القرآن أعلى من العقول والعلوم (1 – 3)

 

القرآن العظيم أرقى وأرفع من العقول والعلوم مجتمعة، فالعلوم المجموعة فيه تجاري كل العصور بعقولها وبعلومها واكتشافاتها، وهذه العلوم لا يمكن أن تستوعبها العقول المخلوقة دفعة واحدة وفي زمن محدود كما حواها كتاب الله بدقها وعظيمها، كيف لا وهو كتاب وكلام الخالق.

القرآن كتاب عظيم لا شك، وكيف لا وهو كلام العظيم الأعظم جل جلاله، وكلامه سبحانه وتعالى صفة من صفاته، وصفاته خالدة مع خلوده وعلومه الخالدة التي لا يعلمها ويحصيها سواه جل وعلا.

قال الله تعالى مبيناً نزوله من عنده على نبيه صلى الله عليه وسلم في مواقع كثيرة من القرآن الكريم، ونحن لا نريد أن نبين نزوله من الله تعالى، فهذا أمر بديهي بالنسبة للمسلم ومتعارف عليه، ولكن نريد أن نبين نزوله، وأيضاً علومه التي سبقت كل العصور بعلومها واكتشافاتها، وكيف المفردة تجاري كل عصر حسب علومه وقدراته العلمية، وبنفس اللفظة دون خدشها أو هزها لعلوم الماضين، وانسجامها ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، وإن تطورت العلوم وكبرت فلا تناقض باللفظة في مقاصدها ومعرفتها فهي احتملت كل المعرفة، العظيم منها وما دق أو صغر حسب الزمان ومعرفته وعلومه واكتشافاته.

فلذلك، نزله الله تعالى منجماً كإشارة إلى عدم استيعابه علمياً دفعة واحدة، فالعقول المخلوقة لا تستطيع ذلك وإن اجتمعت من أجل ذلك، فعلومه في آياته، ومفرداته، وحروفه، وكلماته، إجمالاً تحتاج إلى عصور ودهور حتى يتم اكتشاف بعض من علومها ومعانيها ومقاصدها العلمية ظاهراً ومضموناً.

بين الله تعالى نزوله من عنده في مواقع تكاد لا تحصى في كتابه العظيم، وفيها قال الله تعالى مخاطباً رسوله صلى الله عليه وسلم: (وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) (النساء: 113)، وقال تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ {2} نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَـذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ) (يوسف)، ثم أجمل تعالى في وقت نزوله بداية في رمضان، قال الله تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) (البقرة: 185)، ثم تخصيص نزوله المجمل إلى السماء الدنيا فقط، فقال: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) (القدر: 1)، وآيات النزول كثيرة في كتاب الله تعالى، ونحن ذكرنا النزول كمقدمة للآتي؛ وهو بيان العلوم التي تحملها المفردة، حيث تحمل نفس المفردة المعلومة لكل عصر، حسب قدرات ذلك العصر العلمية دون أن تتناقض تلك المعاني مع تطور العلوم، وسنضرب الأمثلة في ذلك من كتاب الله تعالى، لنبين ما نعنيه من عظمة لهذا الكتاب العظيم، ونزوله منجماً هي لا شك لفتة علمية عظيمة، ودليل عدم استيعابه في علومه الكلية دفعة واحدة، ولا يمنع من فهم علومه البلاغية واللغوية وبيانها في حينها من أجل إحراج وإبهار قريش، التي هي أبلغ العرب حينها، ويكفينا في ذلك موقف الوليد بن المغيرة حينما سمعه وهو أغنى أغنياء قريش، وكان شديد العداء لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وكان يعلم الكتابة والقراءة، ويعلم تعاليم ملة سيدنا إبراهيم عليه السلام، وكان ممن يرتاد المجالس الأدبية والشعر، فلذلك هو استكثر ألا ينزل القرآن والنبوة عليه وهو السيد الذي يحوي تلك الميزات، وكان من أفصح فصحاء العرب، وأروعهم شعراً، وحينما أراد الاتفاق مع قريش في عدائهم لمحمد صلى الله عليه وسلم، قال في القرآن الكريم بعد سماعه: “والله لقد سمعت من محمد آنفاً كلاماً ما هو كلام الإنس ولا من كلام الجن، والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو ولا يُعلى عليه”، حتى قالت فيه قريش: إنه صبأ وهو ريحانة قريش، والله إن صبأ لتصبئن قريش كلها.

هذا ما قاله المشرك الغني الشاعر البليغ المتعلم، ريحانة قريش الوليد بن المغيرة، إلا أن الشيطان الرجيم أجَّج الحقد والغل والحسد في قلبه ليصر على نكران النبوة في محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن ما استطاع أن ينكر شيئاً من عظمة القرآن، وأنه أعظم مما عرفته العرب من شعر وفصاحة وبلاغة وسحر وغيره، ومع ذلك أخذته العزة بالإثم، فقال الله تعالى فيه: (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ {18} فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ {19} ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ {20} ثُمَّ نَظَرَ {21} ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ {22} ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ {23} فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ {24} إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ {25} سَأُصْلِيهِ سَقَرَ {26} وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ {27} لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ {28} لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ {29} عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ ) (المدثر).

Exit mobile version