كيف نواجه السلطوية السياسية؟

 

يمكن وصف أي نظام بالنظام السلطوي إذا كان هذا النظام مولوداً من خارج رحم الشعب، وإذا كانت مؤسسات الدولة وسلطاته السيادية التشريعية والتنفيذية لا تولد من رحم القرار الشعبي واختياره الحر والمباشر، أو إذا تم العبث باختيارات الناس وقراراتهم من خلال العبث بمخرجات العمليات الانتخابية لتفرز ما لم يختاره الناس.

توصيف وتشخيص حالة الدولة السلطوية وأمراضها والبؤس الذي يلحق بالشعوب بسبب غياب الحالة الديمقراطية والحرية السياسية أمر يسهل على الجميع، ويستطيع الجميع التحدث به ووصفه كما هو من حيث الفساد الاقتصادي والإداري والترهل، وانعدام النزاهة والشفافية وتكافؤ الفرص، وتراجع مستوى حياة الناس.. إلخ، لكن السؤال الأهم: ما الطريقة الأنسب للتعامل مع الأنظمة السلطوية وتغييرها أو إصلاحها؟

التعامل مع السلطوية السياسية أمر بالغ التعقيد، إذ إنك تريد أن تخلص السلطة السياسية من الاستبداد والدكتاتورية دون أن تلحق الأذى بمؤسسات الدولة، وبذلك نجد أن تعامل النخب السياسية على مدار التاريخ مع السلطوية السياسية جاء وفقاً للأساليب التالية:

أولاً: الثورة على الأنظمة السلطوية وإسقاطها: وهي حالة الخروج الكامل للشعب على الوضع السياسي الراهن، وخلع السلطة السياسية القائمة، وبناء سلطة سياسية جديدة، فالثورة لا تكون إلا بيد الشعب والجماهير، أما التحركات العسكرية فهذه انقلابات عسكرية لا ثورات شعبية، وعادة ما تأتي الانقلابات العسكرية بأنظمة أكثر سوءاً من الأنظمة السلطوية، لكن للثورة عدة أشكال:

الثورات المسلحة: وهي الثورة التي يلجأ فيها الشعب إلى حمل السلاح في وجه الدولة ومؤسساتها ووجه النظام القائم للتخلص منه وإخراجه من السلطة، وهذا النوع من الثورات وجد على مدار التاريخ، لكن في دراسة أجرتها الباحثة الأمريكية شينوويت بعد دراسة مئات الثورات والاحتجاجات على مدار قرن كامل أن فرص نجاح الثورات السلمية تكون ضعف فرص نجاح الثورات المسلحة، كما أن أخطر ما في الثورات المسلحة هو انهيار مؤسسات الدولة بالكامل، وصعوبة الحوار على المرحلة الانتقالية بين رفقاء الثورة، إذ عادة ما يكون لقوة السلاح في حسم وجهة نظر فريق من رفقاء الثورة على فريق آخر، وعادة ما يتم استبدال الثورة السلطوية بالأنظمة السلطوية التي تلد أنظمة سلطوية مجدداً.

الثورات السلمية: وهي الثورات التي تخرج بها الشعوب على الأنظمة القائمة بالوسائل السلمية من خلال المظاهرات أو الاحتجاجات في الشوارع أو الاعتصامات المفتوحة في الميادين أو العصيان المدني الشامل، ولنجاح هذا النوع من الثورات لا بد من توفر القاعد الذهبية لنجاح الاحتجاجات الشعبية وخروج ما لا يقل عن 3.5% من الشعب إلى الشارع والمشاركة في الاحتجاجات الشعبية، كما تصف شينوويت التي ترى أن خروج هذه النسبة بعد دراسة مئات الاحتجاجات لا بد أن تحقق نتيجة أكيدة في تنحي الأنظمة السلطوية، الأهم من خروج هذه النسبة هي وجود نخب سياسية معارضة قادرة على ترجمة مطالب الشعب إلى مكاسب سياسية حقيقية على الأرض، وهذا يتطلب أن تمتلك هذه النخب شكل المشروع السياسي الذي تطالب به، وهذا ما افتقرت إليه النخب العربية بعد ثورات الشعوب التي أزالت السلطوية السياسية؛ إذ أن الخلاف كان كبيراً بين رفقاء الثورة على شكل المشروع السياسي المنشود، فكانت النافذة والكوة الكبيرة التي دخلت منها الثورات المضادة واستعادت السلطوية السياسية ونشوب الحروب الأهلية في أحيان أخرى.

ثانياً: إصلاح الأنظمة، عادة ما يكون خيار إصلاح الأنظمة هي خيارات الشعب في إصلاح الأنظمة الملكية أو شبه الملكية التي تخشى النخب أو الشعوب أن يكون هناك فراغ سياسي كبير يؤدي إلى حروب أهلية إذا ما تم إسقاط الأنظمة القائمة، ووسائل إصلاح الأنظمة تتعدد بالتالي:

إصلاح الأنظمة من الداخل: وهو الأسلوب الذي يمكن أن تلجأ إليه النخب في معالجة السلطوية السياسية من خلال الانخراط في مؤسسات الدولة ومحاولة إصلاح الأنظمة من داخل النظام نفسه بتقديم الكفاءة وتقديم النماذج الناجحة في الإدارة، ونقل هذه التجارب لتصل إلى كل مفاصل الأنظمة السلطوية لتشجيع الأنظمة السلطوية على إجراء تحولات سياسية كبرى من خلال نجاح النماذج المشاركة في السلطة، لكن هذه الوسيلة يمكن أن تنجح بعد توفر عدة شروط، أهمها أن تكون هذه الأنظمة السلطوية قابلة للإصلاح من حيث الأساس، ولديها الاستعداد للقبول بالإصلاح السياسي من حيث المبدأ، وأن تكون المشاركة من النخب الإصلاحية مشاركة جماعية مؤثرة تمتلك برنامجاً قادراً على أن يقدم شكلاً جديداً من الحكم يمهد لقبول تحولات سياسية كبرى، وأن تكون هناك حالة ثقة بين الأنظمة السلطوية والنخب الإصلاحية كفيلة بجعل الأنظمة السلطوية تقبل بخطوات النخب الإصلاحية وتثق بنواياها لمواجهة الدولة العميقة التي تعتاش على الوضع القائم، وترفض أي إصلاح يؤثر على مكاسبها، وبغير تلك الشروط فإن أي مشاركة في الأنظمة السلطوية تعني أن تبتلع الأنظمة السلطوية النخب الإصلاحية وتحولها إلى جزء من منظومة السلطوية السياسية والديكور السياسي التجميلي فتضاعف المشكلة وتدفع الشعب إلى خيارات الثورات.

إصلاح الأنظمة من الشارع: هذه الوسيلة هي أقرب إلى الثورات السلمية، لكنها وسيلة تختلف في الأهداف عن الثورات السلمية، إذ إن هدف إصلاح النظام من الشارع هو تشكيل حالة ضغط شعبي لدعم النخب الإصلاحية في انتزاع أكبر قدر ممكن من تحسين شروط الحياة السياسية والبيئة السياسية المنشودة مع بقاء الأنظمة السياسية القائمة دون خلعها، لكن لنجاح هذه الوسيلة لا بد من وجود أعداد جماهيرية مؤثرة في الشارع، ووجود نخب تعلم شكل المشروع المنشود وتذهب إلى طاولة المفاوضات مع النظام السلطوي لتحقيق مكاسب الشعب وتحقيق المشروع السياسي المنشود، وإلا تحولت الاحتجاجات الشعبية من وسيلة إلى هدف شعبوي رخيص لدغدغة عواطف الجماهير وسرعان ما يمل الشعب طول المكوث في الشارع وتتبخر الاحتجاجات الشعبية، وتكون النتيجة تمكن السلطوية السياسية وصلابة عودها.

بينما هناك مسار ثالث تتحدث به بعض النخب وهو عدم الذهاب إلى مسار الثورات أو إصلاح الأنظمة، والاكتفاء بممارسة السلبية السياسية من خلال مقاطعة كل أشكال العملية السياسية وعدم الانخراط بها، هذا المسار لا يمكن وصفه بأنه مسار عملي لمواجهة السلطوية السياسية، وإنما يمكن وصفه بتهيئة المناخ الذي يمهد إلى قيام الثورات، أو مسار إصلاح الأنظمة من خلال الشارع، هذه الوسيلة يمكن وصفها بالحضن الدافئ الذي يحتضن الثورات، ويدفع الشعوب إلى تراكم حالة اليأس والقنوط التي تفجر الثورات بعد ذلك، فعادة ما تذهب الجماهير القانطة إلى الثورات بعد أن يستعمرها اليأس والقنوط، لكن هذا المسار يمكن للأنظمة السلطوية أن تتحايل عليه من خلال الإغراق في أسلوب الريعية الاقتصادية وتقديم الأعطيات والمكاسب المعاشية للشعب، فيصبح الشعب غير مهتم بمن شارك أو قاطع السلطة بمقدار ما يهتم بما يحققه من مكاسب معاشية يومية فيطيل به عمر الأنظمة السلطوية.

كل الوسائل في خلع السلطوية السياسية أو إصلاحها جربتها الشعوب في العالم، وبعضها نجح، وبعضها فشل، ولا يمكن تفضيل أسلوب على آخر أو رفض أسلوب ونبذه إلا بمقدار ما يتوافق مع طبيعة الدولة ومكوناتها وظروفها الزمانية والمكانية والجيوستراتيجية ونضوج النخب أو ضعفها، المسألة معقدة، ووقت الأحداث الكبرى تقاس القرارات بحجم بيض النمل، وأي خطأ يعني انزلاق البلاد إلى الفوضى أو الحروب الأهلية وانهيار مؤسسات الدولة، أو عودة السلطوية السياسية وتجديد دمائها لعقود جديدة.

Exit mobile version