طرد تركيا للسفراء.. بين القيم وحسابات المكسب والخسارة

هناك فرق بين القيم وحسابات المكسب والخسارة، والخلط بينهما يعتبر من أخطر الإشكاليات التي يمكن أن تواجه الفرد أو المنظمات أو حتى الدول، ولتناول الموضوع سنتناول تعريف كل منها والآثار المترتبة على الخلط أو الفصل بينهما وتناول بعض الأمثلة على مستوى الفرد والمنظمة والدولة.

سبب تناول موضوع القيم وحسابات المكسب والخسارة هو قرار الرئاسة التركية بطرد سفراء عشر دول من بينها أمريكا وبريطانيا وفرنسا؛ حيث فوجئ البعض بذلك، واعتبره مغامرة انفعالية غير محسوبة العواقب، والبعض الآخر اندهش وهلل له انفعالا برئيس استطاع أن يقول: “لا” لمجموعة من أقوى الدول التي تذيق المسلمين نيران حقدها، والقليل هم من قدر قيمة القرار واعتبره متسقا مع نهج السياسة التركية، ولعل ذلك يرجع إلى الخلط بين القيم وحسابات المكسب والخسارة.

القيم:

هي منظومة شاملة ومتكاملة من المعاني يحيا من أجلها الإنسان والمنظمات والأمم؛ فلا معنى لوجوده إذا ما انتهكت؛ لذا فمن أهم مقومات الوجود هو تحديد القيم التي من أجلها نحيا، والتي من أجل المحافظة عليها لا يمكن حساب كم ستكون الخسائر؟ فالدفاع عنها خارج عملية حسابات المكسب والخسارة، فيبذل في سبيلها كل الجهود سواء أكانت بشرية أم مادية.

اعتبر البعض طرد السفراء مغامرة انفعالية غير محسوبة العواقب والبعض الآخر اندهش وهلل له انفعالا

 مثال ذلك الهوية الإسلامية بالنسبة للفرد المسلم وما تتضمنه من دينه وعرضه وكرامته هو ومن يعول؛ فلا معنى للحياة إذا ما فقد المسلم هويته وذاب في شتات ما يعرف بالعولمة، وكذلك على مستوى الدولة هويتها الإسلامية وكذلك أمنها القومي الذي يتضمن من ضمن ما يتضمن الأمن القيمي والعسكري والاقتصادي والمعلوماتي، ومن سمات ذلك أن يكون قرارها ذاتيا؛ حيث تفقد الدولة قيمة وجودها إذا ما فرطت قيادتها في قرارها، وأصبحت تدار كقطعة الشطرنج، وإن تشنج قادتها وتعالت صراخاتهم بالحرية والاستقلال؛ لذا فمن أهم عناصر بناء نهضة حقيقية للأمة هو تربية الأجيال على فهم وتقديس قيمها منذ الطفولة؛ حيث تتكامل جهود كل من الأسرة والمسجد والمدرسة والنادي وكل مؤسسات المجتمع والإعلام لبيان القيم التي تصوغ وجود الدولة وترسخها في وجدان الأجيال، وأنه لا وجود لهم بدونها.

إن القيم منظمة شاملة ومتكاملة من أقدس ما تعتز به الأمة ويصوغ وجودها، وكل منها يؤثر ويتأثر بالقيم الأخرى؛ بحيث إذا ما فقد أحدها انهارت باقي القيم.

حسابات المكسب والخسارة:

بعيدا عن منظومة القيم فإن حركة الفرد أو الدولة تعتمد على حسابات المكسب والخسارة؛ سواء على المستوى المادي أم المعنوي؛ حيث يتم عند كل قرار تقيم ما يبذل من تكلفة والعائد منها، سواء أكان آنيا أم على مدى زمني، والعوامل المؤثرة في ذلك متغايرة؛ لذا فما قد يُقبل اليوم قد يُعرض عنه غدا، لتغير قيمة وأهمية ما قد يُبذل وما يُجنى من عوائد.

القيم منظمة شاملة ومتكاملة من أقدس ما تعتز به الأمة ويصوغ وجودها، وكل منها يؤثر ويتأثر بالقيم الأخرى

خطورة الخلط بين القيم وحسابات المكسب والخسارة:

بناء على مفهوم القيم يجب أن تُجنب كلية عن عمليات المكسب والخسارة؛ فإذا انتُهكت هوية الدولة الإسلامية أو أمنها القومي، فهنا لا مجال لحساب كم سنخسر إذا ما دافعنا عنها أو ما سنكسب إذا ما داهنّا؟

إن مجرد طرح التساؤل حول مخاطر الدفاع عن القيمة يفقد الفرد قيمة حياته، ويفقد قادة الدول قيمة وجودهم وأماناتهم تجاه مسؤولياتهم. مثال رجل يسير مع زوجته أو ابنته فيتعرض له نفر من المجرمين يريدون خطفها فأي حسابات حينها تتعلق بخوفه على حياته؟ فلا معنى لوجوده إذا ما فرط في قيمة عظيمة وهي زوجته، ولذا قال صلى الله عليه وسلم “.. وَمَنْ قُتِل دُونَ دِينِهِ فَهو شهيدٌ، ومنْ قُتِل دُونَ أهْلِهِ فهُو شهيدٌ ” (رواه أَبو داود، والترمذي وَقالَ: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ)، وهذا أمير المؤمنين المعتصم يسير جيشا من أجل امرأة مسلمة انتُهك عرضها، عندما بلغه قولها “وامعتصماه”.

إن الخلط بين القيم وحسابات المكسب والخسارة يؤدي إلى تشتيت الجهود وعدم الاستفادة من الإمكانيات المتاحة ويصيب الفرد والدولة بالذلة والمهانة؛ فالفرد الذي فرط في قيمة إسلامية عظمى وهي {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (الذاريات: 58)، فيعّرض كرامته للامتهان بحسابات المكسب باستمراره في العمل إذا ما تجاهل إهانة رئيسه له ونافقه، أو بالخسارة بفقدان عمله إذا ما دافع عن كرامته، فقد خسر قيمة وجوده، ونظرة الذل التي يرى بها نفسه حتى ولو كان وزيرا.

كذلك على مستوى الدولة التي تقبل قيادتها أن يُنتهك أمنها القومي فتخنع لحسابات المكسب لضمان وصول المساعدات الاقتصادية أو لضمان الدفاع عنها أو خوفا من تعرضها لأي ضغوط، فقد فقدت قيمة وجودها وخانت أمانة منصبها.

الخلط بين القيم وحسابات المكسب والخسارة يؤدي إلى تشتيت الجهود وعدم الاستفادة من الإمكانيات المتاحة ويصيب الفرد والدولة بالذلة والمهانة

لا يمكن بأي حال من الأحوال، سواء على المستوى الشخصي أو الدولة، التعلل بضعف الإمكانيات؛ فنفرط في القيم؛ لذا فرض الإسلام على المؤمن أن يأخذ بأسباب القوة كلها، عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ مَوْلَى عَبْد ِالرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّهم عَنْهم يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “لَأَنْ يَحْتَطِبَ أَحَدُكُمْ حُزْمَةً عَلَى ظَهْرِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ أَحَدًا فَيُعْطِيَهُ أَوْ يَمْنَعَهُ”، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: “المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز” (رواه مسلم)، وكما يقول العلماء فالمؤمن الضعيف هنا يقصد به المؤمن الذي لديه أسباب القوة لكنه يتهاون في الأخذ بها والله أعلم؛ لذا فعلى المسلم أن يقوي معارفه ومهاراته وقدراته المهنية حتى لا يخضع ويهادن من أجل رزقه على حساب كرامته، وهي قيمة عظمى، فرضٌ عليه أن يحافظ عليها.

وكذلك بالنسبة للدولة فعلى قادتها أن يأخذوا بكل أسباب المحافظة على قيمها بالقوة الروحية {اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا} (الأعراف: 128)، والقوة المادية {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (الأنفال: 60)، وكل ما يحفظ قيم الأمة من علم وزراعة وصناعة وعتاد حربي…

من هذ نستطيع تفهم قرار القيادة التركية، فهي دولة أخذت بأسباب القوة الروحية بالعودة إلى النبع الإسلامي، ولفظ العلمانية بفقه وتدبر لخصائص المجتمع التركي دون مصادمات، والأخذ بكل أسباب القوة المادية فصنعوا الطائرات المسيرة التي تقول بعض التقارير بأنها من أفضل الأنواع العالمية ودول كبرى تشتريها.

لذا لم يكن القرار التركي تهورا بل نتيجة طبيعية لقيادة أخذت بأسباب القوة الروحية والمادية؛ فعندما تدخلت أكبر 10 دول في شأن داخلي، اعتبرته القيادة التركية مساسا بقيمة عظمى وهي استقلالية القرار التركي، ولم تخضعه لحسابات المكسب والخسارة، بل كان الدفاع عن قيم تركيا هو المتحكم في القرار.

 

Exit mobile version