمام، فالحمام مُشترك للجميع.

وذات يوم اتصلت المرشدة وأخبرتني أن أحضر فوراً، ذهبتُ فوجدت زوجتي في حالة يُرثى لها، والمرشدة تُخبرني: خُذ زوجتك فهي لا تريد أن تتعاون معنا كما ينص القانون.

أخبرتها أني لم أجد منزلاً فقالت: إنها ليست مشكلتها ورفعت صوتها وأمرتني أن أصمت وكأن شيئاً ما قد تغير، وكأن الأوراق التي بين يديها هي من سيحدد مصيرنا. 

ثم قالت: سأكتب أنك أب غير صالح وأنك وأنك..

قلت لها: تعلمين أنه غير صحيح!

قالت: أرأيت السماء وفيها ربكم الأعلى انظر إليه فإذا تعبت عينك وتعبت من الحديث مع ربك فلم تجد رداً، فات لي فأنا ربك الأسفل (تعالى الله) فكل شيء في يدي وإن لم تأتمر لي فالأمر سيكون أكثر صرامة أقلُّ ما يمكنها فعله منع الزيارات!

في هذا اليوم طلبتُ موعداً مع القنصلية في السفارة، أخبرتهم أن بناتي تونسيات يحملن الجنسية التونسية وفقط، وأنَّ عليها التحرك لحماية ورعاية أفراد الشعب التونسي في إيطاليا، لكن السفارة لم تتعاون معنا، خاصة بعدما فعلوا ما بوسعهم لتسقط الإقامة حتى لا نتمكن من إيجاد منزل حتى إني تحدثت مع القنصلية أننا الآن مهاجرون غير شرعيين بعد أن سقطت إقامتنا وأن على السفارة أن تقوم بترحيلنا فوراً، إلَّا أن السفارة كانت متواطئة بشكل ما مع المرشدات.

وكنت في وقتٍ سابق قد هدَّدتُ بِحرق نفسي أمام القنصلية وإن لم تسمع لي فأغرقت نفسي بالبنزين واستدعيت قوات الأمن وأخبرتهم أن هذه رسالة إلى تونس، فانتفاضة واحدة لا تكفي وعليها أن تنتفض مرَّة أخرى، فهذه رسالة لتونس التي باعت أبنائها في الخارج، كنتُ أستجلب أنظارهم فقاموا بنقلي لمستشفى المجانين لمدة 15 يوماً. 

فصل جديد للقصة 

أعادت المرشدات زوجتي حتى ينفردن بالبنات، ووصلن لما أرادن بعدما أثبتن أني لست صالحاً لرعاية بناتي، بعدما دفعنني دفعاً لمحاولة الانتحار، وكأنك دفعت أحدهم ليقع في البحر ثم تتعجب كيف تبللت ملابسه!

زوجتي لمدة 4 أيام كانت تنام على الشاطئ في الشارع، امرأة كانت أستاذة في بلدها (أوكرانيا)، وأقول أستاذة وليست مدرسة تنام في الشارع أثناء مدة بقائي في المستشفى.

وفي هذه الأثناء أرادت المُرشدة أن تُرسلنا لملجأ المرشدين، وهنا يجب أن أنبهكم أن في ذلك مصالح وأهدافاً عديدة حققتها المرشدة.

فهذه صلاحية جديدة لبقاء البنات معهن، الأمر الآخر هو إعمار هذه الملاجئ، الهدف المادي العائد عليهن من ذلك، فالأمر تجارة بالبشر بصورة مُقنَّنة رسمية.

فالتكلفة 400 يورو للفرد (الطفل) في اليوم الواحد يعني بناتي الثلاث تصرف لهن الدولة 1200 يورو كل 24 ساعة، لا ينفقن منها أكثر من 5 يوروهات على الطفلة، والباقي يتم تقسيمه بينهن وبين المحامين في فريقهن والأطباء النفسيين، أستطيع أن أؤكد لكم أنهم عصابة مُقنَّنة تعمل بشكلٍ رسمي تحت رعاية الدولة.

بدأن يأخذن ابنتي الكبيرة للأطباء النفسيين ويعطينها الأدوية والمهدئات، ومن ثم دخلت علينا مشكلة كورونا فمنعن الزيارة، ضغطن على البنات كي لا يُجبن على الهاتف، وقمن بغسل أدمغتهن.

وقد حصلت على تسجيل كيف كن يضربن بناتي وخاصة الكبيرة لأنها كانت ترفض الانصياع لهن، حتى قمن بترويضهن.

ثم، دخلتُ وزوجتي مأوى المُشرَّدين وبقينا فيه أكثر من عام، كانت فترة تُحسب لنا، فلم ندفع إيجاراً، وكنت أعمل بجد واجتهاد، لم توقفني أزمة كورونا، فأنا أعمل في الهواء الطلق، وكنتُ رب عملي فاشتغلت بكثرة، كنا ننفق فقط في الاحتياجات اليومية الضرورية، فاستطعتُ شراء منزل وتأثيثه وانتقلتُ وزوجتي للإقامة فيه وها نحن نسكنه منذ قرابة العامين ولكننا لم نسترجع البنات بعد.

في الأول من مارس 2022، قررت المحكمة عقد عدة لقاءات مع الأم لتقرر موظفات “البسيكولوجيا” مدى قُدرتها على ممارسة دورها كأم للبنات، ونحن الآن في انتظار ما ستقرره تلك الاجتماعات مع الأم بخصوص عودة الزيارات التي كانت ممنوعة.

ها نحن هنا بعد 4 سنوات عجاف رأينا فيها ما لم نتخيل أنه موجود وواقع، ورغم أني لم أصمت يوماً ولم أرضَ بالأمر الواقع، فمن السفارة لمحاولة الانتحار إلى مستشفى المجانين ثُمَّ دار إيواء المُشردين لم أتوقف يوماً عن الثورة والرفض، ولم تلق قضيتي أيَّ استجابة في بلدي تونس ولا في أي بلد آخر عربي أو غربي.

كأننا لسنا بشراً أو مواطنين، الإعلام الذي يتحرَّك لأقل من الكائنات الحية لم يتحرك لنا طيلة 4 سنوات، تركونا نعاني في صمتٍ قاتل، فيصمد منا من يمكنه الصمود، ويسقط من لم يتمكن من المواصلة، غير أنِّي لن أصمت حتى تعود إليَّ بناتي وأعود إلى سابق عهدي لأتلقى اتصالهن في وقت العودة من العمل فأمر على السوبرماركت ثم أعود للمنزل وقد حملت لهن كل ما يريدن مني، فهذا هو الأب الذي أريد.

Exit mobile version