إبراهيم عيسى.. وفصل الخطاب!

 

 ذات يوم كنت أجلس مع رئيس تحرير ماركسي حكومي، وفوجئت به يقول لي: لا توجد ثوابت في الإسلام، كل شيء يتطور وقابل للتغيير!

استوعبت ما قاله سريعا، ورحت أخوض معه في نقاش حاولت أن يكون هادئا، وبعيدا عن التوتر، وقلت له: هل نغير عدد ركعات الصلاة مثلا لنؤكد على نظريتك؟

ضحك وعرف أن كلامه سيتم نقضه عروة عروة، فغيّر الموضوع، وانتهى اللقاء، ولم ينته كلامه من ذهني بعد مرور نحو ثلاثة عقود حتى الآن!

تأكدت من خلال ما يثار في العقود الأخير ة من قضايا حول الإسلام، وما يسمى تجديد الخطاب الديني بأن المستهدف هو ثوابت الإسلام لنسفها، والتمهيد لما يسمى الديانة الإبراهيمية الجديدة التي تُخضع المسلمين لليهود والغرب، في ظل مناخ موات، يتم فيه إلغاء التربية الدينية الإسلامية، والتشهير بالإسلام ليل نهار من خلال نخب ضالة ومجندة في وسائط الدعاية التلفزيونية والإذاعية والثقافية، وعبر السينما والدراما، ومهمتها الإلحاح على أن الإسلام هو سبب تخلف الأمة، وليس الاستبداد وتجلياته المرعبة!

ليس الصحفي إبراهيم عيسى وحده الذي يمضي في سياق التصويب على الثوابت لنسفها كما يتصور، بل هو واحد من كثيرين تحركهم أطراف عديدة، وتستغل حبّهم المسعور للشهرة والمال، والقرب من صناع القرار، وركوب التريند وفقا لمصطلحات وسائل التواصل الاجتماعي!   

يسعى إلى الشهرة

لم يكن إبراهيم عيسى المولود في قويسنا التابعة لمحافظة المنوفية (نوفمبر عام 1965-….)، إلا شابا ريفيا بسيطا، يتطلع إلى الحياة من خلال التعليم والقراءة. فقد كان والده معلّماً للغة العربية، وكان ابنه إبراهيم يسعى إلى الشهرة من خلال الصحافة (القوة الإعلامية الضاربة في زمنه)، فالتحق بكلية الإعلام، جامعة القاهرة، التي تخرج فيها عام 1987م. وفي أثناء دراسته الجامعية حاول العمل في بعض الصحف والمجلات، وكانت روز “اليوسف” مجاله الحيوي الذي يستقطب العناصر الشابة من اليساريين والساخطين والرافضين، فتمنحهم الفرصة، وتؤدلجهم ضد الدين الإسلامي، وتطوّعهم ليتملقوا الكنيسة، وصناعة المعارضة المستأنسة، التي تنادي بالحريات المفتوحة مع المرأة، ونقل النموذج الغربي في أسوأ صوره. وقد شهدت الفترة التي حصل فيها إبراهيم على شهادته نشاطا ملحوظا في روز اليوسف لتجمّع علماني شرس يضم الماركسيين والناصريين والطائفيين، وترعرعت مجموعة من الصحفيين الشبان المتقاربين في السن بتقديم موضوعات وتحقيقات مثيرة للرأي العام حول علماء الدين وبعض القضايا الإسلامية والطائفية برعاية بعض الصحفيين الماركسيين، وكان بعضهم قريبا للغاية من بعض أجهزة الأمن!

خانته الموهبة!

في هذا المناخ وجد إبراهيم عيسى فرصته الذهبية ليكتب وينشر، ويحاول كتابة الرواية والقصة القصيرة بصورة فنية، ولكن خانته الموهبة، إلى جانب الموضوعات الصحفية المثيرة، التي برع في صياغتها وجذب الجمهور إليها بغض النظر عن صواب ما يكتبه أو خطئه، ويُطلق عليها عادة صحافة الإثارة!

واستطاع مع آخرين إصدار جريدة “الدستور” التي اعتمدت العامية والاستفزاز في عناوينها، يساعده بعض الشباب الرافض للإسلام، كما اهتمت الجريدة بالكاريكاتير المؤثر، ولكن الدستور لم تعمر طويلا، فقد أغلقت بعد نشر بيان قيل إنه منسوب لإحدى الجماعات الإسلامية يحمل تهديدا لرجل أعمال طائفي، وتعددت محاولات إبراهيم لإصدار صحف أخرى، انتهت بإصدار جريدة التحرير، ولكن أصحابها أقالوه لأسباب غامضة. لقد ر كب ثورة يناير، وظهر بمظهر الثوار، ولكنه بعد وأدها تحول مائة وثمانين درجة، وشهد لصالح الرئيس المخلوع فبرأته المحكمة بناء على شهادته، ويذكر أن مبارك كان قد تدخل بالإفراج عن إبراهيم عيسى حين حكمت عليه المحكمة حكما باتا ونهائيا بالسجن لمدة شهرين، فأصدر قرارا بالإفراج عنه!

الطريق إلى الشاشات

أصدر جريدة بعنوان المقال قريبة في نهجها من الدستور، وإن كانت تركز على نشر المقالات، وخاصة  مقالاته الطويلة التي نحت إلى إثارة قضايا خلافية لا تعني الجمهور، ولكنها تشكك في الإسلام بالدرجة الأولى، وفي هذه الفترة بدأت علاقته بالتلفزيون تقوى، ويمتلك أسهما في قناة التحرير التي امتلكها ثم باعها لبعض الجهات التي أجزلت له العطاء، وعرف طريقه إلى شاشات أخرى يقدم عليها برامج متنوعة ذات عائد كبير، وفي السنوات الأخيرة  استطاع أن يكون من أعمدة قناة الحرة الأميركية الناطقة بالعربية، فيقدم برنامجا بعنوان “مختلف عليه” يستضيف العلمانيين والملاحدة وأصحاب الثقافة الضحلة، ليناقش قضايا إسلامية، دون حضور من يمثل العلماء والمتخصصين، فتبدو الصورة التي يقدمها البرنامج منحازة للرؤية المعادية للإسلام ومخالفة تماما للحقيقة العلمية!

العداء الأساسي

وقد كشفت السنوات الماضية أن اليساريين العرب عموما والمصريين خصوصا ليسوا في عداء كما يزعمون مع الإمبريالية الغربية التي تقودها الولايات المتحدة، وليسوامن أنصار الفقراء والكادحين كما يرددون ليل نهار، ولكنهم في عداء أساسي مع الإسلام وقيمه، بوصف الإسلام يحث على العدل والشورى والمعروف واستعادة المقدسات والحفاظ على الأوطان وتحريرها من الغزاة، ثم إنهم مع العائد الكبير الذي توفره الإمبريالية ماديا ومعنويا، ولذا فعلاقتهم بالفقراء والكادحين واهية تماما، ولعل هذا ما دفع الإعلامي المعروف حافظ الميرازي أن يشير على صفحته في الفيسبوك إلى سر ّالحفاوة التي توليها قناة الحرة بأمثال إبراهيم عيسى من الصحفيين والكتاب، فقد قال الميرزاي   وفق تصريحات نشرتها جريدة “الدستور” الحالية، أن الإدارة الأمريكية قد صنعت برنامجين بأموال طائلة لإبراهيم عيسى وإسلام بحيري لنقد (النص الإسلامي)، أي القرآن والسنة!

وأضاف الميرازي أن تلك السياسة التي تخص المجتمعات العربية والإسلامية، تتم من خلال “الوكالة الأمريكية للإعلام العالمي” والتى تُشرف على قناة “الحرة” الأمريكية.

وكانت قناة “الحرة” قد خصصت برنامجين من برامجها لإبراهيم عيسى وإسلام بحيري، الذي حُبس قبل ذلك لاتهامه بـ” ازدراء الأديان”، وقاما ببث أفكارهما من خلال هذه البرامج واللقاءات.

السخاء المالي

وتابع الميرازي على صفحته الشخصية بفيسبوك، أن البيرتو فيرناندز “الرئيس التنفيذي للوكالة” والذي عزله الكونجرس، قد أنشأ في قناة “الحرة” برنامجين بتكاليف مالية سخية لاثنين من الكُتّاب المصريين للتركيز فقط على “نقد النص الإسلامي”، وهما إسلام البحيري، وإبراهيم عيسى، مدعما أقواله بصورة مرفقة تُبين احتفال فيرناندز وعيسى بانطلاق برنامج “مختلف عليه” على قناة الحرة.  (مواقع، الاثنين ٠٦ سبتمبر ٢٠٢١م).

ومن الطبيعي مع هذه التكاليف المالية السخية أن تتراجع المهنية، فلا يعرض الرأي والرأي الآخر، وأن تكون هناك وجهة نظر واحدة يتم الإلحاح عليها وتسريبها بصورة وأخرى إلى أعماق المشاهدين وأفئدتهم، وهذا منهج معروف في معظم القنوات الأجنبية الناطقة بالعربية إن لم تكن كلها. لا مكان لرأي الإسلام الصحيح، ولا يوجد عالم دين إسلامي يقدم رأي الإسلام بحرية وطلاقة..

ومع تدني نسبة المشاهدة، فإن إبراهيم عيسى وجد فرصة تقديم برنامج جديد مستفز على شاشة قناة “القاهرة والناس”، المملوكة لبعض رجال الأعمال، فراح يتحرك بحرية كبيرة مع وجود ضوء أخضر من بعض الجهات النافذة التي تماهي معها، بعد أن تحول من ثائر في الميدان كما كان يدعي، إلى بوق للسلطان كما أثبت. ولأن ضجيج الشهرة خفت كثيرا حتى تحول إلى ما يشبه الهمس، فقد فجّر بعض القنابل التي هيّجت المجتمع كله وليس السلفيين كما يزعم رفاقه وأشباهه.

قنابل متفجرة

انتقد صيدلانيا يجلس في أوقات فراغه، لأنه يقرأ القرآن، ورأى أنه يجب أن يطالع كتب الأدوية والطب، ولا ينشغل بالقرآن.. هل يجب على الصيدلي أن يقول له: وانت مالك؟ ماذا لوكان الصيدلاني غير مسلم ويقرأ في كتابه المقدس؟ فوبيا الإسلام بكل تأكيد!

زعم أن الأمهات والجدات في الصعيد والأرياف على عهد الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي كن يرتدين المايوهات!! وقد قوبل كلامه بمزيج من الغضب والسخرية، وتساءل بعضهم متهكما: هل كانت جدتي ترتدي المايوه في الترعة أو على شاطئ النيل؟

أما القاصمة التي تصور أنها ستؤدي به إلى التريند، وتحقق حلمه في الشهرة الكبيره، فهي زعمه أن رحلة المعراج وَهْمٌ يحكيه المشايخ، ولا صحة لها! لقد وقع في المحظور، حين أنكر أمراً ثابتاً بالقرآن والسنة، وقد تصدى له كثير من العلماء والدعاة والجمهور الواعي، فدحضوا مقولته البائسة، وعبرت الأمة وليس السلفيون عن رفضهم لاجترائه على الدين، واستهانته به، وازدرائه له، ولم يتوقف الأمر عند وسائل التواصل الاجتماعي التي جعلته يركب التريند فعلاً، ولكنه يركبه بوصفه متهماً ومعتدياً على دين الأمة، وليس بطلاً تزجى إليه التحيات! لقد تحرك محامون ببلاغات إلى النائب العام، وأعضاء في مجلس النواب بضرورة محاسبته ووضع قانون لمن يتحدث في أمور الشريعة، ووصل الأمر إلى رفاقه الذين رفضوا أسلوبه، ولم يرفضوا مفهومه، محاولين تمييع الموقف، والتخفيف عنه، حيث زعم بعضهم أنه رأي يقابل بالرأي، وأن ما قاله يدخل تحت حرية التعبير، وضرب لنا بعضهم مثلاً بما جرى بين القدماء من علماء الإسلام مثلما جرى بين ابن النفيس وابن سينا، وتناسوا أن هؤلاء العلماء لم يكونوا مجندين من جهات سخية المال والعطاء والنفوذ، تحرك بيادقها كما تحب، وفي الاتجاه الذي تريد!

الفهلوة والشطارة

كيف يمكن لباحث في الشأن الإسلامي أن يتناول قضاياه الفقهية والعقدية والشرعية دون أن يكون حافظاً للقرآن الكريم، قارئاً للحديث الشريف ملما بصحيحة من غير الصحيح، مالكاً لأدوات البحث العلمي التي تفرز الروايات وتصنفها وفق منهج دقيق، لا يعتمد الفهلوة والشطارة وعلو الصمت وحماية الأجهزة النافذة؟ وكيف يعتمد على مصادر أو مراجع مشكوك في صحتها، غير موثوق في كتابها؟ لنأخذمثالا على ذلك يؤكد أن أبراهيم عيسى ليس من أهل البحث في الشأن الإسلامي ولا يصلح له:

لقد زعم أنَّ أصحابَ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلم والتابعين تضاربوا بالنعال، وأنَّ عثمان ابن عفان رضي الله عنه كان يعطِّل حدودَ الله من أجل أقربائه! واستدل على أكاذيبه بما رواه أبو الفرج الأصفهاني في كتاب الأغاني.

 ونسي إبراهيم أن هذه الرواية غير صحيحة، لأن صاحب الكتاب شيعي كَذَّاب، والسندُ فيه راوٍ مجهول ثم راوٍ كذَّاب، ثم انقطاع بين الراوي وبين أصحاب هذه الواقعة المزعومة. والمسلمون لا يقبلون في دينهم إلا حديثاً صحيحاً فقط، ويجب أن تنطبق عليه شروط خمس وهي: اتصال السند. عدالة الرواة. ضبط الرواة. انتفاء الشذوذ. -انتفاء العلة…

لا ريب أن إبراهيم عيسى لا يعنيه صحة الحديث أو عدم صحته، يعنيه فقط المال السخي!

من المؤسف أن إبراهيم لم يتناول القضايا التي تعني الناس، وتشكل بالنسبة لهم هموما يومية دائمة، فلم يتناول قضية النيل المهدد بالسد الحبشي، ولم يعرج على قضايا المطحونين بالغلاء وارتفاع الأسعار بصورة غير مسبوقة، ولم يحاول- وهو يدعي أو يدعي رفاقه أن مايقوله حرية تعبير- أن يتناول واقع هذه الحرية، وإغلاق المجال تماما حتى في الشبكة العنكبوتية، لم يسع إبراهيم ورفاقه بالتالي إلى قراءة الواقع المتردّي بالبؤس والمشكلات المزمنة اجتماعيا واقتصاديا وتعليميا وصحيا وإداريا وسلوكيا، ولم يدافع عن مظلوم، ولم تظهر مروءته لإنقاذ امرأة أسيرة في سجون العدو أو معتقلات بشار وأشباهه، لم نر له نخوة له في الدفاع عن المسلمات الهنديات اللاتي يعاقبن بسبب ارتداء الحجاب، ولا رأيا يرد على راهب بوذي يتوعد حين يحكم الهند بألا يكون هناك مساجد أو حجاب!

صحيفة السوابق

نحن لا ننتظر شيئاً من ذلك إطلاقاً، فمن يعمل في الحرة، وصديقاتها لا يمكن أن يتعاطف مع الإسلام والمسلمين، ومن يطالع صحيفة سوابقه، يرى كثيراً منها:

1-يزعم إبراهيم عيسى أن كل ما تقوم به داعش من حرق وقتل واغتصاب يستند إلى أحاديث صحيحة، وأن الأسانيد والأدلة التي قدمتها داعش لإجرامها وتوحشها وعنفها موجودة في كتب التاريخ والفقه والشرع، وكل من يقول غير ذلك كاذب، والفكر الإسلامي يقر هذا التوحش وينادي به!

وسؤالنا إلى إبراهيم: هل قتل أهل السنة وحدهم، وعدم إطلاق رصاصة واحدة تجاه العدو المحتل في فلسطين يستند إلى فكر إسلامي، وأحاديث صحيحة؟ ألم يرد على ذهنه أن داعش التي ظهرت فجأة مزودة بأحدث العتاد والأسلحة نبتت تلقائياً، أم أن هناك جهات مخابراتية عالمية ومحلية صنعتها ومولتها، وسهلت الالتحاق بها، وجعلتها تصدر فتاوى تتنافي مع الإسلام جملة وتفصيلا؟ 

2-يدعي إبراهيم عيسى: أن “تاريخ الدين الإسلامي مزوّر وليس له علاقة بالتاريخ بل هو نطف من التاريخ، ولم يكن عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز المثال العظيم، ولم يكونا من الملائكة ماشين على الأرض، عمر بن الخطاب كان (بيضرب ويلطش أصحابه والولاة وهما قابلين) لكن لا يمكن أن نقبله كنموذج للعدل!”. ما رأي علماء الإسلام والمؤرخون؟

قرار سيادي

 3-يذكر أنه بحث كثيراً في حكمة صيام رمضان، وسمع عشرات الحجج التي يقولها الخطباء والوعاظ ومن يرون في أنفسهم علماء، في أن حكمة الصيام أن نشعر بالفقير وأن الصوم فيه صحة للصائم، والحقيقة (كما يدعي) أن العلم نسف هذا كله، وأدركنا أن الصيام متعب للصحة كما أدركنا أن الصيام وشهر رمضان كاشف لفروق اجتماعية هائلة، ولم أر في صيام رمضان حكمة إلا أنه (قرار سيادي) من الله عز وجل!  

 4-يرى أن النقاب أو الحجاب ليس فرضاً، والحديث الخاص بالحجاب حديث موضوع وآحاد وضعيف وراويه كذاب، من يقول هذا السلفيون وليس أنا إبراهيم عيسى، لكنه حديث ضعيف فعلاً، ولا يمكن أن يستقيم عقلاً. والسؤال كيف أصبحت عالماً في الحديث الشريف لتعرف صحيحه من ضعيفه؟

 وبعد:

إبراهيم ظالم لنفسه، لأنه ارتدى ثياب العلماء وليس منهم، وقهره داء الشهرة ففعل كل شيء من أجلها، حتى باع نفسه لأصحاب المال السخي! وتلك مأساة إبراهيم وأمثاله!

Exit mobile version