الاقتصاد التركي.. عوامل النهوض ومستقبل منشود

 يعيش العالم مرحلة تحولات فارقة في هذا العقد الذي نعيش فيه، فبعد أن ضربت أزمة “كوفيد- 19” القطاع الصحي وأثبتت هشاشته عالمياً، واشتعلت في الاقتصاد لتصيبه بالشلل، برز مع ذلك مقدمات لزوال نظام القطب الواحد لصالح أقطاب متعددة، في ظل الانقسام الأمريكي، وحب الذات الأوروبي، وتهافت كل دولة إلى مصلحتها على حساب غيرها، وترهل جل النظام العربي وتسليم مفاتيح بلادهم للصهاينة، حتى باتت الخيانة وجهة نظر.

إن المستقبل يحمل نمواً ملحوظاً لدول بنت نهضتها بسواعد أبنائها، فلن تكون الصين والهند والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وحدها ذات الأقطاب المتعددة، بل إن المستقبل يعكس بروز تركيا كذلك في ظل بناء نهضتها بنفسها واعتمادها على مواردها وسعيها للتكتل مع امتدادها التركي والإسلامي، رغم ما يحاك لها من مؤامرات يحركها محور “متصهين” بدت نواجذه واضحة في محاولة ضرب الاقتصاد التركي مرات ومرات من خلال ضرب العملة التركية التي ما زالت تعيش بين رحى الدعم والمقاومة. 

وإذا عدنا بالتاريخ قليلاً لنقف كيف كان للمسلمين خليفة يستظلون بظله، وكيف تداعت الأمم لإسقاط آخر حصون الإسلام في القرن الماضي من خلال القضاء على الخلافة العثمانية بعد إغراق الدولة بالديون، لا سيما بعد منح الامتيازات الأجنبية للأوروبيين من قبل السلطان عبدالمجيد الأول تقية من تهديد محمد علي، والي مصر، للدولة العثمانية، وكذلك نتيجة إنهاك الدولة العثمانية في الحروب والاضطرابات الداخلية، وقد ورث السلطان عبدالحميد الثاني تلك التركة الثقيلة، وبذل كل جهده حتى تمكن من تخفيض تلك الديون إلى العُشر، ورفض عرض هرتزل لسداد الديون بالكامل مقابل تسليم الصهاينة أرض فلسطين، فاجتمع عليه القريب والبعيد حتى أسقطت الخلافة الإسلامية على يد أتاتورك، في عام 1924م، وعاشت بعدها تركيا فترة حالكة السواد؛ دينياً واقتصادياً وسياسياً واجتماعياً، فكان المواطن التركي لا يجد الخبز إلا بالوثيقة، وتم حرمانه من ممارسة شعائره الدينية، في ظل حكم عسكري باسم الحزب الواحد، حتى جاء حزب العدالة والتنمية للحكم، في عام 2002م؛ فتغيرت المعادلة، وانتقل الإنسان والاقتصاد التركي نقلة نوعية في كافة المجالات.

وحتى تكون الصورة أكثر وضوحاً لتلك التغيرات، فإنه بالعودة إلى الفترة من عام 1981 إلى 2002م للوقوف على حقيقة الوضع الاقتصادي التركي، نجد أنه في تلك الفترة تعرض لموجات قاسية من الركود، اختتمت بأزمة عام 2001م التي تراجع فيها الاقتصاد بنسبة 5.7%، وانهارت الليرة التركية بنسبة 100%، وارتفع التضخم إلى مستويات قياسية بلغت 70%، وأفلست نصف البنوك التركية، ووصلت معدلات البطالة إلى مستويات خرافية، ووصل العجز في الميزانية إلى -16%، كما وصلت الديون العامة إلى -74%، وانكمش الاقتصاد بنسبة 6%، وبلغت نسبة الفقر 50%.

العدالة والتنمية والسياسات التقشفية

وفي تلك الظروف الحرجة، لجأت الحكومة التركية حينذاك لصندوق النقد الدولي وفق برامج التكيف الهيكلي للصندوق، وتم من خلاله ربط الليرة التركية بالدولار، واستخدام سياسة نقدية صارمة، والتوجه نحو تحرير الاقتصاد، والتقشف، ورغم ما حققه البرنامج من انخفاض معدَّل التضخُّم، وانخفاض أسعار الفائدة، فإن هذا التغيير كان شكلياً كعادة برنامج صندوق النقد الدولي، فلم يسلم الاقتصاد التركي من عدم الاستقرار حتى تولى حزب العدالة والتنمية مقاليد الحكم، في نوفمبر 2002م؛ فتغير المشهد الاقتصادي تماماً، حيث لم تمض بضع سنوات حتى شهد الاقتصاد قفزة نوعية ليصل ترتيبه في وقتنا الحالي إلى السابع عشر عالمياً.

وقد التزمت حكومة حزب العدالة والتنمية بقيادة رئيس الوزراء حينئذ رجب طيب أردوغان باستمرار تنفيذ الاتفاق الموقع مع صندوق النقد الدولي عام 2001م، وهو ما ألزمها بالسياسات التقشفية، واتخاذ إصلاحات هيكلية لا سيما في القطاع المصرفي، حيث تم تعويم سعر الليرة التركية، وفتح المجال لتدفقات رؤوس الأموال الأجنبية، والتشديد على الانضباط المالي، ومنح الاستقلالية للبنك المركزي، وتعزيز الخصخصة.

ومع ذلك لم يركن الحزب في سياسته الاقتصادية لروشتة صندوق النقد الدولي فقط، بل مع التزامه بها أعطى لنفسه حرية الحركة في النهوض باقتصاد البلاد مستخدماً سياسة التدرج في الإصلاح الاقتصادي، وإيلاء أولوية للاقتصاد الحقيقي، حتى إنه في عام 2003م، زاد النمو بنسبة 5.3%، وبنسبة 9.4% في عام 2004م، وبنسبة 8.4% في عام 2005م، وبنسبة 6.9% في عام 2006م، وبنسبة 4.7% في عام 2007م، ومع دخول العالم في أزمة مالية عالمية لم يحقق الاقتصاد التركي نمواً سلبياً كغيره من الاقتصاديات، بل معدل نمو إيجابي بنسبة 0.7%، وقد وصل معدل النمو حالياً رغم أزمة “كوفيد- 19” في الربع الثاني من العام الحالي إلى 4.4%.

صُنع في تركيا

لقد حققت تركيا معجزة اقتصادية ونهضة تنموية حتى باتت توفر غذاءها ودواءها وسلاحها، ولا تكاد تدخل متجراً تركياً إلا وتجد عبارة “صُنع في تركيا”، هي سيد الموقف، كما أنها من خلال اكتشافها لحقول غاز وتخلصها من معاهدة “لوزان” تفتح المجال بذلك للتخلص من العبء السلبي عليها في ميزان مدفوعاتها؛ فقضية الطاقة من القضايا التي تولي تركيا لها أهمية خاصة، وقد تم فيها عدد من الإصلاحات التي ساهمت بشكل كبير في جذب استثمارات كبيرة من القطاع الخاص.

والناظر إلى تجربة النهضة التركية يجد أن لها أسباباً متعددة، ولكنها تتلخص في سبب رئيس هو بناء الإنسان باعتباره أهم مورد اقتصادي، لا سيما أن العامل التركي يتميز بتقديسه للعمل وامتلاكه المهارات اللازمة لذلك وحب انتمائه لوطنه، وقد استفاد هذا المواطن من التغير في بنية الاقتصاد الذي تبناه حزب العدالة والتنمية من خلال الإحلال محل الواردات، وتشجيع الصادرات وجذب الاستثمارات الأجنبية وفقاً للمصالح المتبادلة، فنمت القطاعات الإنتاجية لتعزز من الاقتصاد الحقيقي.

وقد ساهم في ذلك أيضاً الاستقرار السياسي، من خلال وصول الحزب منفرداً إلى السلطة وتحالفه مع حزب الحركة القومية الذي يسانده في توجهه، وتلك القوة الناعمة يسَّرت له تنفيذ مشروعاته التنموية دون معوقات، وهو ما منح الثقة للحكومة من المواطنين، حيث رأوا بأم أعينهم الفارق بين ما كان قبل وما حدث بعد، لا سيما في القطاعات الخدمية من صحة وتعليم ونقل وخلافه، وتوافر الاحتياجات الأساسية للمواطن دون عناء يذكر.

كما أن الإرادة السياسية من أهم نجاح النهضة التركية، فالرئيس أردوغان يملك هذه الإرادة ويحمل في قلبه عقيدة الإسلام، وما توقفت خطواته مطلقاً رغم علمانية الدولة، فجعل العلمانية خاضعة لتوجهه الإسلامي بحكمة واقتدار وتدرج وانتصار، مستفيداً من تجربة وخبرة أستاذه نجم الدين أربكان.

أردوغان والتنمية الشاملة

وقد كانت مهمة الرئيس أردوغان رغم صعوبتها ناجحة في إنهاك “مافيا” الفساد، فخنق الفساد وحقق من وراء ذلك ملايين الوفورات التي امتد نفعها للقطاعات الاقتصادية المختلفة، ومن ثم على المواطن التركي.

لقد ركز الرئيس أردوغان، طيلة فترة حكمه، سواء كان رئيساً للوزراء أم رئيساً للدولة، على إحداث تنمية شاملة في كافة القطاعات، وإن توجه تركيزه بصفة خاصة إلى الإنسان التركي من خلال تعزيز القدرة التنافسية والتوظيف، والنهوض بالمشروعات التي توفر فرص عمل وتعالج مشكلة البطالة وتحقق قيمة مضافة، مع رفع الحد الأدنى للأجور ليعيش المواطن حياة كريمة.

وفي إطار الاهتمام بالإنسان التركي أيضاً، اهتم أردوغان بالقطاع الصحي من خلال برنامج التحول الصحي الذي عكس تحولاً سريعاً ومؤثراً في الأداء الصحي للفقراء بصورة فاقت ما عليه الحال في الدول الغربية، بعد أن كان المواطن التركي يستيقظ مع الفجر لتطأ قدمه المستشفيات ليلحق دوره في العلاج، وقد يمضي الوقت ولا يتيسر له الدخول للطبيب في يومه، ولعل معالجة أزمة “كوفيد- 19” تعكس مدى نجاح هذا القطاع في مواجهة الأزمة بصورة مخططة ومنظمة.

وفي إطار الإنسان التركي أيضاً، اهتم أردوغان بالتعليم، وأصبح كالماء والهواء، وجعل للمعلم قيمته وللطالب مكانته، كما اهتم بالحماية الاجتماعية والقضاء على الفقر، وما زالت الجهود تسير على قدم وساق في هذا الشأن.

إن تجربة أردوغان في نهضة تركيا هي تجربة كرامة الإنسان التي حرصت حكومته عليها من خلال تطوير البنية التعليمية والصحية والقضائية والحقوقية والتحتية، والاستكفاء والاستغناء وسداد قروض صندوق النقد الدولي وتوفير القوة العسكرية، والتعامل بلغة المصالح المتبادلة، والإرادة السديدة والإدارة الرشيدة، ومع ذلك لا تزال أيدٍ خبيثة تريد إجهاض هذه التجربة؛ فلم يفلح الانقلاب العسكري في عام 2016م، وأجهضه الشعب التركي، فلجأت تلك الأيدي الآثمة إلى الانقلاب الاقتصادي من خلال التلاعب في سعر الليرة التركية بالمضاربات عليها، ولكن الحقيقة التي لا مناص منها أن المارد التركي انطلق ولا مجال لرجوعه، وما تحرير إقليم “قره باغ” في أذربيجان بدعم تركيا عنا ببعيد، ولهذا الأمر ما بعده.

إن المؤشرات التركية العامة تعكس صعود القوة التركية اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً رغم التحديات الراهنة ومحاولات التركيع عبر المؤامرات الاقتصادية، ولعل روح الإرادة والتحدي واستشراف مستقبل تركيا عكسها الرئيس أردوغان بقوله: إن تركيا في كفاح تاريخي في مواجهة الساعين لحصار البلاد في فخ ارتفاع أسعار الفائدة والتضخم وأسعار الصرف، وسوف تتغلب تركيا على العراقيل السياسية لمواصلة العمل على تحسين النمو الاقتصادي والتوظيف والصادرات.

وأضاف أن تركيا على رأس الدول التي تستعد لدخول حقبة جديدة عبر بنيتها التحتية المتطورة ومواردها البشرية الشابة والمتعلمة وإدارتها الثابتة والمستقرة، وفي كل منعطف أو أزمة نمر بها، نكتشف أهمية وقيمة ما حققته تركيا من منجزات في السنوات الـ18 الماضية في مجال البنية التحتية والخدمات العامة، ولمجابهة خطط النيل من اقتصادنا، زدنا من إنتاجنا وصادراتنا، ومن فرص العمل وحجم النمو، ورفعنا مستوى التكنولوجيا في البلاد، وتجاوزنا سداد الفجوات في بنيتنا التحتية، إلى تأمين احتياجات بلدنا المستقبلية، لنمهد دخول تركيا بين أكبر 10 اقتصادات في العالم، وإن كنا ننظر بطموح إلى المستقبل اليوم، فهذه ثمرة الجهود المبذولة في السنوات الـ18 الماضية.

وأردف أن العالم مقبل على إعادة تشكيل العلاقات السياسية والاقتصادية بعد وباء “كورونا”، وتركيا على مشارف مرحلة جديدة من أجل الديمقراطية والتنمية.

 

____________________________________________________

(*) أستاذ التمويل والاقتصاد بجامعة إسطنبول صباح زعيم.

Exit mobile version