حقيقة الإسراء والمعراج.. والرد على المنكرين والمشككين

 

أجمع المسلمون على أنّ واقعة الإسراء والمعراج حقيقة قطعيّة ثابتة في كتاب الله تعالى وسُنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أما القرآن الكريم فإن الله تعالى قال في قصة الإسراء: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) (الإسراء: 1)، وقال في المعراج: (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى {13} عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى {14} عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى {15} إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى {16} مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى {17} لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى) (النجم)؛ والمقصود بالرؤيا في الآية رؤية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام في المعراج.

وأما السُّنة، فجاءت الأحاديث المستفيضة عن عدد كبير من الصحابة رضي الله عنهم، تروي هذه الحادثة الشريفة، كما هو مثبت في الصحيحين، وهذا ما أجمع عليه المسلمون، وإن كان هناك بعض من العلماء -لا يُعول على رأيهم لمخالفة النصوص الشرعية وجماهير المسلمين- يرون أن المعراج كان بروحه صلى الله عليه وسلم دون جسده، وجماهيرهم على أنَّ الإسراء والمعراج كانا بجسده وروحه معاً.

وهذه الرحلة من القضايا الغيبية التي حُف بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعناية الله ومعونته، كما هو جليٌّ في أول سورة “الإسراء” المتقدم ذكرها، ولا مجال في مثل القضايا الغيبية أن تخضع للمحاكمات العقلية التي يدَّعي فيها بعض المشككين معارضتها للقدرة البشرية؛ فذلك مدخل خطير يوصل إلى إنكار كل الغيبيات بشبهة معارضتها للتصور العقلي والقدرة البشرية؛ لذلك كانت أول صفات المؤمنين أصحاب الخشية والتقوى ذكراً في كتاب الله “الإيمان بالغيب”، قال تعالى: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ {2} الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) (البقرة).

ومع ذلك، لم يترك العلماء ذكر أمثلة من الحياة الواقعية تنفي غرابة وقوع هذه الحوادث كالإسراء والمعراج وغيرها، كالإنترنت والفضاء الإلكتروني ونقل الصور والأصوات الحيّة من المشرق إلى المغرب بأجزاء من الثانية، وهذا يذكرونه من باب زيادة الإيمان واليقين لا أكثر، أما الأصل في عقيدة المسلمين أن المؤمن يسلم بما جاء عن الله تعالى وعن رسوله مذعناً لذلك خاضعاً له؛ (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً) (الأحزاب: 36).

بين يدي الإسراء والمعراج:

كان وجود أبي طالب بجانب النبي صلى الله عليه وسلم سياجاً واقياً له يمنع عنه أذى قريش؛ لأنَّ قريشاً ما كانت تريد أن تخسر أبا طالب، ولـمَّا تُوفي أبو طالب انهار هذا الحاجزُ، ونال النبي صلى الله عليه وسلم من الضَّرر الجسديِّ الشيءُ الكثير.

وكانت أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها البلسم الشَّافي لما يصيب النبي صلى الله عليه وسلم من الجراح النَّفسية التي يُلحقها به المشركون، ولـمَّا توفيت فَقَدَ النبي صلى الله عليه وسلم هذا البلسمَ.

وخرج النبي الكريم إلى الطَّائف بعدما اشتدَّ عليه أذى قريش، وأمعنوا في التَّضييق عليه، يطلب من زعمائها نصرة الحقِّ الذي يدعو إليه، وحمايته، حتى يبلِّغ دين الله تعالى، فما كان جوابهم إلا أن ردُّوه أقبح ردٍّ، ولم يكتفوا بذلك؛ بل أرسلوا إلى قريش رسولاً يخبرهم بما جاء به محمَّد، فتجهَّمت له قريش، وأضمرت له الشَّرَّ، فلم يستطع النبي صلى الله عليه وسلم دخول مكَّة إلا في جوار رجلٍ كافر؛ فزاد حزنه وهمّه حتَّى سُمِّي ذلك العام بالنِّسبة للنبي صلى الله عليه وسلم بـ”عام الحزن”.

وبعد هذا كلِّه حصلتْ معجزةُ اللهِ تعالى لرسوله، ألا وهي الإسراء والمعراج.

أمَّا هدف هذه المعجزة، فيتمثل في أمورٍ؛ من أهمِّها: أنَّ الله عزَّ وجلَّ أراد أن يتيح لرسوله صلى الله عليه وسلم فرصة الاطّلاع على المظاهر الكبرى لقدرته؛ حتَّى يملأ قلبه ثقة فيه، واستناداً إليه؛ حتَّى يزداد قوة في مهاجمة سلطان الكفَّار القائم في الأرض، كما حدث لموسى عليه السلام، فقد شاء أن يريه عجائب قدرته، قال تعالى: (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى {17} قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى {18} قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى {19} فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى {20} قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى {21} وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى) (طه)، فلـمَّا ملأ قلبه بمشاهدة هذه الآيات الكبرى، قال له بعد ذلك: (لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى) (طه: 23).

في رحلة الإسراء والمعراج أطلع الله نبيه على هذه الآيات الكبرى، توطئةً للهجرة، ولأعظم مواجهةٍ على مدى التَّاريخ للكفر، والضَّلال، والفسوق، والآيات التي رآها النبي صلى الله عليه وسلم كثيرة؛ منها: الذهاب إلى بيت المقدس، والعروج إلى السَّماء، ورؤية الأنبياء، والمرسلين، والملائكة، والسَّماوات، والجنَّة، والنار، ونماذج من النعيم والعذاب.. إلخ.

دروس وعبر:

كان حديث القرآن الكريم عن الإسراء في سورة “الإسراء”، وعن المعراج في سورة “النَّجم”، وذكر حكمة الإسراء في سورة “الإسراء” بقوله: ﴿لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا﴾، وفي سورة “النجم” بقوله: ﴿لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى﴾ (النجم: 18).

وفي الإسراء والمعراج علومٌ، وأسرارٌ، ودقائق، ودروسٌ، وَعِبَرٌ (الأساس في السُّنَّة، لسعيد حوَّى، 1/291).

يقول أبو الحسن النَّدوي: «لم يكن الإسراء مجرَّد حادث فرديٍّ بسيطٍ رأى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم الآيات الكبرى، وتجلَّى له ملكوت السَّماوات، والأرض مشاهدة، عياناً؛ بل -زيادة إلى ذلك- اشتملت هذه الرِّحلة النَّبوية الغيبية على معانٍ دقيقة كثيرة، وشارات حكيمة بعيدة المدى؛ فقد ضمَّت قصَّةُ الإسراء، وأعلنت السُّورتان الكريمتان اللَّتان نزلتا في شأنه «الإسراء» و«النَّجم»: أنَّ محمّداً صلى الله عليه وسلم هو نبيُّ القبلتين، وإمام المشرقين والمغربين، ووارث الأنبياء قبله، وإمام الأجيال بعده، فقد التقت في شخصه، وفي إسرائه مكةُ بالقدس، والبيتُ الحرام بالمسجد الأقصى، وصلَّى بالأنبياء خلفه، فكان هذا إيذاناً بعموم رسالته، وخلود إمامته، وإنسانيَّة تعاليمه، وصلاحيتها لاختلاف المكان والزَّمان، وأفادت سورة “الإسراء” تعيين شخصية النَّبي صلى الله عليه وسلم، ووصف إمامته، وقيادته، وتحديد مكانة الأمَّة التي بعث فيها، وآمنت به، وبيان رسالتها ودورها الَّذي ستمثِّله في العالم، ومن بين الشُّعوب، والأمم» (الأساس في السُّنَّة، 1/292).

 

المصادر:

1- ملاحظة: استفاد المقال في أفكاره من كتاب “السيرة النبوية” للدكتور علي الصلابي، واستقى كثيراً من معلوماته من كتاب: “الأساس في السنة وفقهها” لسعيد حوى.

2- د. علي محمد الصلابي، السيرة النبوية، دار ابن كثير، بيروت، الطبعة الأولى، 1425ه 2004م.

3- سعيد حوَّى، الأساس في السُّنة وفقهها – السيرة النبوية، دار السلام، مصر، الطبعة الأولى، 1409ه 1989م.

Exit mobile version