أنصاف الديمقراطيات لا تعمل

 

صحيح أن الديمقراطية ليست شرطاً من شروط النهوض المادي وجلب الرفاه، إذ استطاعت أنظمة مستبدة عديدة أن تبني حالة نهوض مادي مؤقت، إلا أن الديمقراطية شرط من شروط استمرار النهوض، إذ لا يمكن لنهضة أمة أن تستمر إلا إذا كانت هذه الأمة أمة حرة والشعب يحكم نفسه.

الديمقراطية هي الحارس الوحيد القادر على حماية الإنجازات لأي أمة ناهضة، وأن الاستبداد مهما نجح مؤقتاً في بناء النهوض فإن مصيره المحتوم هو هدم كل ما بناه، وهذا ما حصل مع هتلر في بدايات القرن الماضي، والنظام العراقي السابق، والنظام السوري الحالي، والنظام الناصري في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، كما أن كل الأمم الناهضة التي نهضت واستمر نهوضها حتى الآن هي أمم ديمقراطية، فالديمقراطية تشبه جهاز المناعة داخل جسم الإنسان؛ إذ تقوم على تصحيح الخلل ومعالجة المرض بشكل دائم مما يعني تقليل الأخطاء وتصحيح المسير.

ليس هناك حزام أمني قادر على حفظ أمن واستقرار الدول أكثر من الحزام الديمقراطي، وأن الأمن الشرطي مهما تم الإنفاق عليه ودعمه وتعزيزه ومهما توحش في ممارسة العنف لكنه بالنهاية لن يستطيع الصمود طويلاً أمام ضغط الشعب المكبوت، وينتهي عادة باندفاع سيل الشعوب على شكل لا يتوقعه أحد، لذلك قيل في السياسة: إن الصندوق الانتخابي هو أقوى الأجهزة الأمنية.

لكن حتى تحقق الديمقراطية ركائز النهوض -الأمن والاستقرار وإدارة عجلة الاقتصاد وجلب الرفاه.. إلخ- لا بد أن تكون هذه الديمقراطيات ديمقراطيات كاملة، فاجتزاء الديمقراطية يمنع نظامها من العمل والإنتاج، فالديمقراطية شأنها شأن أي منتج لا يعمل إلا إذا كان مكتمل الأركان، فلا يمكن للمحرك أن يعمل إلا إذا كان كامل الأجزاء، وكذلك هي الديمقراطيات فهي نظام كل متكامل.

الأنظمة الديمقراطية سواء كانت أنظمة رئاسية، كما هي الحال في النظام الأمريكي أو الفرنسي، أو أنظمة برلمانية سواء كانت هذه الأنظمة البرلمانية أنظمة ملكية، كما هي بريطانيا، أو أنظمة جمهورية كما هي لبنان أو العراق، فلا بد لها حتى تعمل أن تكون ديمقراطيات مكتملة الأركان.

مجرد الذهاب إلى الصندوق لا يعني أننا حصلنا على نظام ديمقراطي، فأحياناً الصندوق يكون مقدمة لحروب أهلية في ظل انقسامات دينية أو عرقية أو حتى انقسامات مجتمعية طولية، حتى تكون الديمقراطية ديمقراطية كاملة لا بد أن تتوفر بها الخصائص التالية:

– أن يكون الشعب هو الذي يقرر بشكل مطلق في شأن من يحكمه، فلا ديمقراطية ولا حكم ديمقراطياً إلا إذا كان الشعب هو صاحب القرار سواء كانت هذه الديمقراطيات ديمقراطيات مباشرة كما هو في انتخاب الرؤساء أو غير مباشرة، كما هي الحال في انتخاب رؤساء الحكومات من الأغلبية البرلمانية.

– ويجب أن تخضع كل مؤسسات الدولة إلى الحاكم الجديد المفوض من قبل الشعب، فلا يمكن للديمقراطية أن تعمل وأن تنتج ما دامت هناك مؤسسات تعمل خارج إطار الحاكم الذي يختاره الشعب أو تعمل بخلاف ما يريد.

– عدم التجزئة، فالديمقراطية كل متكامل وحتى تعمل لا بد من عدم التجزئة في تطبيقها، فلا تنتج الديمقراطية آثارها إذا ما تم السماح مثلاً بانتخابات برلمانات قوية وحرة دون أن تعطى حقها في تشكيل الحكومة، ففي مثل هذه الحالة تتحول البرلمانات إلى عقبة في وجه إدارة دواليب الدولة، وتتحول إلى جهاز معطل لاستقرار الدولة ونجاحها وتشكل حالة من الاستعصاء السياسي، فالبرلمانات القوية الشعبية لا بد أن تكون هي صاحبة القرار في اختيار الحكومة من أعضائها ليكون البرلمان حزاماً داعماً للحكومة ودافعاً وحامياً لبرنامج الحكومة في النهوض والتنمية. 

فإذا ما تم انتخاب رئيس دولة فلا بد من أن تخضع له كل المؤسسات وأجهزة الدولة، وبخلاف ذلك نكون هنا أمام تعارض إدارات؛ وبالتالي تصبح الدولة كالعربة التي يجرها مجموعة من الأحصنة في اتجاهات معاكسة، وكذلك وجود برلمانات منتخبة دون تشكيل الحكومة فتصبح البرلمانات عقبة أمام استقرار الدولة وعملها.

لكن الديمقراطيات حتى لو كانت مكتملة وديمقراطيات تخضع لها كل أجهزة الدولة، إلا أن هذه الديمقراطيات لا يمكن أن تنتج أثرها إذا كانت:

– ديمقراطيات مبنية على المحاصصة الدينية أو العرقية أو المناطقية والجهوية، كما هي الحال في الديمقراطية اللبنانية والديمقراطية العراقية، إذ تم بناء النظام السياسي على أساس طائفي، وتقسيم مناصب الدولة بين الطوائف، فهذه الأنواع من الديمقراطية تعزز الانقسامات الاجتماعية وتفكك بنية الدولة وتحولها إلى مقاطعات طوائف.

– الديمقراطيات التي تنشأ في الدول الدينية، كما هي الحالة في الديمقراطية الإيرانية، يوجد انتخابات وصندوق شفاف، والناس تختار، لكن وجود الديمقراطية في دولة محكومة من قبل رجال الدين يجعل مخرجات الديمقراطية منتهية قبل أن تذهب الناس للصناديق من خلال تصميم الانتخابات بشكل يمنع وصل أي شخص إلا من وسط رجال الدين ومن يدور في فلكهم السياسي، فهذه الديمقراطيات المنقوصة تلغي الهدف والفلسفة التي تقوم عليها فكرة تداول السلطة وإدارة الدولة وتدوير الكفاءات والخبرات والنهج.

– الديمقراطيات التي تنشأ في الدولة المحكومة من العسكر، كما هي الحال في بعض الدول العربية، إذ تحدد نتيجة الانتخاب لصالح العسكر أو من يمثلهم قبل أن يذهب الناس للصناديق وتكون نتيجة الانتخابات معروفة قبل أن يذهب الناس للصناديق، فرغم وجود انتخابات وصناديق لكن هذه الديمقراطيات المنتقصة لا تؤدي عملها وتحقق الغاية التي قامت عليها فكرة وفلسفة تداول السلطة وتدوير الكفاءات في إدارة عجلة الدولة.

قد يكون الذهاب للصندوق أبرز تجليات الديمقراطية وصورها، لكن الديمقراطية كل متكامل تبدأ من الاختيار الحر، إلى خضوع مؤسسات الدولة للقيادة المنتخبة، وعدم تجزئة الديمقراطية بحيث يكون نظاماً مدمجاً، ويكون جزء منه ديمقراطياً وجزء شمولياً استبدادياً، وتدخل هذه الأجزاء في صراع صفري لا ينتهي إلا بفشل الدولة.

الديمقراطية حتى تصبح ديمقراطية فعالة لا بد أن تكون بعيدة عن هيمنة العسكر وسلطانهم، وبعيدة عن تدخل رجال الدين وهيلمانهم وشوكتهم الدينية على الأفراد والمؤسسات. 

الديمقراطية نظام متكامل لا يعمل إلا إذا تم تطبيقها بنسختها الأصلية، حكم الشعب الكامل المتحرر من أي قوة مهيمنة عليها وبشكل غير مجتزأ أو ناقص.

Exit mobile version