الإمام الغَزَّالِي

محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الطوسْيّ، الإمام الجليل، أبو حامد، الغَزَّالِيّ حجَّة الإسلام، ومحَجَّة الدين التي يُتوصَّل بها إلى دار السَّلام.

جامع أشْتات العلوم، والمُبرِّز في المنقول منها والمفهوم.

جاء والناس إلى رَدِّ فِرْية الفلاسفة أحوجُ من الظَّلْماء لمصابيح السماء، وأفقر من الجَدْباء إلى قَطَرات الماء، فلم يزل يناضِل عن الدين الحنيفيّ بجِلاد مقاله؛ ويحمي حَوْزَة الدين، ولا يُلطِّخ بدَم ِ المعتدين حَدَّ نِصاله، حتى أصبح الدِّينُ وثيقَ العُرَى، وانكشفتْ غياهبُ الشبهات، وما كانتْ إلا حديثاً مُفْتَرَى.

هذا مع ورعٍ طوى عليه ضميرَه، وخَلْوةٍ لم يتَّخِذ فيها غيرَ الطاعة سَمِيرَه.

ترك الدنيا وراء ظهره، وأقبل على الله يعاملُه في سرِّه وجَهْرهِ.

ولد بطُوس، سنة خمسين وأربعمائة.

ويحكى أن أباه كان فقيراً، صالحاً، لا يأكل إلا من كسب يده في عمل غَزْل الصوف، ويطوف على المتفقِّهة، ويجالسهم، ويتوفَّر على خِدْمتهم، ويجِدُّ في الإحسان إليهم والنَّفقة بما يمكنه، وأنه كان إذا سمع كلامَهم بكى، وتضرَّع وسأل الله أن يرزقَه ابْناً ويجعله فقيها؛ ويحضر مجالسَ الوعظ، فإذا طاب وقتُه، بكى، وسأل الله أن يرزقه ابْناً واعظاً، فاستجاب الله دعوَتَيْه.

قرأ في صباه طرَفاً من الفقه، ببلده، على أحمد بن محمد الراذكاني.

ثم سافر إلى جُرْجان، إلى الإمام أبي نصر الإسْمَاعِيلِيّ، وعلّق عنه «التعليقة»، ثم رجع إلى طوس.

قال الإمام أسعد المِيهَنيّ: فسمعتُه، يقول: قُطِعتْ علينا الطريقُ، وأخذ العيَّارون جميع ما معي، ومضوا، فتبعتُهم، فالتفت إليَّ مقدَّمهم، وقال: ارجع، وَيْحَك، وإلا هلكْتَ.

فقلت له: أسألُك بالذي ترجو السلامَة منه، أن ترُدَّ عليَّ تعليقتي فقط، فما هي بشيء تنتفعون به، فقال لي: وما تعليقتك؟ فقلت: كتُبٌ في تلك المِخْلاة، هاجرتُ لسماعها، وكتابتها، ومعرفة عِلْمها، فضحك، وقال: كيف تدَّعي أنك عرفْتَ علمها، وقد أخذناها منك فتجرَّدتَ من معرفتها، وبَقِيت بلا علم؟! ثم أمر بعضَ أصحابه، فسلَّم إليَّ المِخْلاة.

قال الغَزَّالي: فقلتُ: هذا مُستنْطَق، أنطقه الله ليرشدني به في أمري، فلما وافيتُ طُوس، أقبلت على الاشتغال ثلاثَ سنين، حتى حفظتُ جميعَ ما علَّقْته، وصرْتُ بحيث لو قُطِع عليَّ الطريق لم أتجرَّد من علمي.

ثم إن الغَزَّالِيّ قدِم نَيْسابُور، ولازم إمام الحرمين، وجدَّ، واجتهد، حتى برع في المذهب، والخلاف، والجدل، والمنطق، وقرأ الحكمة، والفلسفة، وأحكم كلَّ ذلك.

وفهم كلامَ أرباب هذه المعلوم، وتصدَّى للردِّ على مُبطليهم، وإبطال دَعاويهم، وصنَّف في كل فنّ من هذه العلوم كتباً، أحسن تأليفها، وأجاد وضعَها، وترْصيفها.

وكان رضي الله عنه شديدَ الذكاء، شديدَ النظر، عجيب الفطرة، مفرِط الإدراك، قويّ الحافظة، بعيد الغَوْر، غوَّاصاً على المعاني الدقيقة، جَبَلَ علمٍ، مناظراً، مِحْجاجاً.

ثم لما مات إمام الحرميْن، خرج الغَزَّالِيّ إلى المعسكر، قاصداً للوزير نِظام الملك، إذ كان مجلسُه مجمعَ أهل العلم، وملاذَهم، فناظر الأئمة العلماء في مجلسه، وقهر الخصوم، وظهر كلامه عليهم، واعترفوا بفضله، وتلقَّاه الصاحب بالتَّعظيم، والتبجيل، وولَّاه تدريسَ مدرسته ببغداد، وأمره بالتوجُّه إليها.

فقدم بغداد 484 هـ، ودرَّس بالنِّظاميَّة، وأعجب الخلقَ حسنُ كلامه، وكمالُ فضله، وفصاحة لسانه، ونكَتُه الدقيقة، وإشاراتُه اللطيفة، وأحبُّوه.

وأقام على تدريس العلم، ونشره، بالتعليم، والفُتْيا، والتصنيف، مدة، عظيمَ الجاه زائد الحِشْمة، عاليَ الرتبة، مسموع الكلمة، مشهورَ الاسم، تُضرَب به الأمثال.

إلى أن عزَفت نفسُه عن رذائل الدنيا، فرفض ما فيها، من التقدُّم، والجاه، وترك كلَّ ذلك وراء ظهره، وقصد بيت الله الحرام.

فخرج إلى الحج في ذي القَعدة، سنة 488هـ، واستناب أخاه في التَّدريس.

ودخل دمشق، سنة 489هـ، ثم توجَّه إلى بيْت المقدس، فجاور به مدة، ثم عاد إلى دمشق، واعتكف بالمنارة الغربيَّة، من الجامع، وبها كانت إقامتُه.

قال الحافظ ابن عساكر: أقام الغَزَّالِيّ بالشام نحواً من عشرين سنة.

ثم رجع إلى بغداد، وعقد بها مجلس الوعظ، وتكلَّم على لسان أهل الحقيقة، وحدَّث بكتاب «الإحياء».

وذكر الحافظُ ابن عساكر، أنه سمع «صحيح البخاريّ» من أبي سهل محمد بن عُبيدالله الحَفْصِيّ.

ووزَّع أوقاته على وظائف، مِن خَتْم القرآن، ومجالسة أرباب القلوب، والتَّدريس لطلبةِ العلم، وإدامة الصلاة والصِّيام وسائر العبادات، إلى أن انتقل إلى رحمة الله تعالى، ورضوانه.

وكانت وفاته يرحمه الله، بطُوس يوم الإثنين، رابع عشر جمادى الآخرة، سنة 505هـ.

قال أبو الفرج بن الجَوْزِيّ، في كتابه «الثبات عند الممات»: قال أحمد، أخو الإمام الغزَّالِيّ: لما كان يوم الإثنين، وقت الصبح، توضأ أخي أبوحامد وصلَّى، وقال: عليَّ بالكَفن، فأخذه، وقبّله، ووضعه على عينيه، وقال: سمعاً وطاعة للدُّخول على الملِك، ثم مدَّ رجليه، واستقبل القبلةَ، ومات قبل الإسْفار، قدَّس الله روحَه.

مصنَّفاته:

له في المذهب: «الوسيط»، و»البسيط»، و»الوجيز»، و»الخلاصة».

وفي سائر العلوم: كتاب «إحياء علوم الدين»، و»الأربعين»، و»الأسماء الحسنى»، و»المستصفَى».

و»المنخول» في أصول الفقه، ألفه في حياة أستاذه إمام الحرمين.

و»بداية المجتهد» و»المآخذ» في الخلافيَّات(1).

العبر والفوائد التربوية والإيمانية:

– تأثير صلاح الأب على حسن نشأة الولد؛ فالله تعالى يستجيب لدعوة الآباء والأمهات وكل من دعاه صادقاً مخلصاً.

– طلب العلم من الصغر له التأثير الطيب المبارك في تميز المتعلم ونبوغه وتفوقه.

– العلماء والدعاة المخلصون همهم التعليم والتدريس والتربية والدعوة إلى الخير؛ ولذلك يخوض العلماء الحكماء غمار التعليم والتدريس رغم وعورته وصعوبته، فهو السبيل الأمثل للإصلاح ونشر الخير في المجتمع وتربية الشباب وتثقيفهم على خلق الإسلام ومعاني الإيمان، ونحن ما زلنا نتذكر الدعاة والخطباء الذين كانوا يدرّسون في مدارس دولة الكويت أمثال الأساتذة الفضلاء والمشايخ المكرمين طايس الجميلي، وعمر الأشقر، وعبدالله العتيقي، وأحمد القطان.. وغيرهم.

ولذلك يجب أن يهتم العلماء والمشايخ والدعاة بالعمل في المدارس والجامعات والمعاهد، وأن يتميزوا بالحكمة والمهنية والموعظة الحسنة.

– كثرة تنقل العلماء في الأمصار والأقطار والبلدان للتعلم والتعليم سمة من سمات علمائنا الربانيين.

– كثرة التصنيف والتأليف لعلمائنا رغم العوائق والصعوبات وقلة المواد والآلات، فكيف لو وجد علماؤنا السابقون ما بأيدينا من آلات وأجهزة وبرامج وأنظمة؟!

– الإفادة والتعلم من كل مواقف الحياة حتى يحصل المتعلم على الجودة والتميز.

– إن حسن الخاتمة تنتظر الصادقين المخلصين والعابدين الزاهدين الذين آثروا ما عند الله على الدنيا الفانية.

والحمد لله رب العالمين.

الهامش

(1) عبدالوهاب بن علي السبكي، طبقات الشافعية الكبرى، ج 6، تحقيق: عبدالفتاح محمد الحلو، محمود محمد الطناحي.

Exit mobile version