التّحول الثقافي وآثاره المجتمعيّة

تعد ثقافة المجتمع منتجاً اجتماعيّاً، وتتشكل من مركّب يضم عناصر: الدين واللغة والقيم والأعراف والتقاليد والفن والأدب بالإضافة إلى أنماط المعيشة التي تسود في المجتمع، والثقافات وإن كانت تظهر وكأنّها ثابتة؛ إلا أنّها عرضة للنّمو وللتغيّر، وهذا التغيّر غالباً ما يكون بطيئاً؛ إلا أنّه ينتج تحولاً ثقافيّاً على الفترات الزمنية البعيدة.

والثقافة كالكائن الحيّ؛ فقد تكون في وضع قوي أو ضعيف، إيجابيّة أو سلبية، مؤثّرة أو متأثّرة، وكلمّا ضعفت عناصر الثقافة كانت أكثر عرضة للتحوّل.

ويتعرّض المجتمع لظروف مستجدة ولتغييرات بيئيّة، لعلّ أبرزها التطور العلمي الهائل خصوصاً في مجالي الاتصالات والإعلام، التي جعلت ثقافتنا في احتكاك مستمر مع ثقافات أخرى؛ ما يقتضي تحولاً ثقافيّاً ملحوظاً، وكان هذا التحول يلحظ في السابق ببطء شديد؛ إلا أنّه غدا اليوم تحولاً سريعاً متنامياً.

أثّر على العمليات الاجتماعية المختلفة كالتنشئة والضبط والصراع والتفاعل والمنافسة والتبادل والانتشار والحراك

وبعيداً عن الحكم على آثار هذا التّحول، وهل أفضى إلى ثقافة أفضل أو أسوأ، فليس أمام المجتمع إلا أن يتعامل مع التحوّل، الذي أصبح أثره حتميّاً على الظواهر الاجتماعية المختلفة، وإنّ هشاشة أداء الجهات الرسمية في القيام بواجبها تجاه التحول الثقافي، يرتب دوراً أساسيّاً على الدعاة والمربين والمصلحين والمفكرين وسائر النخب المجتمعيّة.

وفي الوقت الذي تبرز الثقافة الغربية كقائد لهذا التحول الثقافي؛ فإننا سنكون مستقبلاً أمام فواعل أخرى مثل الثقافة اليابانية والكورية وعلى نحو أقل الصينيّة، ما سيجعل شكل التحول الثقافي في منتهى التعقيد.

ولقد أثّر التحول الثقافي على العمليات الاجتماعية المختلفة: كالتنشئة، والضبط، والصراع، والتفاعل، والمنافسة، والتبادل، والانتشار، والحراك. ولعلّ التنشئة الاجتماعيّة والحراك الاجتماعيّ كان لهما النصيب الأكبر من هذا الأثر؛ إذ تعنى التنشئة بنقل الثقافة للآخر؛ فالمربي ينقل ثقافته للمتربي، والتي قد لا تتناسب والمعطيات الحاليّة، بل قد تتصادم أحياناً، كما أنّ الحراك الاجتماعي بنوعيه الرأسي الذي فيه تغيير في المكانة، أو الأفقي الذي لا تتغير فيه المكانة أثّر فيه التحوّل الثقافي؛ لأنّ المكانة الاجتماعيّة –ذاتها- مستها آثار التحول الثقافي، ونلحظ أنّ التنافس أخذ يتسع بين الثقافات إلى حدٍّ بلغ الصراع.

كما نلحظ تأثير التحول الثقافي على الأدوار المتوقعة من الفرد فيما يشغل من مواقع في جماعته، فمثلاً ما يطلب حاليّاً من الوالد في الإنفاق على أبنائه ليس كما كان عليه الحال سابقاً، وما كان ينظر له باعتباره كماليّاً أصبح من الحاجيّات؛ كتوفير خدمة الإنترنت والأجهزة الخلويّة والحاسب الآلي.

أسهم في تغيير نمط المشكلات الاجتماعية كما أثر على موقفنا من بعض القضايا تبعاً لتغير المعايير أيضاً

كما أسهم التحوّل الثقافي في تغيير نمط المشكلات الاجتماعية، ففي معظم الدول العربية زادت نسب الجرائم التي يرتكبها الأحداث والشباب، بل في الأردن مثلاً تعد الفئة العمريّة من سن الثامنة عشرة إلى الخامسة والثلاثين هي الأكثر اقترافاً للجرائم، كما تمّ تسجيل مجموعة من الجرائم المستحدثة والتي لم تكن معروفة سابقاً؛ مثل الجرائم الإلكترونية.

كما أثر التحوّل الثقافيّ على موقفنا من بعض القضايا؛ وذلك تبعاً لتغّير في المعايير أيضاً، ويمكن أخذ مثال من التحوّل الذي جرى في موقف عموم الإسلاميين من حزب العدالة والحرية في تركيا، والموقف من ظهور المرأة في وسائل الإعلام، والموقف من الموسيقى. كما يمكن التساؤل عن ظاهرة انتشار المقاهي في الدول العربية، وتدخين النرجيلة، والتوسّع في مجالات عمل المرأة، والأمثلة على التحول في المواقف والمعايير كثيرة.

ويلفت الانتباه أنّه عند بدء افتتاح المطاعم الأمريكية للوجبات السريعة في بلداننا؛ تم ارتيادها ممن يعارضون السياسة الأمريكية في المنطقة، وينظرون إلى الشركات العابرة للقارات باعتبارها أدوات إمبريالية. وعند دراسة أسباب التراجع الشعبي لمقاطعة البضائع الأمريكية مع عدم وجود تغيّر في السياسات والانحيازات الأمريكيّة؛ نجد أنّ للتحول الثقافي دوراً مهماً في ذلك.

وقد أسهم التحوّل الثقافيّ في التغيير الاجتماعي، خصوصاً في دول شرق أوروبا، وذلك بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، كما وفّرت وسائل التواصل الاجتماعي منبراً إعلاميّاً شخصيّاً للأفراد، ولعبت دوراً أساسيّاً في الحراك الشعبي العربي.

وفي مواجهة هذا التحول الثقافي، علينا أن نغادر مربع المُسْتقْبِل، ونتجاوز التكيّف الثقافي الذي يمثّل شكلاً لتقبّل التحولات إلى الإدارة الثقافية، التي تقوّي من ثقافتنا، وتغيّر في بعض جوانبها وتجعلها فاعلة، وصالحة، وقابلة للتطور، وتمكنها لتكون عامل قوّة في المجتمع.

 

 

________________

المصدر: “بصائر تربوية”.

Exit mobile version