واقعية الدعوة إلى الله تعالى  

 

البعض يرى أن قول الله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً) (المائدة: 3)، يرى البعض ومع الأسف، أن هذه الآية تشرع للدعوة الشاملة والتغيير جملة وتفصيلاً للمجتمع وإلقاء التدرج والواقع، وإلقاء فن الدعوة إلى الله تعالى وفقه الواقع والمرحلية، وهذا لا شك من الأخطاء الفادحة والمسيئة جداً للدعوة والدين معنوياً وميدانياً، بل هي من أكبر المحاور التي تسبب فشل الدعوة.

نعم، اكتمل الدين، ومن كماله الاستفادة من مسيرته واقعاً وتدرجاً وعدم إجبار المجتمع على أمر مع عدم تأهيله لذلك، وهذا من الفهم الرائع والدقيق للآية الكريمة التي تبين كمال الدين.

واقعية الدعوة إلى الله تعالى تعني العبارة، وبداية فهم المجتمع وأولوياته وتاريخه بداية.

الإسلام أمرنا بأوامر واضحة ودعوة إلى الله تعالى، ولكنه لم يكن في يوم من الأيام يأمرنا بالتغيير الشامل دفعة واحدة في كل ما عظم ودق من أوامر وحدود، فهذه مسألة جد مهمة وخطيرة، ويجب أن يفهمها أهل الدعوة الصادقين، يفهمونها بدقة وعمق وذكاء.

والدعوة إلى الله تعالى محصورة بين قوسين؛ القمة والقاع، حسب القدرات والإمكانات المتاحة، فهي ما بين الذروة الظاهرة بقوله صلى الله عليه وسلم: “سيد الشهداء حمزة، ورجل قال كلمة حق عند سلطان جائر فقتله”، وقوله صلى الله عليه وسلم: “بلغوا عني ولو آية”، أو “إماطة الأذى عن الطريق”، لذلك لا بد من الواقعية لقدرات الناس واستقبالهم وقدرات ذات الداعية نفسه إلى الله تعالى.

الواقعية الأصل فيها معرفة المجتمع الذي أنا فيه، وأتحرك وأدعو لله سبحانه وتعالى فيه، ومعرفة طبيعته وثقافته التي تطبّع فيها فترة من الزمن واعتاد عليها هذا المجتمع أو ذاك، وذلك لتقديم الدعوة والأسلوب الملائم لهذا المجتمع أو هذه الكتلة أو هذا الفرد من منطلق فهم القاعدة الدعوية الذهبية: “لا تنهَ عن منكر وتأتي بأكبر منه”. 

ويجب أيضاً فهم الأولويات في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا شك يجب استيعاب هذا بشكل دقيق من أجل الأمر المعروف والنهي عن المنكر، وتعزيز الإيجابيات قبل النهي عن المنكرات.

يجب على الداعية أن يراعي واقعية حياة هذا المجتمع أو ذاك الذي سيسعى دعوةً فيه، فالدعوة لها بذور، وهذه البذور يجب سقايتها بشكل مستمر حتى تنبت ومن ثم متابعتها حتى تثمر، ثم جني الثمار المنشودة التي يرجوها المزارع أو الداعية إلى الله تعالى. 

أيضاً من الأمور التي تجعل الداعية إلى الله في هامش النجاح أن يفهم فهماً دقيقاً قول الله تعالى: (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا) (البقرة: 286)، سواء وسع نفسه تحركاً للدعوة أو وسع المقابل، وأن يقدم الدعوة بلين وتدرج وفهم الواقع، وهذا أيضاً ظاهر بقوله صلى الله عليه وسلم: “من رأى منكم منكراً فليغره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان”.

أما بالنسبة للمدعو، يجب التدرج واللين والحب معه لقبول الطرح والفكرة: (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) (النحل: 125)، وقال تعالى: (وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ) (آل عمران: 159)، وخير ما نذكر هنا من فن الدعوة وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ يوم أن جهز للذهاب إلى اليمن: “إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب، فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، فإن أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله تعالى افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا ذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب”.

قمة الفن تدرجاً وترتيباً لأوليات الدعوة، وإتاحة الفرصة الزمنية لهضم الأمر ثم التحرك، إنها منهج ودستور دعوي، نعم يجب على الداعية أن يراعي فقه الواقع للمجتمع، نعم فقه الواقع أو فقه الحال، والسعي في تعزيز الإيجابية سابقاً للإنكار للمنكر، وخير ما نستشهد به في حالنا الحاضر في هذا الفهم تركيا وحركة الرئيس أردوغان في تغيير الواقع بتأنٍّ وبُعد نظر، فهنيئاً لتركيا أردوغان، بل هنيئاً لنا كأمة برجل مثل أردوغان.

اعلم أخي في الله، أن من يدعو إلى التغيير الشمولي بشكل سريع وعاجل فهذا ليس خادماً للإسلام بقدر ما يسيء له قصد أم لم يقصد.

ولنا في سيرة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أسوة، كان يصلي في الحرم وحول الكعبة الأصنام، وصبر وتدرج حتى اكتمال الدين بفضل الله تعالى، وهذا الاكتمال لا يعني فرضه في كل زمان ومكان دون مراعاة بعض القواعد الدعوية المهمة كالتي ذكرناها آنفاً، وعلى رأسها “لا تنهَ عن منكر وتأتي بأكبر منه”، أو كما قال صلى الله عليه وسلم، هذا الكمال من صلبه فهم المجتمع وفقه الواقع، فهم الأولويات والتدرج في استيعاب المقابل والصبر عليه لهضم الحال واستعداداً للأمر الآخر وهكذا.

Exit mobile version