تباين موقف الإدارة الأمريكية من انقلابي تونس والسودان

 

جاءت الإدارة الأمريكية الجديدة بقيادة جو بايدن مبشرة بانحيازها المطلق للحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، حيث اعتبر الرئيس الأمريكي أنّ أكبر التحديات الحالية هو إثبات قدرة الديمقراطيات على خدمة شعوبها، كما أولى الرئيس الأمريكي الديمقراطية اهتماماً كبيراً من خلال قمة الديمقراطية التي دعا لها زعماء الديمقراطيات العالمية.

يحاول الرئيس الأمريكي أنْ يوظف الديمقراطية في صراعه الاقتصادي والصناعي والعسكري مع الصين وروسيا، باعتبار أن لهذه الدول إشكالية مع الديمقراطية، محاولاً إعادة تشكيل التحالفات الدولية بعد الصعود الصيني على أساس الدول الديمقراطية والدول غير الديمقراطية.

إلاّ أنّ أمال النخب العربية في الديمقراطية التي تعلقت بقدوم بايدن لم تكن النتائج بحجم المأمول، كما أنّ الإدارة الأمريكية أظهرت انحيازها للمصالح الأمريكية على حساب الديمقراطية في دول العالم الثالث، لكن ما سرّ هذا التباين بين الموقف الأمريكي من الانقلاب في تونس، والموقف الأمريكي من الانقلاب في السودان، مع أنّ هاتين الدولتين عربيتان أفريقيتان؟

1- الشرعيات المنقلب عليها

في الوقت الذي انقلب فيه الرئيس التونسي على الشرعية البرلمانية التي تضم أحزاباً إسلامية وأحزاباً علمانية متقاربة في القوة والحجم، انقلب الرئيس التونسي أيضاً على شرعية حكومية المشيشي التي جاء بها الرئيس كحكومة (الرئيس) قبل أنْ تخرج من عباءته السياسية وتتحالف مع الأحزاب في البرلمان.

الرئيس التونسي استخدم نصوص الدستور خارج منطوق النص الصريح، واستحوذ على جميع السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، وحل الحكومة، وجمد البرلمان، وأصبحت البلاد تدار بإرادة الفرد الواحد، هذا الانقلاب استهدف بالدرجة الأولى حركة النهضة الإسلامية التي تمتلك الكتلة الأكبر في البرلمان المعلق سياسياً، التي شكلت مع باقي الكتل في البرلمان حزاماً برلمانياً لحكومة المشيشي المنقلب عليها.

فيما جاء الانقلاب السوداني “انقلاب المكون العسكري” في مجلس السيادة على “قوى إعلان الحرية والتغيير” التي تضم تجمع 17 نقابة سودانية تأسست عام 2012، وتضم الجبهة الثورية وهي مجموعة من الفصائل المسلحة المعارضة لحكومة النظام السابق، وتحالف أحزاب المعارضة السودانية وهو تحالف يضم 17 حزباً سياسياً كانت ترفض الانخراط في العملية السياسية في فترة حكم البشير، أبرزها حزب الأمة وحزب المؤتمر الوطني والحزب الشيوعي، والحركة الشمالية لتحرير السودان، وباقي الأحزاب اليسارية الصغيرة، وجميع هذه القوى شاركت في الاحتجاجات التي أطاحت بحكم عمر البشير، إذ تم الاتفاق بعد سقوط نظام البشير بين المكون العسكري وقوى إعلان الحرية التغيير على وثيقة دستورية تنظم الانتقال السلس للسلطة، وذلك بإنشاء مجلس للسيادة مكون من 6 مدنيين و5 عسكريين، وتم بعد ذلك إضافة ممثلي ثلاثة من الفصائل المسلحة التي التحقت بمجلس السيادة، وشكل مجلس السيادة مجلس وزراء مكوناً من أكثر من 20 وزيراً، تعينهم القوى الحزبية للتغيير، فيما يعين العسكر وزيري الدفاع والداخلية.

وتم الاتفاق على أن يكون عمر مجلس السيادة 39 شهراً، يتسلم الجانب العسكري بقيادة عبدالفتاح البرهان قيادة مجلس السيادة لمدة 21 شهراً، فيما يرأس عضو من أعضاء المكون المدني المدة المتبقية لمدة 18 شهراً.

أقدم عبدالفتاح البرهان، في نوفمبر 2021، على حل مجلسي السيادة والوزراء، وأعلن عن تشكيل مجلس سيادة جديد مكون من 5 من العسكر و5 من المدنيين، من بينهم أعضاء من حزب البشير المنحل، و3 أعضاء من الفصائل المسلحة التي انضمت لمجلس السيادة، وسعى لتعيين عضو سادس من العسكر، كما رفض تسليم السلطة إلا لحكومة منتخبة في صيف عام 2023، وأوقف لجنة مكافحة الفساد.

2- الموقف الأمريكي بين انقلابين

أ- الموقف الأمريكي من الانقلاب التونسي:

جاء الموقف الأمريكي متسلسلاً، وجميعه يقف موقفاً موارباً أقرب إلى المواقف الرماية، إذ جاء الموقف على النحو التالي:

– بتاريخ 26/ 7/ 2021، أعلنت المتحدثة باسم البيت الأبيض في معرض ردها على سؤال من الصحفيين فيما إذا كانت تعتبر ما جرى في تونس انقلاباً، فكان رد ساكي: إن إدارة الرئيس جو بايدن لا تتبنى توصيف ما جرى على أنّه انقلاب، فهذا توصيف له محددات قانونية، وتقصد بذلك قانون المساعدات الخارجية لعام 1961 في توصيف الانقلاب العسكري الذي يوصف الانقلاب بحدوث انقلاب ضد رئيس منتخب، وأن يمارس الجيش دوراً حاسماً به.

– بتاريخ 27/ 7/ 2021، أعلن وزير الخارجية الأمريكي بلينكن، في اتصاله بالرئيس التونسي، بدعم الولايات المتحدة الأمريكية للشعب التونسي والديمقراطية التونسية، وأنّ الإدارة الأمريكية تحث الرئيس على الاستمرار في حوار مفتوح بين الرئيس وجميع الأطراف السياسية التونسية والشعب التونسي.

– بتاريخ 31/ 7/ 2021، أعلن رئيس مجلس الأمن القومي الأمريكي جاك سوليفان، وهو مجلس يختص بالأمن القومي الأمريكي والسياسات الخارجية ويعمل المجلس كمستشار للرئيس الأمريكي، دعم الرئيس بايدن للمسار الديمقراطي في تونس، وشدد على وجود حاجة ماسة لدعوة القادة التونسيين لرسم الخطوط العريضة لعودة سريعة للمسار لديمقراطي.

فيما لم يتأثر الوجود العسكري الأمريكي في تونس الذي تعود جذوره إلى أكثر من 200 عام، حيث يوجد في مدينة قرطاج مقبرة ونصب تذكاري يضم 3 آلاف جندي أمريكي قتلوا على الأراضي التونسية في الحرب العالمية الثانية، كما تشارك قوات المشاة الأمريكية في الحرب على تنظيم “القاعدة” والتنظيمات الإسلامية المتشددة بشكل غير معلن، وبقي الدعم الأمريكي العسكري لتونس كما هو؛ إذ تعتبر تونس أكبر متلقٍّ للدعم العسكري الأمريكي في دول شمال أفريقيا، كما جاء في مجلة “ناشونال إنترست”.

فيما وصلت قيمة المساعدات المادية الأمريكية لتونس لعام 2021 مبلغ 241 مليون دولار، فيما خصصت الميزانية الأمريكية دعماً لتونس لعام 2022 مبلغ 180 مليون دولار، كما وفرت أمريكا مساعدات لتونس بضمانات قروض بلغت قيمتها 1.5 مليار دولار، كما قامت الولايات المتحدة الأمريكية بتقديم مساعدات طبية لمواجهة وباء كورونا، إذ قدمت أكثر من 636 ألف جرعة من لقاح فايزر وجونسون آند جونس بعد الانقلاب في تونس بما خدم الرئيس التونسي.

ب- الموقف الأمريكي من انقلاب السودان:

جاء انقلاب المكون العسكري على المكون المدني في مجلس السيادة السوداني بعد لقاء جمع المندوب الأمريكي للقرن الأفريقي فيلتمان والمكون العسكري السوداني، البعض قرأ الانقلاب العسكري السوداني بضوء أخضر أمريكي.

لكن الرد الأمريكي الأوليّ على أحداث السودان جاء مختلفاً عن هذه القراءة، إذ قالت الناطقة باسم البيت الأبيض: إن البيت الأبيض يشعر بالقلق، وإن هذه الإجراءات تتعارض بشدة مع إرادة الشعب السوداني.

بعد ذلك، أعلن وزير الخارجية الأمريكي بلينكن رفض بلاده لإجراءات الجيش السوداني ضد الحكومة الانتقالية التي يقودها مدنيون، وأكد أنّ البيت الأبيض يشعر بالقلق حول المعلومات الواردة بالتقارير من أنّ الجيش السوداني يستخدم الذخيرة الحية بمواجهة المحتجين.

وبعد ذلك، أعلن وزير الخارجية الأمريكي عن توقف واشنطن تسليم 700 مليون دولار مساعدات للسودان كانت تهدف لدعم التحول الديمقراطي.

ثم جاء التصريح الأكثر شدة في مواجهة انقلاب السودان على لسان المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية برايس الذي قال: إن الولايات المتحدة مستعدة للجوء إلى جميع الإجراءات لمحاسبة من يحاول التقليل من إرادة الشعب السوداني، دون توضيح هذه الإجراءات، إلاّ أنّ الولايات المتحدة لم تصف ما تم في السودان باعتباره انقلاباً عسكرياً، وبذلك حافظت على علاقة مع جميع أطراف الصراع السوداني (العسكر، والمكون المدني) وكانت المرجع للجميع في حل الأزمة.

3- كيف نفهم تباين الموقف الأمريكي بين انقلابين؟

في الوقت الذي لم تتخذ أمريكا أي خطوات عملية مؤثرة على الأرض فيما يتعلق بمواجهة انقلاب تونس وانقلاب السودان، لكن لماذا جاءت التصريحات والضغوطات الأمريكية نحو انقلاب تونس أقل شدة من انقلاب السودان؟ إذ يمكن قراءة هذا الاختلاف في الموقف من عدة جوانب:

أ- الانقلاب التونسي:

– لم تجد الولايات المتحدة في تعريف الانقلاب ما ينطبق على ما قام به الرئيس التونسي، إذ يعرف الانقلاب في قانون عام 1961 بأنه استيلاء الجيش على السلطة ضد رئيس منتخب، حيث إن من قام بتلك الإجراءات في تونس رئيس منتخب بمساعدة الأجهزة الأمنية والجيش ضد برلمان وحكومة برلمانية.

– التقارير حول الوضع الاقتصادي المتردي في تونس، الذي عجزت بموجبه الحكومات المنتخبة عن تحويل وتسييل الإرادة الشعبية وحكم الشعب إلى إنجازات حقيقية على الأرض، مما دفع بجزء من الشعب إلى الانحياز لإجراءات الرئيس سعيد التي همش بها الحياة الديمقراطية لصالح حكم الفرد.

– خطاب الرئيس التونسي الإعلامي الذي ظل يظهر تمسكه بالخيار الديمقراطي في تصريحاته، وإن كان يمارس خلاف ذلك على الأرض، إذ تعتقد الولايات المتحدة أن تعزيز العلاقة مع الرئيس التونسي يمكن أن تحقق ضغطاً على الرئيس للعودة للحياة الديمقراطية.

– إضافة إلى وجود المكونات الإسلامية حزب النهضة وتحالف الكرامة من ضمن المكونات المنقلب عليها، وهي ذات المكون الذي وصفه الرئيس الأمريكي أوباما في نظام الحكم في مصر أيام الراحل محمد مرسي إذ قال: “لا يمكن اعتباره نظاماً صديقاً أو نظاماً عدواً”.

ب- الانقلاب السوداني:

– المصالح الأمريكية في السودان تبدو كبيرة؛ لذلك نجد الاهتمام الأمريكي بما جرى في السودان، إذ إن نفط دولة جنوب السودان يحتاج أن يمر بالسودان حتى يصل إلى الولايات المتحدة، كما أن هناك موارد اقتصادية كبيرة في السودان تحتاجها الولايات المتحدة متمثلة في الذهب والمعادن الأخرى.

– القلق الأمريكي الكبير من تمدد الصين وروسيا في السودان والقرن الأفريقي، خاصة بعد اتفاق الخرطوم وروسيا على إنشاء الروس قاعدة عسكرية للتموين والصيانة على البحر الأحمر، في عام 2017، إذ تسعى الولايات المتحدة المحافظة على أمن البحر الأحمر.

– أرادت الولايات المتحدة من الوقوف في المربعات الرمادية بين المكون المدني والمكون العسكري الضغط على المكون العسكري بتحسين الظروف السياسية لصالح المكون المدني، وبذات الوقت خلط الأوراق أمام المكون المدني وخصوصاً الأحزاب اليسارية والحزب الشيوعي القريب من روسيا والصين أيديولوجياً بأن من يحمي المكون المدني من العسكر هي أمريكا.

نجحت الولايات المتحدة في تحجيم خطوات العسكر السوداني وكبح جماحها، وفي الوقت نفسه، سمحت بإعادة ترتيب شكل المكون المدني بما يخدم المصالح الأمريكية في المستقبل.

الولايات المتحدة مطالبة أمام شعوب العالم الثالث التي تواجه الاستبداد وحكم العسكر بالانحياز إلى الديمقراطية، وأن تخرج من مربع المناطق الرمادية التي تضحي في كثير من الأحيان بالديمقراطية من أجل الحفاظ على مصالحها وتتعامل بأقصى درجات البراغماتية والمصالحية في تعاملها مع الاستبداد.

الولايات المتحدة إذا أرادت أن تصبح راعية للديمقراطية وحرية الشعوب كما تدعي لا بد لها من انحياز واضح إلى حرية الشعوب وديمقراطيتها، فلا تعارض بين ديمقراطية الشعوب ومصالحها في تلك الدول، وهي قادرة على التوفيق بين ذلك.

Exit mobile version