“منتدى أنطاليا الدبلوماسي”.. علامة تركية مسجلة

 

استضافت مدينة أنطاليا التركية، بين 11 – 13 مارس الماضي، «منتدى أنطاليا الدبلوماسي» في نسخته الثانية، بعد أن كانت المدينة احتضنت المنتدى لدى إطلاقه العام الماضي، وقد أظهر حجم المشاركة من جهة، واللقاءات المتعددة على هامشه من جهة ثانية، وكذلك بعض الاختراقات الدبلوماسية التي شهدها من زاوية ثالثة نجاح تركيا في تسجيل المنتدى على الساحتين الإقليمية والدولية.

هذا العام، أثبتت تركيا أن «منتدى أنطاليا الدبلوماسي» لم يكن قفزة في الهواء، وإنما يعبر عن رؤية واضحة لديها، من خلال التأكيد على أهمية حل المشكلات والأزمات الدولية والإقليمية بالوسائل الدبلوماسية.

وقد زاد توقيت عقده، على هامش الحرب الروسية – الأوكرانية، من أهميته والاهتمام به.

فقد شارك في المنتدى، في نسخته الثانية، في مارس الماضي، 17 رئيس دولة وحكومة، و80 وزيراً، وممثلون عن 39 منظمة دولية، وكان العنوان الرئيس للمنتدى هذا العام «إعادة بناء الدبلوماسية»، وشعاره «نفكر معاً، نتحرك معاً»، بما يعكس الفكرة الرئيسة للمنتدى التي تتمحور حول التعاون وتضافر الجهود لحل الأزمات عبر الطرق الدبلوماسية السلمية.

وكان من اللافت، إضافة للزيادة الملحوظة في عدد المشاركين ومناصبهم عن العام الماضي، الرعاية الدولية للمنتدى والدعم له؛ حيث شارك الأمين العام للأمم المتحدة «أنطونيو غوتيريش» عبر رسالة مصورة أرسلها لتعرض فيه، كما شارك في أعماله أمين عام حلف شمال الأطلسي (الناتو) «ينس ستولتنبرغ».

اختراقات

أول ما يلفت الأنظار هو أن تركيا استطاعت أن تصنع لنفسها منتدى يمثل ماركة عالمية مسجلة باسمها على غرار منتدى «دافوس» الاقتصادي، ومؤتمر «ميونيخ» للأمن، وأن الفكرة الرئيسة للمنتدى أقرب لنهج تركيا مع العدالة والتنمية في بداياته؛ أي التركيز على التعاون على أساس الربح للجميع وانتهاج الدبلوماسية والحوار، وهو نهج عادت له أنقرة في السنتين الأخيرتين بشكل ملحوظ بعد سنوات من السياسة الخارجية المتوترة مع عدد من الأطراف الدولية والإقليمية.

وبالتالي، كان المنتدى أكثر مناسبة للتقاليد السياسية والدبلوماسية التركية من جهة، وأكثر ملاءمة لتوجهات السياسة الخارجية التركية حالياً، حيث تسعى أنقرة منذ بدايات عام 2021م إلى تدوير زوايا الخلاف وتخفيف التوتر وفتح آفاق الحوار والتعاون مع عدد من القوى الإقليمية التي عُدَّت خلال السنوات الماضية من خصومها الكبار.

أول مؤشرات نجاح المنتدى وقبوله كان الاستمرارية، حيث عقد المنتدى الثاني رغم الظروف الدولية المتوترة بسبب الحرب الروسية – الأوكرانية، بل ربما زادت الأخيرة من أهميته كثيراً، وثانيها زيادة الاهتمام والمشاركة في المنتدى كماً وكيفاً، وهو ما يعني أن المنتدى قد ثبت لدى مختلف الأطراف كتجمع دولي دوري ثابت وقناة للتواصل بين مختلف الأطراف، الصديقة والخصمة، بما شكل حافزاً للمشاركة والحرص على التواجد.

وثالث مؤشرات النجاح التفاف مختلف المتحدثين حول عنوان المؤتمر وشعاره وفكرته الرئيسة، ولا سيما في ظل الأزمة الأوكرانية الأخيرة التي ألقت بظلالها السلبية على العالم إنسانياً واقتصادياً وإستراتيجياً، وثمة تخوفات حقيقية من تفاقمها وتعمقها وتحولها لأزمة أكبر بين روسيا وحلف «الناتو».

ومن مؤشرات النجاح كذلك العدد الكبير من اللقاءات التي أجراها الرئيس التركي ووزير خارجيته مع المشاركين في أعمال المنتدى من شخصيات سياسية رسمية ومنظمات دولية ومنظمات مجتمع مدني وغيرهم، وهو أمر ساهم في زيادة زخم الدبلوماسية التركية وقدرتها على الوصول والتواصل مع مختلف الأطراف، وشرح وجهات نظرها لأكبر عدد ممكن منهم في زمن قياسي.

ولكن المؤشر الأهم، في رأينا، هو نجاح تركيا في جمع عدد من الخصوم أو المختلفين بل والمتحاربين على طاولة حوار واحدة، وهو ما يمكن أن نسميه «سياسة الجمع بين الخصوم»، ولعل المثال الأبرز لذلك كان القمة الثلاثية التي جمعت في أنطاليا وزيرَيْ خارجية روسيا وأوكرانيا مع نظيرهما التركي، فقد عُدَّ اللقاء الاختراقَ السياسي الأبرز منذ بدء الحرب الروسية على أوكرانيا، رغم أنه لم يخرج عنه اتفاق أو حتى وقف مؤقت لإطلاق النار، لكنه على أقل تقدير مثّل إقراراً من الجانبين بأن الحل ينبغي أن يكون سياسياً لا عسكرياً، ومنح الجميع جرعة من التفاؤل بإمكانية البناء على اللقاء الأول.

وقد سجل ذلك في خانة الوساطة التركية بين روسيا وأوكرانيا، حيث تفتخر أنقرة بأنها من العواصم القليلة جداً التي ما زالت قادرة على التواصل والحديث مع طرفَيْ الحرب، وهو أمر أثنى عليه حلفاؤها وأصدقاؤها الغربيون، وفي مقدمتهم حلف «الناتو» والولايات المتحدة الأمريكية وبعض الأطراف الأوروبية الفاعلة، كما يمكن أن نسجّل أن تركيا قد بنت فعلاً على اللقاء الأول واستمرت في التواصل والحوار مع الجانبين ونقل الأفكار بينهما، ليتحدث وزير الخارجية «تشاووش أوغلو» بعد ذلك بفترة وجيزة عن أمل ارتفع منسوبه بإمكانية التوصل لوقف مؤقت لإطلاق النار، وعن تقارب في وجهات نظر الطرفين بخصوص بنود اتفاق شامل ودائم للأزمة.

على هامش المنتدى، وقبله وبعده، استقبل «أردوغان» كذلك عدداً من الزوار اللافتين، منهم رئيس دولة الاحتلال «إسحاق هرتسوغ» بعد 14 عاماً من زيارة «شمعون بيريس» لتركيا وبعد سنوات من القطيعة الدبلوماسية شبه الكاملة، وكذلك المستشار الألماني «أولاف شولتس»، خليفة «أنجيلا ميركل»، في أول زيارة له لتركيا.

لكن الزيارتين الأهم كانتا لرئيس وزراء أرمينيا «نيكول باشينيان»، ورئيس وزراء اليونان «كيرياكوس ميتسوتاكيس»، إذ تعد الدولتان خصمتين -ربما عدوتين- تاريخياً لها، إذ العلاقات معهما في غاية التوتر والتعقيد بحيث يتشابك فيها التاريخي مع الآني والسياسي الإستراتيجي مع الاقتصادي والديني مع القومي، كما لفتت الأنظارَ تصريحات رئيس الحكومة اليونانية «ميتسوتاكيس» الذي قال: إن البلدين اتفقا على الإبقاء على قنوات التواصل مفتوحة والتركيز على الملفات التوافقية أكثر من الخلافية ونقاش المستجدات الأمنية في أوروبا بعد الحرب ودور كل من تركيا واليونان فيها.

ولذلك، برأينا هناك 3 دلالات مهمة:

الأولى: أن الحرب الروسية – الأوكرانية قد فرضت مسارات محددة على مختلف الأطراف، وفي مقدمتها تحديات أمنية وعسكرية إضافية وربما غير مسبوقة على القارة الأوروبية، ما استدعى حوار البلدين الخصمين اللذين يتمتعان بموقع جيوستراتيجي مهم، ولعله من المهم الإشارة إلى حرص واشنطن وسعيها لتوحيد حلفائها معها وخلفها في هذه الأزمة.

الثانية: نجاح تركيا في فرض نفسها في قضية شرق المتوسط، إن كان ميدانياً عبر أنشطة التنقيب، أو سياسياً عبر التهدئة مع الاتحاد الأوروبي، أو حتى دبلوماسياً من خلال جولات الحوار الأخيرة مع أثينا.

الثالثة: تراجع اليونان عن سياستها التحريضية ضد تركيا، حيث كانت تحاول نقل خلافاتهما الثنائية إلى مستوى الاتحاد الأوروبي بحيث تمنحها صبغة خلافات تركية – أوروبية، مع دعم واضح من فرنسا في هذا الصدد.

في الخلاصة، قدمت أنقرة للعالم مبادرة جديدة اسمها «منتدى أنطاليا للدبلوماسية»، يعلي من شأن الحوار ويقدم الدبلوماسية حلاً ممكناً للأزمات، ونجحت في تكرار عقده في ظرف دولي حساس، وحققت فيه وعلى هامشه اختراقات أكثر من مقبولة ستدفعها لمزيد من الاهتمام به في قابل السنوات.

Exit mobile version