20 عاماً على “العدالة والتنمية” التركي.. الإنجازات والتحديات المستقبلية

مرت، في 14 أغسطس الماضي، الذكرى العشرون لتأسيس حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا، عقدان كاملان جلس فيهما الحزب على عرش السياسة التركية، بعد أن فاز بأول انتخابات يخوضها بعد التأسيس وبكل انتخابات أجريت بعدها حتى يومنا هذا؛ ما صنع منه رقماً صعباً في السياسة التركية.

يعد حزب العدالة والتنمية التركي الأطول حكماً في تاريخ الجمهورية التركية، فقد خرج من عباءة تيار الإسلام السياسي التركي ممثلاً بحركة «ميللي غوروش» أو الرأي الوطني التي كان يتزعمها رئيس الوزراء الأسبق «نجم الدين أربكان»، ثم اختط لنفسه مساراً مختلفاً بعد أن «خلع قميص» الرأي الوطني، كما قال «أردوغان» وقيادات الحزب حينها.

رفع العدالة والتنمية شعار «حزب لكل تركيا»، وغيّر في فكره وخطابه وسياساته، ليفتح صفحة جديدة في الحياة السياسية لبلاده، وليضيف لها صفحات عديدة لاحقاً.

اليوم، بعد عقدين من تأسيسه، ثمة حاجة لوقفة تقييم لأهم منجزات الحزب وكذلك أهم التحديات التي تواجهه حالياً وتمثل أمامه مستقبلاً.

أتى العدالة والتنمية في فترة انسداد سياسي وأزمات اقتصادية، بل وإفلاس في تركيا؛ ما دفع بالشعب للكفر بالنخبة السياسية القائمة والبحث عن بديل لها، وكان هو هذا البديل، وقد أحدث في الحياة السياسية التركية الكثير من المتغيرات، ولنفسه الكثير من الإنجازات، التي قد لا تتسع لها مساحة المقال، لكن يمكن سرد أهمها.

ففي المقام الأول، كان إنجاز العدالة والتنمية الأكبر والأهم هو تحقيق الاستقرار في البلاد، فقد شهدت الحقبة التي سبقت تأسيسه وحكمَه انهيارَ عدة ائتلافات حكومية، ما ساهم في تفاقم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وأوصل البلاد إلى درجة الإفلاس والاستدانة من الخارج، ولا سيما صندوق النقد الدولي، بينما دفع فوز العدالة والتنمية في أول انتخابات تشريعية يخوضها بأغلبية مقاعد البرلمان إلى تشكيل حكومة متجانسة ومستقرة؛ ما ساهم في تحقيق استقرار سياسي لم تعرفه تركيا منذ عقود، وهو الأمر الذي استمر حتى يومنا هذا مع حكومات الحزب المتعاقبة.

ذاتياً، كان الإنجاز أو التميز الأكبر للحزب هو استمراره في حكم تركيا لـ19 عاماً متصلة، وهو ما لم يستطع فعله أي حزب آخر قبله، فقد خرج الحزب منتصراً وأوَّلاً بين الأحزاب الأخرى في كل انتخابات خاضها؛ رئاسية كانت أم برلمانية أم بلدية أم استفتاءً شعبياً، ورغم أن الحزب يعاني من تراجع نسبي في السنوات الأخيرة، فإنه ما زال الحزب الأول على مستوى البلاد والأكثر شعبية بدون منافس حقيقي على صعيد أحزاب المعارضة منفردة، وإن كانت منظومة التحالفات ترفع من رصيد المعارضة أكثر من الأحزاب منفردة.

الإنجاز الثالث للحزب كان القفزة الاقتصادية التي حققتها تركيا في عهده، ولا سيما في السنوات الأولى، حيث حققت المؤشرات الاقتصادية أرقاماً غير مسبوقة فيما يتعلق بالدخل القومي ومتوسط دخل الفرد ونسبة الفائدة والعجز والتضخم والبطالة وما إلى ذلك، ولتخرج البلاد من حيز الدول المستدينة وتسد قرض صندوق النقد الدولي عام 2013م، ثم تعرض أن تقرضه.

صحيح أن عجلة الاقتصاد تباطأت في السنوات التي تلت، وأن تراجعاً حصل في بعض المؤشرات الاقتصادية، وأن الاقتصاد التركي يعاني في السنوات القليلة الأخيرة لعدة أسباب، لكن كل ذلك مع أهميته لا ينفي الإنجاز الاقتصادي للحزب في حينه.

ومن الإنجازات المهمة للعدالة والتنمية تحريره العلاقات المدنية – العسكرية في البلاد من تعقيداتها السابقة، أو بالأحرى تحرير الحياة السياسية من الوصاية العسكرية، وقد تم ذلك على مدى سنوات عديدة وبخطوات متدرجة، وفي نهاية الشوط، أصبحت المؤسسة العسكرية خاضعة بالكامل للقيادة السياسية المدنية المنتخَبة، بعد أن كانت تخضعها لما تريده وتسقطها متى أرادت.

لكن، وعلى هامش تصحيح وضع العلاقات المدنية – العسكرية في البلاد، لا بد من القول: إن الجيش ليس مهمشاً ولا مكروهاً في تركيا رغم ما سبق ورغم الانقلابات العسكرية العديدة التي نفذها (عبر قيادته أو ضباط منهم)، فقد عادت المؤسسة العسكرية لتمارس أدواراً كبيرة في سياسة البلاد الخارجية مع القضايا والنزاعات العديدة التي انخرطت بها تركيا مؤخراً، بل إن رؤية المؤسسة العسكرية هي المتبعة والمعتمدة في عدد من الملفات الخارجية والداخلية، ومن ذلك ملف مكافحة العمال الكردستاني.

ومن الإنجازات كذلك فتح مجال الحريات، وكسر المحظورات الكثيرة التي كانت مفروضة في البلاد مثل الحجاب وغيره، وتحقيق حزمات متعددة من الإصلاحات القانونية والديمقراطية، وتخفيف حدة العلمانية المتشددة التي ساست البلاد لعقود طويلة، ومنها كذلك تحولات السياسة الخارجية التي نقلت تركيا من دولة هامشية إلى فاعل إقليمي مؤثر ومهم، والتفاصيل في هذا الملف مما لا يمكن إحاطته في عجالة هذا المقال.

التحديات المستقبلية

كل ما سبق لا يعني أن حزب العدالة والتنمية يحكم تركيا بلا منغصات وأخطاء وأزمات وتحديات، فكل ذلك من لوازم الحكم، ولا سيما الحكم الطويل كما في حالته، اليوم، وبعد عقدين تقريباً من الحكم المتواصل لتركيا، وفي ظل التطورات الكثيرة في الداخل والخارج، ومع تحول العدالة والتنمية لحزب حاكم في بلاد يحكمها النظام الرئاسي، يمكن رصد بعض أهم التحديات التي تواجهه.

يمثل الاقتصاد التحدي الأكبر والأهم وربما الأصعب أمام العدالة والتنمية في المستقبل، من باب أنه يمس حياة المواطن اليومية، المشكلات البنيوية في الاقتصاد متزاوجة مع تأثيرات جائحة «كورونا» وانخراط تركيا في عدد من النزاعات الإقليمية بأشكال مباشرة وغير مباشرة وغيرها من الأسباب تصعّب على الحكومة والحزب الحاكم تسجيل إنجازات في هذا المجال، الذي تركز عليه المعارضة أكثر من غيره.

ومن التحديات الكبيرة أن العدالة والتنمية تحول إلى «حزب حاكم» إلى حد كبير، بكل ما تعنيه الكلمة على صعيد الفكر والخطاب والممارسة السياسية، مبتعداً في السنوات القليلة الأخيرة عن بداياته الإصلاحية، وهو أمر ساهم في تراجع شعبيته بشكل تدريجي ونسبي في السنوات الأخيرة، بل لعله أحد أهم أسباب ذلك، ومن الملاحظ أن الحزب يواجه صعوبة أكثر لدى شريحة الشباب، التي تبحث دائماً عن الجديد ولا تكفيها الإنجازات السابقة، التي لا تحمل نفس حساسية الأجيال السابقة لوجود الحزب في الحكم من عدمه، إذ إنها لم تخبر تركيا ما قبل العدالة والتنمية.

ومن التحديات كذلك نشوء أحزاب جديدة خرجت من عباءته، وتقودها شخصيات كانت يوماً من أنجح كوادر الحزب وحكوماته، كحزب المستقبل بقيادة «أحمد داود أوغلو»، وحزب التقدم والديمقراطية برئاسة «علي باباجان»، وهي أحزاب قادرة على منافسة العدالة والتنمية ضمن الشرائح المؤيدة له (على عكس المعارضة التقليدية)، ولذلك يمكن عدُّها تحدياً غير مسبوق عليه، على المدى البعيد إن لم يكن الآن.

ويبقى الملف الكردي بالتأكيد أحد التحديات الماثلة على المدى البعيد رغم الإنجازات والمحطات التي أنجزت بخصوصه في سنوات حكم العدالة والتنمية، لكن لعل التحدي الإستراتيجي الأبرز أمام الحزب هو مستقبله ما بعد الرئيس «أردوغان»، فالأخير يجمع الآن بين رئاستَيْ الحزب والحكومة، ويديرهما بمركزية شديدة، ويملك الكاريزما مع الإنجازات والخبرة مع الثقة بالنفس، في ظل نظام رئاسي وصلاحيات واسعة، غياب «أردوغان» لأي سبب، وفي ظل افتقار الحزب لشخصية قوية وكاريزمية وجامعة، يمثل تحدياً وجودياً أمامه على المدى البعيد، ويجعل قوته ووحدته وتماسكه بعد «أردوغان» اختباراً صعباً على حزب من نوعيته ويحوي تيارات عديدة تتنافس فيما بينها.

وبناء على كل ما سبق، تصبح الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقبلة في عام 2023م -أو إن بُكِّرت عن موعدها- محطة مهمة واستثنائية في مسار الحزب، خصوصاً أنه حزب جماهيري لا أيديولوجي تلتف حوله شرائح جماهيرية عديدة طالما حافظ على بقائه وقوته وإنجازاته، كما أن نتائج المحطات الانتخابية في السنوات الأخيرة تقول أمرين متناقضين ظاهرياً متكاملين عملياً؛ وهما تراجع شعبية الحزب من جهة، وإمكانية الاستدراك من جهة أخرى، ويبدو أن منهجية تعامل الحزب مع التحديات المذكورة وغيرها مما لم تتسع له هذه السطور ونتائج هذا التعامل ستكون من العوامل المحورية في تحديد المسار المستقبلي للحزب، والمحطة الأولى ستكون بالـتأكيد نتيجته في الانتخابات المقبلة.

Exit mobile version