القدس ومجتمع المعرفة الإسلامي.. المدرسة الصلاحية والوظيفة الحضارية للأمة الإسلامية!

 

حرص المسلمون منذ أن فتحوا مدينة القدس علي تحويلها لمجتمع معرفة، تعبيراً عن الوعي بالوظيفة الحضارية للمدينة ومكانتها الإسلامية.

ولقد قامت القدس طوال عصور القوة الإسلامية بدورها كمركز لنشر المعرفة.. حيث تخرج فيها العلماء الذين نقلوا المعرفة إلى بلادهم، وقاموا بتعليم الآلاف من الطلاب.

ولقد تجلى وعي صلاح الدين بالوظيفة الحضارية لمدينة القدس كمجتمع معرفة إسلامي ودورها التعليمي، فكان من أهم الأعمال التي برهن بها على هذا الوعي إنشاء المدرسة الصلاحية بعد تحريره للمدينة مباشرة.

ولقد كان إنشاء صلاح الدين لهذه المدرسة إشارة لعودة المدينة إلى عهدها قبل احتلال الصليبيين لها، وأن التعليم ونشر المعرفة دليل علي إسلامية المدينة التي تقوم بدور مهم في الحضارة الإسلامية القائمة على المعرفة.

عبقرية المكان

اختار صلاح الدين موقعاً لإنشاء المدرسة الصلاحية يحمل الكثير من الدلالات والمعاني لتكون مدخلاً مهماً للمسجد الأقصى على بداية طريق يعرف تاريخياً بطريق المجاهدين، وهذا يشير إلى الربط الواعي بين المعرفة والجهاد وعبادة الله، فالوظيفة الحضارية للمجاهدين المسلمين الذين حرروا القدس في عهد عمر بن الخطاب هي نشر المعرفة، وإضاءة الطريق للإنسانية بهذه المعرفة التي أعطاها الله سبحانه وتعالى لهذه الأمة فضلاً منه وكرماً، وحملها مسؤولية تحرير البشرية بهذه المعرفة من العبودية لغير الله.

هذه المعرفة هي أساس الحضارة الإسلامية ومصدر قوتها، وتقوم هذه المعرفة على القرآن الكريم وسُنة رسول الله صلي الله عليه وسلم وحديثه وسيرته وتطبيقه للشريعة ولغة العرب التي أعزها الله بأن تحمل رسالة الله الخاتمة للبشرية كلها لأنها لغة أبينا آدم عليه السلام الذي علمه الله سبحانه وتعالى الأسماء فهي أم اللغات وأساسها.

في ضوء ذلك، تتضح أهمية اختيار صلاح الدين للمكان الذي أقام عليه المدرسة الصلاحية كأول مدرسة بعد تحرير القدس تهدف لإعادة الوظيفة الحضارية لمدينة القدس كما كانت قبل احتلال الصليبيين لها، ودعوة طلاب العلم للعودة للمدينة ليتعلموا فيها، ويصبحوا علماء يحملون العلم والمعرفة مرة أخرى للبشرية، وهم بذلك يقومون بدور المجاهدين الذين تقع المدرسة على بداية طريقهم، فالحصول على المعرفة ونقلها للبشرية جهاد في سبيل الله، وهذا يوضح أن مفهوم الجهاد في الإسلام يتميز بالثراء، ولا يقتصر على خوض المعارك، فإن كان المجاهد بالسلاح يحرر الأرض، فإنه بالمعرفة يحرر العقول من الزيف والضلال والخضوع للطغيان والعبودية لغير الله.

هذا يعني أن عبقرية صلاح الدين تتجلى في اختياره للمعاني والدلالات، فهو نموذج للقيادة القائمة على المعرفة، وهو صاحب رؤية تقوم على الربط بين المفاهيم الإسلامية، واستثمار المعرفة الإسلامية لبناء القوة الصلبة والناعمة.

وإن كانت عبقرية صلاح الدين تتجلى في اختياره لمكان المدرسة، فإنها تتجلى أيضاً في تحديد المساحة الكبيرة للمدرسة لتشكل امتداداً للمسجد الأقصى يتسع للآلاف من طلاب العلم، وأنشأ بجانبها حديقة واسعة، لكي يجتمع جمال الطبيعة مع جمال المعرفة، وتنطلق نفوس العلماء والطلاب للإبداع في عالم من البهاء والحسن الذي يملأ النفوس بهجة وسعادة.

هل يمكن أن يكون ذلك مجرد مصادفة، أم أنه يعبر عن رؤية عالم وقائد حرر القدس بالسيف ليعيدها لمكانتها الحضارية كمدينة للعلم والمعرفة؟

وكان من حق الأمة الإسلامية كلها على صلاح الدين القائد المحرر أن يطلق اسمه على هذه المدرسة، فهي عنوان لمرحلة جديدة من التاريخ تستعيد فيها الأمة قوتها، وتتقدم لإصلاح واقع كئيب صنعه الصليبيون بعنصريتهم وقسوتهم وعدم فهمهم للحضارة والجمال.

إن اسم صلاح الدين يكسب المدرسة المزيد من البهاء والجمال والمكانة، وحب المسلمين لها، وتطلعهم لها كمركز للعلم والمعرفة.

وربما أدرك صلاح الدين أن تلك المدرسة هي أهم ما يمكن أن يربط اسمه بالمجد، فهو قائد للتحرير يفهم أهمية العلم والمعرفة، ويحرص على توفيرها للأمة لتكون أساس قوتها الحضارية.

توحيد الأمة بالمعرفة

إنشاء المدرسة الصلاحية بالقدس يشير إلى جانب مهم من إستراتيجية صلاح الدين، فقد أدرك أن تفرق الأمة وتشرذمها واختلافها هو سبب ضعفها، وأن الفاطميين مارسوا الدور الأهم في احتلال الصليبيين للقدس، ولذلك فإن قوة الأمة تكمن في توحيدها على مذهب أهل السُّنة.

ولقد أدرك صلاح الدين إمكانيات القدس بعد تحريرها من أيدي الصليبيين، وأنها المدينة التي يمكن أن تتطلع لها قلوب المسلمين بعد فرحهم بالانتصار العظيم، فأرادوا أن تكون مركزاً للمعرفة الإسلامية التي تعيد للحضارة وجهها المشرق، الذي يمكن أن يتوحد حوله المسلمون بعد أن شتت الفاطميون شملهم، ونشروا أسباب الفرقة والتشرذم.

لذلك اختار أن يكون المذهب الشافعي هو المذهب الرئيس للدولة، وأن يفتح الكثير من المدارس لتعليم الناس هذا المذهب، ونقل المعرفة الإسلامية التي تعالج الآثار الضارة للفكر الفاطمي.

إن المعرفة هي التي يمكن أن تؤكد وحدة الأمة، وتؤدي إلى ترسيخها، ولقد أدرك صلاح الدين أن مدينة القدس التي تمكن من أن يوحد الأمة الإسلامية من أجل تحريرها هي عاصمة الأمة التي يمكن أن تؤكد وحدتها بنشر مبادئ الإسلام التي يتفق عليها الجميع، وتشكل الثوابت التي تقوم عليها حضارة الإسلام العظيمة، وأن العلماء والطلاب الذين يمكن أن يتجمعوا في المدرسة الصلاحية هم الذين سيصبحون قادة الرأي الذين يؤكدون وحدة الأمة، ويزيلون عصور العنت والشقاء والفرقة التي حكم فيها الفاطميون.

لقد أدرك صلاح الدين أن الفاطميين فرضوا مذهبهم بالقهر وإجبار الشعب المصري بعد أن أثاروا الخوف والرعب في نفوسهم، لذلك تخلى المصريون عن هذا المذهب عندما جاءت الفرصة للتحرر من الطغاة الفاطميين، وعبر صلاح الدين عن أشواقهم لمذهب أهل السُّنة والجماعة، وحرصهم على وحدة الأمة.

وهذا الدرس أوضح لصلاح الدين أهمية إقامة بناء مدرسة في مدينة القدس تجمع العلماء والطلاب الذين يمكن أن يحملوا نور المعرفة الإسلامية إلى الأمة حتى تتمكن من مقاومة أساليب الطغاة في التضليل.

استشارة العلماء

ولقد جمع صلاح الدين العلماء واستشارهم، وكان هذا هو منهجه في الحكم، فقد أدرك منذ بداية حكمه أن العلماء قوة تساهم في تحقيق مشروعه وهدفه العظيم وهو تحرير القدس.

والآن جاء دورهم بعد التحرير ليعيدوا بناء مجتمع المعرفة في القدس المحررة.

وبناء على مشورة العلماء، أوقف الأرض الواسعة التي بنى عليها المدرسة، ثم خصص الكثير من الأوقاف للإنفاق عليها حتى يتحقق للعلماء والطلاب الاستقلال والحياة الكريمة والتفرغ للعلم، وعين القاضي بهاء الدين بن شداد وهو من أعلى علماء عصره مكانة وأهمية مشرفاً على أوقاف المدرسة وإدارتها.

وبدراسة تصميم مباني المدرسة وفصولها يتضح أنها كانت جامعة، تم فيها ابتكار أسلوب المعايشة بين العلماء والطلاب الذين كانوا يقيمون داخل المدرسة التي تضم مكتبة ضخمة، وهو أسلوب يتيح للطلاب مصاحبة شيوخهم وأساتذتهم طبقاً لنموذج التعليم الذي تطور في الحضارة الإسلامية، وشكل أساساً لمجتمع المعرفة.

وهذا يعني أن صلاح الدين الأيوبي كان عالماً درس النظام التعليمي في الحضارة الإسلامية، ومميزات هذا النظام وطبقها في المدرسة التي أراد أن يعيد به القدس لمكانتها كمجتمع للمعرفة.

ومن الواضح أن هذه المدرسة قد احتلت مكانة مهمة حيث حرص الخلفاء العثمانيون على المحافظة عليها، وتعميرها بشكل مستمر، وإصلاح ما تعرضت له بفعل عوامل المناخ، وهذا يشير إلى إدراكهم للمعاني والدلالات التي تحملها هذه المدرسة كرمز لتحرير القدس ووحدة الأمة الإسلامية.

لكن إبراهيم باشا بن محمد علي كان عسكرياً يفتقد العلم؛ لذلك لم يفهم أهمية المدرسة ودورها الحضاري، فكان من أسوأ الأعمال التي قام بها في حياته هدم مبنى هذه المدرسة عام 1830م.

فهل كانت نهاية تلك المدرسة بداية لمرحلة جديدة من ضعف الأمة الإسلامية، وضياع القدس مرة أخرى؟!

وهل يمكن أن نفهم درس التاريخ، وندرك أن المعرفة هي أساس قوتنا، وأن دورنا الحضاري هو أن ننقل رسالة الله الخاتمة للبشرية، وأن نحرر فلسطين لتصبح مجتمع المعرفة الذي تنطلق منه أضواء الإسلام مرة أخرى لتضيء ليل البشرية الطويل؟!

Exit mobile version