“بودي جارد” ليس أبرزها.. عصر الفن من طرف واحد!  (2 ـ 2) 

   على أن الإشكالية الأبرز التي طرحتها وجددتها مسرحية مثل “بودي جارد” على عقول وأفهام ومشاعر بل أرواح محبين لنهضة هذه الأمة وتقدمها تتجاوز شكلها ومضمونها المتواضعين فنيًا وخلقيًا إلى أن المسرحية ليست بدعًا من الأمر بل سبقتها أعمالًا أخرى أكثر رواجًا وانتشارًا في عهدها لنفس ممثلها الأول والأكبر سنًا والأكثر انتشارًا وللعشرات غيره من قبله ومن بعده هنا وهناك؛ لكن إجمالًا إن لم تكن تلك المسرحيات بمستوى أفضل كثيرًا من المسرحية الأخيرة.. فلماذا ذاعت وانتشرت هذه المسرحيات؛ وبالتالي لماذا ذاعت وانتشرت مئات بل آلاف الأفلام والمسلسلات فيما إن راح منصف مدقق يراجع مستواها الفني لأصابه الذهول مما يشاهد ويهتم به الألوف من أفراد أمتنا على الأقل؟ حتى أن صديقًا اشتكى لي أن “سيناريست شاب” اعتاد الالتقاء به كل مساء ورواية قصص أفلام يتعاقد عليها حديثًا؛ فلما يسمع صديقي منه ملخصها يُصاب بالذهول من عدم منطقية السرد، حتى أنه رأى بعضها يكاد يكون خرافة تماثل “أن الديناصورات تشاركنا الهواتف المتحركة والسيارات في المدن الآن”؛ أما الأعجب لدى صديقي فهو “أن هذه الأعمال الدرامية ـ التي استمع إليها قصصًا ـ لاقت رواجًا وانتشارًا جماهيرًا لما تم عرضها مسلسلات وأفلامًا بعد حين”؛ وبالتحديد فبعد “بودي جارد” ثارت أسئلة في عقل الصديق وغيره من راغبي الإصلاح: هل ما نحب أو “كنا نحب” من أفلام ومسلسلات وأغانٍ له ارتباط حقيقي بمعنى أو هدف أو قيمة فنية شكلًا أو مضمونًا، وبالتالي هل كان حبنا لها من جانب وجداني عاطفي واحد يمثل ذكرياتنا مع هذه الأعمال ـ أي دون أن تبادلنا المحبة التي تمثلها أدنى فائدة ـ، وبالتالي هل ما تبثه عشرات المحطات الفضائية خلال شهر رمضان المبارك له علاقة أصلًا بشهر الصوم أو حتى  للفن بمعناه الدقيق، فلماذا إذن تشاهده الملايين؛ هل هو التغييب كما يحلو للبعض القول؛ أم انعدام البديل، أم مزيج من هذا وذاك؟                                                                              

    يرجح البعض ـ ومنهم كاتب الكلمات ـ أن ما لا قيمة له من أعمال فنية مختلفة “التصقت بالأذهان لدى آلاف على الأقل” كان ذلك للسببين الماضيين نصيب منه، بالإضافة إلى ارتباط هذه الأعمال على تنوعها بذكريات خاصة بمشاهديها من اجتماع شمل الأسرة ـ حتى إن غاب عقل كبارها وانشغالهم أثناء الجلوس أمام الشاشة الصغيرة أو الكبيرة بأمور أخرى ـ؛ وبالتالي فإن أجيالًا ما يزال وعيها يتشكل تنصهر وتتابع أعمالًا أخرى لا لقيمتها الفنية وإنما حبًا في لحظات ذكريات تتشكل أثناء إذاعة هذه الأعمال وهي تخصهم وإن لم تشاركهم الأسرة فيها بمنطق اختلاف الاجيال الحالي، مع محبة أنظمة بعينها شغل قطاع عريض من جماهيرها عن تردي واقعها المعاش بهذه الأعمال الدرامية أو الفنية؛ ويحضر هنا بقوة قول خاص أسر به الأكاديمي فتحي الخميسي، الناقد الموسيقي وأستاذ علوم الموسيقى في أكاديمية الفنون، مفاده أن الأغاني العربية العامية تحديدًا ومنها المصرية المشهورة والمعروفة أفرزت بوجه عام “أجود موسيقى” و”أردأ وأسوأ كلمات”؛ وإلا فإن على أي مستمع يحب مثل هذه الأغاني أيًا ما كانت أن يُسمعَ نفسه كلماته ليتأكد من أنها لا تمثل معنى أو قيمة في نفسها ـ بحسب رأيه ـ؛ ومع احترامنا للذين يتحسبون ويرون في الموسيقى إلهاء يتجاوز ويبتعد عن صميم جدية المسلم والمؤمن المطلوبين .. فإن مقولة الخميسي تتوافق تمامًا مع رؤية الكثيرين لانعدام القيمة الفنية ـ أيضًا ـ لكثير من الأعمال الدرامية التي نشأ الكثيرون عليها. بما يشرك الأغاني مع الأعمال الدرامية في محبة الجماهير لهما من طرف واحد مع تعدد أسباب تلك المحبة وبقاء الأخيرة مشينة قبيحة دون فائدة للأسف!                                                                                                                    

   أما الحل فقدمه الراحل الكاتب علي سالم دون أن يدري لما قال: “إذا كانت مسرحية المشاغبين أفسدت أجيالًا من التلاميذ والطلبة فأنتجوا (أنتم أيها المعترضون عليها) عشرة مسرحيات لبناء أضاعف الذين أفسدناهم”؛ ومع إقرارنا السابق بأن الهدم أكثر نفاذًا وسرعة من البناء إلا أن هذا لا ينفي بحال من الأحوال تقصير المصلحين الشديد مع أنفسهم أولًا إذ لا يرى البعض منهم ـ وهو ليس قليلًا إذا شئنا الدقة ـ أنه لا فائدة ولا مكانة وبالتالي فلا دور ولا اعتبار أو أهمية للفن في الحياة؛ وذلك اعتمادًا على الصورة النمطية الشائعة من استحواذ بعض قليلي الضمير وتجار المشاعر على المشهد الفني وبالتالي ترديه وقصوره في إصلاح وتقويم اعوجاج لحق بنفوس وضمائر وأرواح مئات الألوف من أمتنا؛ ولهؤلاء الذين لا يرى هؤلاء أهمية للفنون؛ ولهم نهدي مقولة الراحل المفكر الأكاديمي عبد الوهاب المسيري بأن نبي الله آدم ـ عليه السلام ـ  في عُرفِ المفكرين والفلاسفة معًا لما خرج باحثًا عما يسد جوعه ـ أي العلم بكيفية إعداد الرغيف ـ راعه ظله فصبر حتى يتفهم أمره ـ أي أن جانب الفن شغله عن الجوع حتى حين ـ وبمعرفة الطريق إلى رغيف الخبز ومصاحبة ومصادقة الظل عرف سيدنا آدم العلم والفن معًا!                                                                                 

   أما الجانب العملي من إيمان المصلحين بدور الفن فيقتضي منهم اليوم تكريس جزء من أموالهم ومجهوداتهم لإنماء منظومة من المؤلفين والممثلين والمخرجين وغيره  من جوانب العملية الفنية الناجحة، ورحم الله الإمام الراحل حسن البناء إذ يذكر الأديب الراحل عبد الحميد جودة السحار ـ يرحمه الله ـ في كتابه “ذكريات ومذكرات” أنه لما كتب مسرحية “بلال” ومثلتها فرقة الإخوان المسلمين استدعاه البنا وحرص على عدم وجود غيرهما في مقر الجماعة الأول بحي التوفيقية في قلب القاهرة ثم طلب منه كتابة عدد أكبر من المسرحيات خصيصاً للجماعة لرغبته في إيجاد حالة نهضة فنية يكون السحار ركيزتها في التأليف.                                  

   إننا ننتظر نهضة إصلاحية في إنتاج الفنون المختلفة بما يتوافق مع الشرع الحنيف ويقر الفنون الأصيلة بأنواعها في أذهان الناشئين والأصغر والأكبر سنًا؛ وهو العمل الذي نراه لا يقل أهمية عن غيره مما يشغل المصلحين اليوم حتى لا تنشغل أجيال أخرى بتوافه الفنون والأغاني أو محبتها لكن من جانب واحد، وحتى لو جاءت خطوات الإصلاح تدريجية فأن نشعل شمعة في الظلام دائمًا أفضل من أن نظل مشغولين به نعاني من تبعاته.                                                                                                             

Exit mobile version