دفاعاً عن القيمة لا عن “الدعاة الجدد”

تجددتْ منذ فترة بسيطة موجة جديدة من موجات السخرية العارمة من أحد الذين تعارف على تسميتهم في مصر بـ”الدعاة الجدد”؛ وهو شاب خريج إحدى الجامعات الغربية في القاهرة وله رصيد دعوي منه توجهه للغرب سواء بالدعوة لأفراده أو غير ذلك لرد شبهات عن ديننا الحنيف؛ وإن كنا لا نحب مجرد البوح باسمه فإنما لأن الأمر تجاوز اسمه إلى ما يشبه “المهرجان الجماعي للانتقاد” كلما تجددت زيجة له؛ ولعل مما يزيد من الأمر انتقاءه لزوجاته من المشهورات اللواتي يحرص الناس على تتبع أخبارهن، ومع التسليم بوجوب الحفاظ على مسافة من حياة “الآخرين” الخاصة، إلا أن هذه القاعدة يكسرها تعرض الشاب بالدعوة إلى الله والظهور على الفضائيات في برامج دينية باللغة العربية قبل غيرها وبسطاء الناس -قبل غيرهم- يحبون أن يجدوا في سيرة حياة أمثال الداعية الشاب مصداقًا لكلماته، ومن ناحية أخرى، فإن تعدد حالات زواجه ثم طلاقه بعد أشهر أو سنوات قليلة لمشهورات وضع الشاب في منطقة “صعبة” للأسف من انتقاد عارم جارف من جانب الشباب خاصة الذي لا يجد طريقًا أو سبيلًا أو مالًا كافيًا للزواج لمرة أولى ووحيدة طوال الحياة؛ فما بالهم يرون داعية يحثهم ويشجعهم على طاعة تعاليم الدين يتزوج كل حين ويطلق؟

كما ساهم في الأمر إلى حد كبير انتشار وسائل التواصل الاجتماعي وتسرب صور طرف من حفلات زيجات الداعية وفيها ما يتنافى –أحيانًا- مع روح كلماته؛ وإن كان الشاب حرص في حفل زفافه الأخير على أن تكون الصور محدودة وذات تفاصيل لا تتعارض كثيرًا مع كلماته، إلا أنه يبقى أنها الزيجة الرابعة له، وهذا في حد ذاته يكفي البعض غير القليل للانطلاق في هجوم عارم عليه رغم أنه ما من مطلقة من ثلاث للشاب أثارت مشكلة أو اعترضت أو حتى أبدت تعقيبًا على زواجه بغيرها!

لكننا إن شئنا الدقة فيجب أن ننتبه إلى أن ظاهرة الداعية الشاب الأخيرة صارت مكررة -بتفاصيل أخرى- مع أفراد آخرين ينتمون تحت مظلة نفس الاسم “الدعاة الجدد”، فلدينا أشهرهم الذي تورط عقب الأحداث المأساوية التي لفت مصر بعد يوليو 2013م، وقد تنكر تمامًا للفصيل الذي كان ينتمي إليه وساهم وأفراده في شهرته التي جابت الآفاق دون مبالغة؛ ثم إن الرجل تماهى مع النظام المصري الجديد وقهره لمعارضيه حتى ليخرج في تسريب للقاء مع بعض رجاله العسكريين حاثًا إياهم على إطاعة الأوامر ثم معلنًا في رأي تفرد به أنه ليست إطاعة الأوامر هي وحدها المطلوبة منهم، بل مجرد أدائهم التحية العسكرية للقائد الأعلى رتبة منهم تعتبر من طاعة الله؛ ثم فوجئ الجميع بالداعية في إعلان متلفز يعلن عن نوع من الدجاج يتربى في مزارع الجيش المصري مما قاده لمتاهة جديدة من السخرية جعلته يعتذر عن الإعلان ويحاول الظهور في فريضة الحج متألقًا وداعيًا لمتابعيه على صفحته على موقع “فيسبوك”، ثم مستنكرًا أن يؤدي أحد الحجاج المصريين الذين طلبوا منه أن يلتقطوا صورة تذكارية معه مع قيام الأخير برفع أصابع يده بعلامة “رابعة” في إشارة للمذبحة الأشهر التي استشهد فيها المئات من معارضي النظام المصري الحالي، وكل هذه الأحداث دفعت بالداعية الذي كان ملء السمع والبصر إلى التواري بعيدًا عن الأضواء والإحساس بالانزواء، فضلًا عن أن الظاهرة كلها شهدت تراجعًا كبيرًا ساهم فيه الداعية الآخر كثير الزواج ثم سكوت الآخرين وصمتهم التام عن المذابح في أرض الكنانة بعد يوليو 2013م في رغبة فهمتها الجماهير العريضة على أنها للحفاظ على النفس وتفضيلًا وإيثارًا لسلامة الذات.

يبدو لنا أن الأزمة ليست أزمة رجل أو شاب من المسمين بـ”الدعاة الجدد”، بل إن الأزمة في عمقها وضراوتها تعود للظاهرة نفسها التي نشأت مع ازدهار الفضائيات في وطننا العربي ورغبة النظام المصري –وقتها- في تقديم صورة مغايرة لديننا الحنيف عبر الداعية الذي لا يرتدي الملابس الأزهرية أو الجلباب المتعارف عليه، بل يصر على الدوام على ارتداء البذلة ورابطة العنق، وإذا تخفف منهما ارتدى البنطال والقميص بصورة دائمة؛ مع الابتعاد عن الجلباب وما شابه من صورة ملابس الدعاة في الخليج العربي؛ وهؤلاء الدعاة الذين تلقفتهم الجماهير المسلمة المتعطشة للمزيد من التعرف على تفاصيل أدق ومعلومات أشمل عن دينهم بعد غياب قامات مصرية دينية قرب نهاية التسعينيات كانت تسد ثغرة بالغة في التعريف بالإسلام والرد على افتراءات خصومه من مثل الشيخين محمد متولي الشعراوي، ومحمد الغزالي؛ لكن الدعاة المعروفين بالجدد غاب عنهم عمليًا العلم الديني اللازم للظهور على الناس من مثل: تمام حفظ آيات القرآن الكريم والإلمام بالسُّنة الشريفة المطهرة والآراء الفقهية وما شابه؛ بل شاب حلقاتهم ما هو معروف من حلقات الفضائيات من الاكتفاء بإعداد كل حلقة قبلها بفترة زمنية قريبة مما أوقع بأفراد الظاهرة في إشكالية غياب العلم الديني الدقيق في تصرفاتهم وتحركاتهم بين الناس، بل إن أبرزهم كانت تكتب له الآيات على شاشة خاصة أمامه أثناء تصوير حلقاته الأبرز أمام الحرم المكي الشريف في رمضان الموافق لعام 2005م.                                                     

كان يفترض ألا ينساق مزودو الفضائيات خلف النظام بتقديم نواة وأشخاص من المفترض أن يصبحوا مشاهير جريًا خلف رغبة في إيجاد فئة تنتسب لديننا العظيم قبل أن تكون مؤهلة لذلك؛ وفي المقابل، فإن هؤلاء قاموا بدور خلال سنوات به بعض الإيجابيات داخل وطننا العربي والإسلامي وخارجه لا يجب الاستهانة به كله أو الإقرار بجواز الاستهتار به -رغم وجود ملاحظات ومواقف لبعضهم تستعصي على الفهم- إلا أن حملات الاستهزاء العاتية بالذي يجرؤ على رفع رأسه منهم والتعامل الجماهيري يجب الانتباه إلى أنها لا تصب إلا في مصلحة نظام يريد من شعبه أن يتحزب ويزداد انقسامه لتسهل سيطرته عليه أكثر، ثم للأسف لأعداء ديننا؛ فإن كان أغلب أفراد ظاهرة “الدعاة الجدد” دخلوا حياتنا في عجالة فلا ينبغي بعد أعوام طويلة من وجودهم فيها وعدم قدرتنا على استيعاب هذا الوجود، لا ينبغي أن نتعرض إليهم بطوفان السخرية والاستهزاء، بل يبقى أنه يجب أن نؤقلم أنفسنا على احترام القيمة إن لم نستطع أن نغفر للأفراد!

Exit mobile version