الفرص السياسية المهدرة في الأردن

 

قبل الحديث عن تاريخ الفرص السياسية التي تم إهدارها في العقد الأخير من عمر الدولة الأردنية، لا بد أن نشير إلى أن هناك صراعاً كبيراً بين المطالبين بالإصلاح السياسي من القوى السياسية، والحرس القديم أو كهنة الدولة العميقة، هذا الصراع قائم على من يفرض رؤيته السياسية ويمسك بزمام الأمور.

الحرس القديم أو كهنة الدولة العميقة مصطلح يطلق على الشخصيات السياسية التي شاركت في صناعة القرار وتمتاز بالنفوذ والقوة داخل مفاصل الدولة، ولديها أذرع سياسية وإعلامية وهي العقول والشخصيات الأقرب التي تهمس في أذن صانع القرار.

مر على الأردن في العقد الأخير مجموعة من الأحداث جعلت الملك يتجاوز رواية الحرس القديم ويلتفت عن فزاعاتهم وتوجساتهم ورفضهم للتغير السياسي، إلاّ أن هذه الفرص أهدرت، وعاد الحرس القديم أقوى من الحالة التي كان عليها قبل تلك المنعطفات السياسية المهمة.

الفرصة الأولى

على وقع “الربيع العربي” واحتجاجات الشارع في الأردن التي تعامل معها النظام الأردني بطريقة الاحتواء الناعم، أدرك رأس النظام أنه لا حل ولا مخرج من موجة تطورات “الربيع العربي” إلا بالتوافق مع جماعة الإخوان المسلمين التي تحرك الشارع في جميع بلدان “الربيع العربي” في حينها، فتم اللقاء معهم في القصر على الطاولة المستديرة، في فبراير 2011، وقد طلب الملك من الإخوان بدء مرحلة جديدة بين القصر والإخوان، لقاء كان يمكن أن يتحول إلى ذات نتائج الحالة المغربية والتحول الديمقراطي الذي حدث فيها، إلا أن الإخوان سيطر عليهم حسابات الوضع الإقليمي أكثر من الحسابات الداخلية، وظلوا أسرى حالة فشل التجارب القديمة، والخشية من ضغط الشارع الغاضب فقدموا رضا الشارع على المكاسب الحقيقية، فتم مقاطعة كل ما قدمه الملك من لجان للإصلاح السياسي لتنتهي الفرصة دون أي مكسب سياسي يحقق على الأرض.

الفرصة الثانية

من ذات العام تم تكليف القاضي في محكمة العدل الدولية عون الخصاونة، في أكتوبر 2011، بتشكيل حكومة جديدة، رئيس وزراء جاء من خلفية قانونية، وكان برنامجه المعلن استعادة الولاية العامة للحكومة، وتم اللقاء مع كل القوى السياسية وعرض على جماعة الإخوان عدداً كبيراً من الوزارات، قاطع الإخوان حكومة الخصاونة، واستمروا في الشارع يتظاهرون ضد حكومة الخصاونة، في الوقت الذي كان فيه كهنة الحرس القديم يتربصون بالرجل الذي رفع كرت أحمر في وجه تدخلاتهم في الحكومة، ووجود أكثر من حكومة ظل في المملكة، فالتقى الحراك الشعبي والأحزاب السياسية مع الحرس القديم التقاء الخصوم على إسقاط حكومة الخصاونة التي قدمت استقالتها من تركيا، وفي سابقة تعتبر لأول مرة في تاريخ المملكة أن تستقيل الحكومة ولا تقال.

بعد الاستقالة تغير مزاج الشارع تجاه الخصاونة، وأصبح يتم وصفه من قبل القوى السياسية التي شاركت في إسقاطه كشخص إنقاذ وطني، وأدركت القوى السياسية أنها فقدت رجلاً كان يمكن أن يُحدث التعاون معه تحولاً سياسياً كبيراً في الحياة الأردنية، لكن الفرصة أهدرت وعاد الحرس القديم.

الفرصة الثالثة

بعد أحداث الفتنة في عمَّان التي تم الحديث عن تورط الأخ غير الشقيق للملك في الموضوع قبل إن يعتذر مؤخراً برسالة للملك، وتورط أحد الشرفاء وأحد الوزراء ورئيس الديوان الملكي الأسبق باسم عوض الله في تلك الحادثة، ونتيجة للوضع الاقتصادي السيئ وما ألقته جائحة كورونا على الحالة الاقتصادية السيئة في الأردن، وتفشي الفقر وارتفاع نسب البطالة، ورغم هدوء الشارع من الاحتجاجات في الداخل، ورغم الوضع السياسي المريح للملك في الخارج بعد قدوم إدارة بايدن في أمريكا وإلغاء ما كان يعرف بـ”صفقة القرن”، فإن الملك حسم أمره ورست قناعته على أن الإصلاح الشامل يكون من بوابة الإصلاح السياسي المتدرج، فتم تكليف سمير الرفاعي، رئيس الوزراء الأسبق، في يونيو العام الماضي، بتشكيل لجنة ملكية لتحديث المنظومة السياسية تنهي أعمالها قبل أكتوبر 2021؛ موعد انعقاد مجلس النواب في دورته العادية.

الحرس القديم وجد في اللجنة الملكية خطراً كبيراً على نفوذهم ومكاسبهم وسلطانهم، فعملوا منذ اليوم الأول على التشكيك في شخص رئيس اللجنة الذي يثور حوله الجدل بين القوى السياسية باعتباره كان جزءاً من أزمة الأردن السابقة، فكيف سيكون الرجل جزءاً من الحل؟! ثم عمد الحرس القديم إلى مهاجمة بعض أعضاء اللجنة كما حصل مع الكاتب المعروف عريب الرنتاوي الذي قدم استقالته من اللجنة تحت الضغط بسبب الهجوم عليه من قبل إعلام الحرس القديم بعد أن اتهموه بأنه ينتقص من بطولات الجيش الأردني في معركة الكرامة، بعد ذلك تم إقصاء عضو اللجنة أبو خضرة بعد تغريدة لها تنتقد فيها ذبح الأضاحي، ليستمر الهجوم على باقي الأعضاء الواحد تلو الآخر قبل أن يجتمع الملك مع اللجنة بعد عودته من أمريكا وزيارة بايدن ويعلن دعمه الكامل لها، هنا عمل الحرس القديم على استخدام سياسة الاستقالات باعتبار أن اللجنة لا تلبي طموحات الشعب الأردني.

الحرس القديم لم يستسلم للجنة، فعمل من خلال وجود أعضاء له في اللجنة على محاولة تبهيت مخرجات اللجنة، ونجح في تمرير أخطر قرار بخفض العتبة الانتخابية في القوائم الحزبية المغلقة على مستوى الوطن لتصبح العتبة 2.5%، بينما جعلت في القوائم النسبية المفتوحة على مستوى المحافظات 7%.

المعارضة الأردنية التي شاركت معظمها في اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية بدل أن تعمد إلى دعم مخرجات اللجنة وتحسين العتبة الانتخابية من داخل عمل اللجنة وخارجها، تم جرها إلى مربع انتقاد صلاحيات الملك ومجلس الأمن القومي ودخلوا في صراعات كبيرة في هذا المضمار، ووضعوا أنفسهم كمواجهين لصلاحيات الملك وشخص الملك، مع أنها صلاحيات لا توثر تأثيراً جوهرياً على الحياة السياسية، ويمكن الاستفادة منها لدوام استقرار العلاقات الخارجية للمملكة واستقرار الأمن الداخلي، كما أنه تعديل يمكن الاستفادة منه برفع الحرج الشعبي عن أي حكومة أيديولوجية يسارية أو إسلامية يمكن أن تأتي بالمستقبل وتضطر لإدارة العلاقات الخارجية عكس ما كانت تؤمن وتنادي به.

المعارضة الأردنية بكل مكوناتها وأطيافها صمتت عن مخ وجوهر الإصلاح السياسي؛ وهو التعديلات في قانون الانتخابات البرلمانية، ولم تدرك قيمة وأهمية العتبة الانتخابية في القوائم الحزبية المغلقة، فتم تمرير عتبة انتخابية منخفضة، هذه النسبة المنخفضة مررها الحرس القديم ليضمن بقاء الأحزاب التي تصل إلى مجلس النواب ضعيفة مشرذمة، إذ يتوقع أن يصل أكثر من 15 حزباً إلى قبة مجلس النواب والمخصص لها 90 مقعداً من أصل 138 في عام 2032.

أخطر من كل ذلك أن الحرس القديم استطاع تمرير تعديل النص الدستوري في المادة (19) التي جعلت قانون الانتخابات قانون شبه جامد ومقفل له حصانة أشبه بحصانة نصوص الدستور، إذ لا يمكن تعديله إلا بموافقة ثلثي أعضاء مجلس النواب والأعيان، وهذا سيكون شبه متعذر، فهذا النص كمن أقفل القانون وبلع مفتاحاً.

من الصعب تفهم الجمع بين مشاركة المعارضة في اللجنة ثم الهجوم على اللجنة من قبل قواعدهم وقياداتهم الحزبية، وكما تم الهجوم على اللجنة من ممثليهم تحت القبة البرلمان، مما أظهر أن الخطاب السياسي لتلك المعارضة لم يكن موحداً تجاه المشاركة في اللجنة والتعاطي مع مخرجاتها، وبذات الوقت أظهر الهجوم على التعديلات الدستورية أن هذه المعارضة تضع نفسها نقيضاً للملك وسلطاته، وهذا الخطاب استثمر به الحرس القديم استثماراً كبيراً، إذ يقدم الحرس القديم نفسه في خطابه كحامٍ للعرش الهاشمي في مواجهة أعداء العرش.

نتفهم حالة التشكيك باللجنة ومخرجاتها بناء على تجارب اللجان السابقة، ونتفهم حالة الثقة المتزعزعة في العمليات الانتخابية التي تدور حولها كثير من الشكوك في النزاهة، لكن كل ذلك لا يعني عدم السعي إلى استثمار أي فرصة يمكن أن تحسن في قوانين الحياة السياسية، وبعد الوصول إلى القانون المثالي الذي نريد، نبدأ مرحلة النضال والصراع من أجل حماية العملية الانتخابية ونتائجها بعد ذلك، لكن الخلط بها الشكل وعدم تجزئة مراحل الصراع مع الحرس القديم أضاع الفرصة الحقيقية للمرة الثالثة على التوالي خلال عقد من الزمان.

المشكلة أن المعارضة الأردنية لا تدرك قيمة الفرص الضائعة إلا بعد انتهاء الوقت وفوات الأوان، أو حتى بعد انقضاء وقت طويل على إهدار هذه الفرص، وكأن قرون الاستشعار السياسي لدى المعارضة تعمل باستجابة بطيئة جداً، وتفهم الحدث بعد أن يكون قد فات الفوت دون أن ينعكس ذلك على حسن التعامل مع الفرص في المستقبل أو أخذ العبرة من هذه الأخطاء والقراءات السياسية الضعيفة التي تتكرر بشكل دائم.

Exit mobile version