أسامة شفيع.. ولذة المكابدة!

يقول العباس بن الأحنف:

يا وَيْحَ هَذا الفِراقِ ما صَنَعا           بدَّدَ شَملي وَكانَ مُجتَمِعا

مَن لَم يَذُق لَوعَةَ الفِراقِ فَلَم        يُلفَ حَزينًا وَما رَأى جَزَعا

وَكلُّ شَيءٍ سِوى مُفارَقِة الــ         أحباب مُستَصْغَرٌ وَإِن فَجَعا

كأنّ شاعرنا الغَزِل الأسيف يبكي الفتى الذي يملك روح شاب ويستقبل الحياة ورحل بعد الأربعين، وكان مشروع مفكر كبير، وباحث أصيل، وأديب موهوب، ومترجم عظيم، ما تركه يدل دلالة واضحة على خسارة الساحة الأدبية والفكرية لقلم يملك تصور الإسلام الناضج، ورؤية الموهوب الواعي، وأصالة الثقافة الموسوعية..

فتانا الذي خلف حزناً عميقاً لدى من عرفوه، وطالعوا كتاباته وترجماته، كان متعدد المواهب، منفتحا على العالم، يتحرك بروح الحب الصافية، ويغدق على من حوله المودة والبهجة، مع معاناته الصحية التي أرهقته طويلا، وعذبت محبيه أسى من أجله، وحزنا على شبابه الذي يذوي ويجف وينكمش!

الابن والأب

إنه أسامة ابن العالم الكبير شفيع السيد الذي درّس لي في دار العلوم، وسلّمني (خمسة جنيهات) خصصها القسم العلمي قبل أكثر من نصف قرن مكافأة على تفوقي في مادة النقد الأدبي، فكانت أغلى الجوائز، وأكثرها تأثيرا في نفسي في زمن العلم الجاد الذي سارت فيه دار العلوم، وعاشه أسامه كما عاشه والده قبله بأربعين عاما من جلوسه في المقعد ذاته، واستمع إلى المحاضرة الأولى من الدكتور على الجندي في أول يوم له طالبا بدار العلوم. أملى الشيخ الجليل عشرة أبيات من معلقة امرئ القيس، ومطلعها:

قفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزل      بِسِقْطِ اللّوى بين الدَّخول فحَومَلِ

يصف أسامة طريقة الإملاء، فيقول: “كان ينبذ الأبيات حرفًا حرفًا، كشيخ الكُتّاب حين يعلّم الصبية مبادئ الهجاء، وربما استوقفتْه الكلمة يرى أن أكثرنا لا يُحسن كتابتها، فإذا هو يملي هجاءها حتى يوشك بعضنا أن يكتبها مُقطَّعةً على نحو ما سمعها. وما أشك في أن طائفةً منا كانوا يرمقون المنصّة التي علاها الشيخ، ينتظرون ظهور «مارد» على أثر من تلاوة هذه التمائم «سقط .. اللوى .. الدخول .. حومل .. فتوضح .. المقراة».

لذة العلم

ويضيف أسامة: “بدت كلمات القصيدة غريبة موحشة، قد أنكرتها نفوس أكثرنا بعد أن ترك التعليمُ المدرسي أثره فيها، فأورثها وهَنًا في قوى أصحابها وملكاتهم الذهنية والنفسية، حتى ألفوا السهل القريب الذي لا يُكد ذهنًا، ولا يشغل عقلًا، ولا يقتضي من قارئه فكرًا ولا بحثًا، ولا شيئًا من هذا الجهد الذي لا تُعرف لذة العلم إلا به. نعم، فلذة العلم ها هنا.. في هذا العناء الذي يصادف المتعلمين قبل بلوغ الغاية، ثم بعد بلوغها، ولقد أصاب أبو تمام حين قال:

بصُرتَ بالراحة الكبرى فلم ترها      تُنال إلا على جسر من التعبِ

فلذّة العلم في هذه المكابدة، ولما غابت هذه المكابدة عن كثير من الناس، عزبت كذلك عن نفوسهم لذتُه”.

قصة طريفة

ويبدو أن نشأته الجادة في طلب العلم جعلته يلح على فكرة لذة المكابدة، ويرى أن التبسيط والتيسير والتسهيل سبب انهيار التعليم، ويروي قصة طريفة فحواها أن أحد الشيوخ ذهب ليزور ولده في القاهرة، وكان يدرس في الأزهر الشريف، فلما رآه فزع لما رأى، فقد كان ابنه هزيلا:

سأل الشيخ ولده عما ألمَّ به، فقال: مرَّت بي ثلاثٌ لم أَطعم ولم أنم، قال: ولمَ؟ قال: مسألة من العلم لا أعرف لها جوابا، قال الوالد: وما هي؟ قال: رام بعض الفقهاء شرح قوله- صلى الله عليه وسلم: «من صام رمضان ثم أتبعه ستًا من شوال..» الحديث، فقال: «من شوال إلى شعبان في العام التالي»، فلم أفهم كيف يكون ذلك؟، فتبسم الوالد الشفيق، وقال لولده: كُل وسيأتيك الجواب، قال: كلا، لا أطعم أو أعرفَ الجواب، قال: يا بني: «مِن» في الحديث لابتداء الغاية؛ فالمعنى على وَفْق ما يراه هذا الفقيه: ستة أيام تبتدئ من شوال، ثم لا عليك إن أنت فرقت ما بقي منها في سائر العام، أو جعلته كله في شوال”.

ويعلق أسامة على القصة:

“هذه المكابدة التي عانها ذلك الطالب النابه هي التي تُجرِّعه لذة العلم حين يعرف الجواب، لذةٌ تعدل في عالم العقل لذة الفِراش للمتعب، أو الطعام للجائع في عالم الحس، وقد قالت العرب: «طعام الجائع هنيء، وفراش المتعب وطيء». والأمر بخلاف ذلك في العصر الحديث، فقد غدا «التبسيط» الذي يراد به «التيسير» آفةً في باب المعارف، وهو موصول السبب بسائر الأفكار والمذاهب التي ملأت عقول المحدثين ونفوسهم، في السياسة، والاقتصاد، وفي شئون الاجتماع على اختلافها.

من هو أسامة؟

ولد في أول نوفمبر سنة ١٩٧٥م، ونشأ في بيت علم، فوالده الأستاذ الدكتور محمد شفيع السيد أستاذ البلاغة والنقد الأدبي والأدب المقارن بكلية دار العلوم، وعضو مجمع اللغة العربية بالقاهرة.

التحق أسامة بكلية دار العلوم سنة ١٩٩٣م، وتخرج فيها سنة ١٩٩٧م وكان الأول على دفعته. وعين معيدا بقسم الشريعة الإسلامية بالكلية سنة ١٩٩٨م، وحصل على الماجستير عام ٢٠٠٣م بتقدير ممتاز عن رسالته (الفكر الفقهي عند محيي الدين بن عربي) بإشراف الدكتور محمد بلتاجي حسن- رحمه الله، وعين مدرسا مساعدا بقسم الشريعة سنة ٢٠٠٤م، ثم سافر إلى فرنسا عام ٢٠٠٧م في بعثة للحصول على الدكتوراه من كلية الحقوق جامعة روان نورماندي، وحصل على الدكتوراه في القانون سنة ٢٠١٥م بتقدير ممتاز عن رسالته (امتناع المسئولية الجنائية في الفقه الإسلامي- دراسة مقارنة) بإشراف البروفيسور بيير ألبرتيني، وبعدها عاد إلى مصر وعُين مدرسًا بقسم الشريعة في الكلية، وجمع- مع إتقانه العربية- الإنجليزية والفرنسية. وعين خبيرا بلجنة الترجمة بمجمع اللغة العربية بالقاهرة منذ تأسيسها.

مترجماته، منها:

مؤلفاته:

بالإضافة إلى العديد من المقالات التي نشرها على موقع إضاءات وموقع الأستاذ الدكتور محمد حماسة، وعلى صفحته الشخصية بالفيس بوك.

– وقد كان رحمه الله متعدد المواهب حسن الصوت، حسن الخطابة، حسن إلقاء الشعر، حسن التمثيل، شاعرا، ناثرا، داعيا إلى الله .

– توفي رحمه الله في ٢٥ رمضان ١٤٤٢ هـ =  ٧ مايو ٢٠٢١م متأثرا بإصابته بفيروس كورونا عن ستة وأربعين عاما. 

شيخ الأزهر

 لم تهتم بوفاته وسائل الدعاية، ولكن شيخ الأزهر الأستاذ الدكتور أحمد الطيب نعاه في سابقة لم تكن متوقعة بالنسبة لمثله، فالفقيد لم يكن تابعا لجامعة الأزهر، أو من ذوي النفوذ في الحياة العامة، وقال الطيب: 

«بقلوب صابرة محتسبة أنعي العالم البحاثة الدكتور أسامة شفيع السيد، فقيد شباب العلماء، المدرس بقسم الشريعة الإسلامية بكلية دار العلوم جامعة القاهرة، الذي وافته المنية اليوم».

وأضاف الطيب: «وقد عرفتُه من خلال ترجماته العبقرية لمجموعةٍ من الأعمال الفكرية الغربية القيمة، والتي يعزّ أن يكتب مثلها في مجال الترجمات المعاصرة للفلسفة الإسلامية والتصوف الإسلامي».

وتابع: «أسأل الله- سبحانه وتعالى- أن يتغمده بواسع فضله ورحمته، وأن يُلهم أهله وذويه وزملاءه ويلهمنا معهم جميل الصبر والاحتساب، وأن يأجرهم ويأجرنا في هذه المصيبة ويخلفنا خيرًا منها، إنا لله وإنا إليه راجعون».

تميّز فكري أدبي

كانت للراحل الكريم نظرات صائبة وعميقة في عديد من القضايا الفكرية والأدبية المعاصرة التي تهم عموم المسلمين والمثقفين والأدباء بوجه خاص..

من ذلك مثلا قضية الخصوصية التي تبدو اتهاما يسلب الحضارة الإسلامية ثمارها، فيدافع عنها بإثباتها شارحا إيجابياتها ويبدأ حديثه عنها بمقولة الإمام الشافعي في «الرسالة»:

«لَيْسَتْ تَنْزِلُ بَأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ دِينِ اللهِ نَازِلَةٌ إِلا وَفِي كِتَابِ الله الدَّلِيلُ عَلَى سَبِيلِ الهُدَى فِيهَا». ثم يضيف:

«يصف الغربيون حضارة الإسلام بأنها حضارة “نصية” (textual civilization)، والأمةَ الإسلامية بأنها أمة “نصية” (textual community)، ويريدون بذلك أنها تدور في فلك “نص” خَلَعَتْ عليه من التقديس والتعظيم ما حملها على أن ترى فيه “معيارًا” تُعرض عليه الأفكار والأعمال، فيُقبلُ منها ما وافقه ويُردُّ ما خالفه.

والحق أن هذا الوصف في مجمله صحيح، بقطع النظر عن غرض الواصف. وفي هذا الصدد يقرر القرآن الكريم حقيقتين تخصانه وتوجبان أن يكون “قطبًا” يدور في فلكه كلُّ مؤمن به، وهما العصمة، والحَقِّيَّة المحضة».

ثم يتحدث عن القرآن أو النصُّ المعصوم، ودائرة السنة التي تحيط به، ويورد الآيات التي تؤكد ذلك، مثل قوله تعالى: «إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإنَّا لَهُ لحَافِظُونَ» (الحِجر: ٩). ويسترسل في الحديث عن إلهية المصدر والحفظ والصيانة، وما يعضد ذلك من وصف الكتاب بالعزة وبعده عن الباطل، وهو ما يكفل له ضربًا من «العصمة» في المبدأ والبقاء جميعًا؛ على العكس مما صنعه أهل الكتاب بكتبهم السماوية من تحريف وتبديل،…..إلخ

إعجاز الإعجاز

وله صياغة متميزة حول إعجاز القرآن الكريم حين يقول: لا يقع التفطن لإعجاز القرآن جُملةً، وإنما يتحصَّل شيئًا بعد شيء، فالقرآن منجَّمٌ في نزوله، منجَّم في سفوره. وليس المدرَك من وجوه الإعجاز طَبَقًا واحدًا، بل منه ما تدل عليه العبارة، وهو أدناه، ومنه ما يَنِدُّ عن العبارة إلى الإشارة، وهو أوسطه، ومنه ما يخرج عن طوق العبارة والإشارة ليكون ذوقًا محضًا، تجده في نفسك ضرورةً، ولا تستطع أن تُعدِّيَه إلى غيرك، وهذا يصح أن يسمى “إعجاز الإعجاز”، وهو أعلى المراتب لاتصاله بالحيرة التي هي منتهى العلم بالله، ولأنه يقع في النفس موقع الضروري الذي لا يُردُّ ولا يُستدل عليه، ولعل هذا النوع هو الذي عناه السكاكي بقوله: “شأن الإعجاز عجيب، يُدرَك ولا يمكن وصفه!”

الحضارة الغربية

بحكم أن أسامة عاش في الغرب وخبره عن قرب، وقرأ أفكار الغربيين وترجمها، فقد رأي أن الحضارة الغربية الحديثة تبدو على صفحة التاريخ بينة الشذوذ، فهي تنفرد دون كل الحضارات التي عرفناها، بأنها تسلك في تقدمها مسلكا ماديًّا محضًا شائها، لا يعرف معنى الحكمة المحضة، ولذا فهي حضارة لا تعرف غيبًا، ولا تؤمن بغيب، فليس لأصحابها إلا ما يرون ويسمعون.  

زفرة مستوحش

ويمتلك أسامة قدرة على فهم النصوص الأدبية وتفسيرها، بحكم وعيه باللغة والتراث، ومحفوظاته الكثيرة، ويتجلى ذلك في شرحه لقصيدة سبعون” للأستاذ الدكتور سعد مصلوح بمناسبة بلوغه سن السبعين، فهي زفرة مستوحش تعبيرا عن الاستيحاش الذي يتتبع خيوطه في القصيدة، ومن آياته كما يقول، أنه لم يخاطب بها الناس، وإنما خاطب بها نفسه:

سبعون مرّت جهاما يذرعن أفقكَ ركضا

قد خالطتكَ صحاح من القلوب ومرضى

وساورتكَ ضئال نهسا ونهشا وعضَّا

ما إن تخر عثارا حتى تحاول نهضا

ومنها أنه- أي الشاعر- حين أجمل في وصف سني عمره لم يذكر إلا أنها مرت «جهاما»، مع أنه لما فصّل ذكرَ صنوفا من الخير والشر، والنفع والضر، فلم تكن الحياة مقفرة مجدبة بإطلاق، غير أن الأديب لا يحسن إلا إذا تألم، ولا يبلغ تمام الإحسان إلا إذا ضاعفت نفسُه هذه الآلام، …  

لاريب أن أسامة الذي آثر الطريق الصعب في التحصيل والفهم والبحث والدرس، كان يجد لذة كبيرة وهو يكابد في مجالات الدراسة الحضارية واللغة العربية، وكان يبشر بباحث متميز يؤثر في الحياة العامة، بأسلوبه الأدبي الراقي، ووعيه العميق بالصياغة الرائقة، ولكن معاناة الآلام ذهبت به قبل أن يستشعر لذة المكابدة العلمية. رحمه الله، وألهم آله وذويه ومحبيه صبراً جميلاً!

Exit mobile version