الإمام ابن عساكر

 علي بن الحسن بن هِبَة الله بن عبدالله بن الحسين، الإمام الجليل، حافظ الأمة، أبو القاسم ابن عساكر.

هو الشيخ الإمام، ناصر السُّنّة وخادِمها، وقامع جند الشيطان بعساكر اجتهاده وهادمها، إمام أهل الحديث في زمانه، وختام الجهابِذَة الحفّاظ، ولا ينكر أحدٌ منهم مكانة مكانِه، مَحَطُّ رِحال الطالبين، ومَوْئِل ذوي الهمم من الراغبين، الواحد الذي أجمعت الأمة عليه، والواصل إلى ما لم تطمح الآمال إليه، والبحر الذي لا ساحل إليه.

وُلد في مستهل رجب سنة تسع وتسعين وأربعمائة للهجرة.

وسمع خلائق، وعدة شيوخه ألف وثلاثمائة شيخ، ومن النساء بضع وثمانون امرأة.

وارتحل إلى العراق ومكة والمدينة، وارتحل إلى بلاد العجم، فسمع بأصبهان، ونَيْسَابور، ومَروْ، وتِبريز، ومِيهَنة، وبَيْهق..

وسمع منه جماعة من الحفاظ كأبي العلاء الهَمَذانيّ، وأبي سعد السمعانيّ، وروى عنه الجَمُّ الغَفير، والعَدَد الكثير، ورُوِيت عنه مصنَّفاته وهو حيٌّ بالإجازة، في مدن خراسان وغيرها، وانتشر اسمه في الأرض، ذات الطول والعَرْض.

وكان قد تفقَّه في حداثته بدمشق على الفقيه أبي الحسن السُّلَمِيّ،

ولما دخل بغداد لزم بها التفقُّه وسماعَ الدروس بالمدرسة النِّظامية، وقرأ الخلاف والنحو، ولم يزل طولَ عمره مواظِباً على صلاة الجماعة، ملازِماً لقراءة القرآن، مكثراً من النوافل والأذكار، والتسبيح آناء الليل وأطراف النهار، وله في العشر من شهر رمضان في كل يومٍ ختمة، غير ما يقرأه في الصلوات، وكان يختم كلَّ جمعة، ولم يُرَ إلا في اشتغال، يُحاسب نفسه على ساعة تذهب في غير طاعة، يصدع بالحق لا يخاف في الله لومة لائم، ويسطو على أعداء الله المبتدعة ولا يبالي وإن رَغِمَ أنفُ الرَّاغم، لا تأخذه رأفةٌ في دين الله، ولا يقوم لغضبه أحدٌ إذا خاض الباغِي في صفات الله.

قال له شيخه أبو الحسن بن قُبَيْس، وقد عزم على الرِّحلة: إني لَأَرجو أن يُحييَ الله تعالى بك هذا الشأن، فكان كما قال، وعُدَّتْ كرامةً للشيخ وبِشارَةً للحافظ.

ولما دخل بغداد أُعْجِب به العراقيُّون، وقالوا: ما رأينا مثله، وكذلك قال مشايخه الخُراسانيُّون.

وقال الحافظ أبو العَلاء الهَمَذانيّ لبعض تلامذته وقد استأذنه أن يسافر: إن عرفتَ أستاذاً أعلَم مني، أو يكون في الفَضْل مثلي فحينئذ آذنُ لك أن تسافرَ إليه، اللهم إلا أن تسافر إلى الشيخ الحافظ ابن عساكر، فإنه حافظ كما يجب.

وقال شيخه الخطيب أبو الفَضْل الطُّوسِيّ: ما نعرف من يستحق هذا اللقبَ اليومَ سِواه؛ يعني لفظة الحافظ.

وكان يُسَمَّى ببغداد شُعْلَةَ نار، من توقُّده، وذكائه وحسن إدراكه، لم يجتمع في شيوخه ما اجتمع فيه؛ من لزومِ طريقة واحدة منذ أربعين سنة، يلازم الجماعة في الصف المقدَّم إلا من عذر مانع، والاعتكاف والمواظبة عليه في الجامع، وإخراج حقّ الله، وعدم التطلُّع إلى أسباب الدنيا، وإعراضه عن المناصب الدينيّة، كالإمامة والخطابة، بعد أن عُرِضتا عليه.

وقال ابن النجّار: هو إمام المحدِّثين في وقته، ومن انتهت إليه الرِّياسة في الحفظ والإتقان، والمعرفة التامّة بعلوم الحديث، والثقة والنُّبل، وحسن التَّصنيف والتجويد، وبه خُتِم هذا الشأن.

وكان الملك العادل محمود بن زَنْكِي نور الدين قد بَنى له دار الحديث النُّورِيّة، فدرَّس بها إلى حين وفاته، غيرَ ملتفت إلى غيرها، ولا متطلِّع إلى زُخْرف الدنيا، ولا ناظرٍ إلى محاسن دمشق ونُزَهِها، بل لم يزل مواظباً على خدمة السُّنة والتعبّد باختلاف أنواعه؛ صلاةً وصياماً واعتكافاً وصدقة، ونَشْرَ علم، وتشييع جنائز، وصِلاتِ رَحِم إلى حين قُبِض، رحمه الله تعالى ورضي عنه.

توفي الحافظ في حادي عشر شهر رجب الفرد سنة إحدى وسبعين وخمسمائة، بدمشق ودُفِن بمقبرة باب الصغير(1).

الفوائد الإيمانية والتربوية:

– كان علماء الإسلام، رحمهم الله تعالى، يتزودون دائماً بالزاد الإيماني التربوي من ملازمة لصلاة الجماعة وصيام النوافل وتلاوة القرآن الكريم والأذكار والتسبيح آناء الليل وأطراف النهار والصدقة وتشييع الجنائز والاعتكاف وصلة الرحم ونشر العلم.. فقد كان هذا زادهم حتى يلقوا الله تعالى.

– الحرص على طلب العلم والتفقُّه من الصغر وسن الشباب له دور في صياغة شخصية العالم وإتقانه للعلم والفنون؛ ولذلك يجب على المربين أن ينتبهوا للنماذج الموهوبة والمتميزة وتوجيهها وتربيتها والعناية بها، باعتبار كل واحد منهم مشروع عالم شرعي متمكن للمستقبل، بإذن الله تعالى.

– الحرص على التدريس والتربية والتعليم والدعوة إلى الخير من سمات العلماء الربانيين.

– كان العلماء لا يشغلهم أمر عن العلم والعبادة.

– الزهد في المناصب كان سمتاً معروفاً للعلماء الصادقين المخلصين.

– كان علماء الإسلام لا يرضون إلا بالحفظ والإتقان والمعرفة التامة لمختلف المعارف والعلوم.

والحمد لله رب العالمين.

 

__________________________________________

(1) عبدالوهاب بن علي السبكي، طبقات الشافعية الكبرى، ج7، تحقيق: عبدالفتاح محمد الحلو، محمود محمد الطناحي.

Exit mobile version