علِّم أولادك مواجهة وحش التنمر والاستفادة منه

لاحظ الكندي }ديريك بريو» أن ابنه (8 سنوات) يخجل من وحمة كبيرة على جسمه ويصر على ارتداء قميص أثناء السباحة؛ فصنع وشماً على جسمه مطابقاً لها وكأنه حلَّ مشكلة تعرض ابنه للتنمر، وهذا لن يمنعه، بل قد يزيد التنمر عليه وعلى والده، ويرى كثيرون أن هذا التصرف (التنمر) متطرف، وغالبية الأهل يحاولون حماية أولادهم من التنمر كهذا الوالد الكندي وبدرجات تتفاوت بالطبع.

التنمر كلام أو تصرف عدواني يسخر فيه المتنمر من غيره ويحرض الآخرين على مشاركته إياه، وقد يكون هذا بالنداء باسم يضايقه أو بالنفور منه وتحريض الآخرين على تجنب التعامل معه واحتقاره، وهناك التنمر الإلكتروني بالتعليقات المؤذية على الصور أو المنشورات.

كلنا تعرضنا للتنمر لعيب أو للغيرة من ميزة، فالتنمر يحدث أحياناً للمتفوق أو للوسيم أو للبنت الجميلة.

سيبقي التنمر موجوداً بالحياة ويجب قبول ذلك، ونرفض محاولات الأهل حماية الأولاد من التنمر بالذهاب للمدارس أو الأندية أو الحديث مع أهل المتنمر، فكل ذلك نتائجه مؤقتة جداً وتحرض المتنمر لمضاعفة تنمره، وفوجئت أثناء قيامي بالتدريس بالجامعة بوالدة طالبة في السنة الثالثة بالجامعة تشكو لي مضايقات زميلات ابنتها لها، وأن هذه التصرفات تؤذي ابنتها.

يشعر من يتعرض للتنمر بالحرج وبقلة الثقة بالنفس وبعدم القدرة على التعامل وبالخوف من المتنمرين وبعدم القبول، وتظهر عليه أعراض كالحساسية المفرطة أو العدوانية والعصبية، وقد يرفض الذهاب للمكان الذي يتعرض فيه للتنمر. 

وقد يحدث التنمر من المدرس أو مدرب بالنادي وهنا -فقط- على الأهل التدخل، وإن استمر يجب نقل الطفل لمكان آخر.

التنمر فرصة للانتباه لعيوبنا -وكلنا لدينا عيوب- ومنحة لمراجعة النفس والانتباه للعيوب التي يمكننا إصلاحها؛ كالبدانة، والنحافة الزائدة، وإهمال المظهر، والتلعثم، والتكلف بالكلام، والمبالغة بالحديث عن النفس، والغرور، وضعف الثقة بالنفس، والخجل الزائد، والتأخر الدراسي، فكل ذلك يمكن التخلص منه، وعلى الأهل مساعدة الأولاد، ليس للتخلص من التنمر ولكن لإسعاد أنفسهم والاستمتاع بحياة أفضل يستحقونها.

رائحة كريهة

أحياناً يخاف الأولاد إخبار الأهل بتعرضهم للتنمر حتى لا يتعرضوا للتعنيف أو يتهموهم بالضعف أو حرمانهم من وسائل التواصل الاجتماعي إذا تعرضوا للتنمر من خلالها.

لكن يجب الاستماع بود للولد عند شكواه والصبر وعدم مقاطعته وإرخاء قسمات الوجه لمنع الانفعال مع تجنب التعاطف الزائد، وانتبه حتى لا يبتزك عاطفياً بالمبالغة بالحديث عن تألمه من التنمر.

ولا ترد على شكواه بالدفاع عنه؛ فتزرع داخله الإحساس بالنقص، بل ادعم ثقته بنفسه، وأكد له ألا يسمح لأحد أن يقيّمه بذكر الجميل أو السيئ لديه، وأنه وحده الذي يملك ذلك، ولا تكلمه أمام إخوته، ويمكن للأم أن تكلمه وحدها وكذلك الأب، واسأله عن إحساسه وقت التنمر وما أسوأ توقعاته من المتنمر، ولا تنكر عليه إحساسه بالإهانة، ولا خوفه من تزايد التنمر، وامنحه الوقت الكافي ليتحدث بلا مقاطعة، وأخبره بهدوء أن المتنمر لديه مشكلة ويشعر بالنقص؛ فلو لم يكن كذلك لما حاول مضايقة غيره والسخرية منه وتحريض الآخرين عليه، وأن المتنمر يهين نفسه، وابنك لن تمسه الإهانة إلا إذا سمح هو بذلك.

والتنمر كرائحة كريهة يتعرض لها مضطراً مؤقتاً ويضع منديلاً على أنفه حتى لا يشمها، ثم يسارع برفع المنديل عن أنفه حتى لا يختنق؛ والمنديل هنا هو التجاهل أو الرد باقتضاب عليه، مثل: لا أرى ما تقوله مضحكاً، أو لماذا تنشغل بي كثيراً؟ أليس لديك ما تهتم به؟ هل تعتقد أنك بهذا الكلام أصبحت رائعاً؟ أرى أن لديك مشكلات عليك الاهتمام بها.. ثم يتركه ويسير مرفوع الرأس -بلا مبالغة- وبخطوات ثابتة.

لا تقل لابنك ابحث عن عيب للمتنمر وضايقه لأنه سيتمادى بإيلامه، بل أخبره أن الجميع يتعرضون للتنمر وفي كل أنحاء العالم، والأذكياء وحدهم يتجاهلونه ويركزون فيما يفيدهم، وأن بكاءه وشكواه من التنمر وإظهار ضيقه منه سيجعله أكثر استهدافاً، بينما التجاهل -ولو بتمثيل الثقة بالنفس- سيفيده.

ويمكن للتنمر أن يؤذيه أو يقويه، وهو وحده من يختار ذلك، وتجنب المحاضرات، وكثّف كلماتك بنقاط محدودة، واكتبها له ليقرأها كلما تضايق، وأخبره ألا يتوقع نتائج باهرة في وقت قليل؛ فهذا غير واقعي، وشجعه ليحكي لك بـصدق كيف يتعامل مع التنمر، واحترم صراحته ولا تدفعه ليكذب، ولا تسمح لإخوته بالمزاح معه حول موضوع التنمر؛ فما نرفضه بالجد نرفضه بالمزاح.

وامنع انعزاله طلباً للأمان، وعلّمه أنه لا يستطيع منع التنمر، ولكنه يستطيع التحكم برد فعله، وأن يتقبل نفسه ويحبها بلا شروط، وألا يخجل أبداً من عيب لديه، ولا تكلمه بشفقة ولا تستفزه فتقول: إن الأمر بسيط ولا يستحق الألم فتخسره، ولا تميزه عن إخوته بتدليل زائد، أو بعدم عقابك له إذا أخطأ؛ حتى لا يشعر أنك تعوّضه عن نقص لديه، فيزداد شعوره بالنقص أكثر.

وأظهر رفضك للتنمر، ودعمك له، وعلّمه ألا يبالغ بالتعامل مع أي ملاحظة أو انتقاد على أنها تنمر؛ فقيمته تنبع من داخله، ومن ينتظر قيمته من الآخرين يصبح أسيراً وعبداً لهم فيفعل أي شيء لإرضائهم، وعليه أن يكون ذكياً فلا يحقق للمتنمر هدفه، وهو إفقاده الثقة بالنفس أو الشعور بالتعاسة أو الابتعاد عن تحقيق النجاح بحياته، والتميز ليس لمنع التنمر ولا إغاظة المتنمر ولكن لإسعاد نفسه.

ومهم الكلام مع الابن وفقاً للمرحلة العمرية التي يمر بها، ولا نقول كلاماً يناسب أعمارنا نحن، ولا ننكر عليه الضيق من التنمر وننبهه بلطف ألا يبالغ في الضيق.

تمثيل وتقبُّل

علّم أولادك -من الجنسين- أن التنمر وحش كلما تأخروا بالتعامل معه سيتمكن منهم، وأن عليهم قتله وهو صغير، وأن المتنمر ضعيف جداً، وهو كمن يحمل سيفاً خشبياً يسهل تكسيره، فعليهم ألا يسمحوا للمتنمر بإيذائهم.

قل لابنك: قم بتمثيل اللامبالاة وتدرب على ذلك، ولا تنظر بوجه المتنمر حتى لا يضايقك بنظراته الساخرة أو بتحديه لك، وانظر بعيداً عنه، ولا تدافع عن نفسك، أو تشتمه؛ فتصبح أنت المخطئ، وحتى لا تحرضه على المزيد، ولا تحاول الرد بضربه، حتى لو كنت تستطيع ذلك جسدياً.

ولا تسخر من نفسك أبداً كما يفعل البعض عندما يسخر الآخرون من بدانته مثلاً، وتعلَّم احترام النفس، ولا تقل لابنك أبداً: ما تعاني منه امتحان من الخالق عز وجل، خاصة إذا كان صغيراً، واكتف بالقول: أنت مختلف، ولديك مزايا كثيرة، واذكرها له بلا مبالغة، وأضف: فلماذا لا تكون أكثر ذكاء وتركز على مزاياك وتفرح بها وتتقبل الاختلاف؟ ولا تقل له العيب أو المشكلة.

ولن تستطيع فعل ذلك إذا كنت أنت لم تتقبل نفسياً اختلاف ابنك، فسيبدو ذلك واضحاً من نظراتك ونبرات صوتك، وسيؤلم ابنك -رغماً عنك- وتجنب الشفقة عليه.

وقد يحدث التنمر لأسباب لا يمكن تغييرها؛ كقصر القامة أو لون البشرة أو الطول الزائد أو المشكلات الصحية كفقدان البصر، ويمكن إخبار الأولاد بقصص واقعية لمن تصدوا للتنمر وانتصروا عليه، وحققوا بطولات في حياتهم، كالطفلة التونسية الكفيفة ميساء بن ميم (12 عاماً) التي تحدت ظروفها، ونجحت بحفظ عشرة أجزاء من القرآن الكريم، وتكتب القصص، وصدرت لها عدة كتب، وتحفظ الشعر وتلقيه، ونالت جوائز في مسابقات عديدة.

و”مايكل آين”، الأمريكي الذي رفضته 20 كلية طب لقصر قامته (طوله 125 سم)، وتعرض لأبشع حالات التنمر طوال حياته وواصل تفوقه والتحق بكلية الطب وتخصص بالجراحة ويقف على درجتين أثناء إجراء العمليات، وكذلك «أناند أرنولد»، الهندي الذي كان يستعد ليكون بطلاً لكمال الأجسام كأخيه، وفاز ببطولات وهو في الثالثة عشرة من عمره، ثم أصيب بمرض أفقده الحركة، ورفض الاستمرار في حالة الحزن والأسى لما حلَّ به، وعاد لصالة الألعاب وتجاهل التنمر لأنه كان يتمرن وهو على مقعد وحصد بطولات وتنافس مع العاديين.

يمكننا دوماً الاستفادة من التنمر بتحسين مواطن قوتنا، وتغيير ما يمكننا تغييره للأفضل، والتركيز على ما يفيدنا ويسعدنا.

Exit mobile version