المنهج النبوي للتمكين الاقتصادي

 

 يكشف تاريخ المسلمين نماذج متعددة للتمكين الاقتصادي، ومن هذه النماذج الحية حديث الحلس، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَجُلاً مِنَ الْأَنْصَارِ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُهُ، فَقَالَ: «لَكَ فِي بَيْتِكَ شَيْءٌ؟»، قَالَ: بَلَى، حِلْسٌ نَلْبَسُ بَعْضَهُ، وَنَبْسُطُ بَعْضَهُ، وَقَدَحٌ نَشْرَبُ فِيهِ الْمَاءَ، قَالَ: «ائْتِنِي بِهِمَا»، قَالَ: فَأَتَاهُ بِهِمَا، فَأَخَذَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: «مَنْ يَشْتَرِي هَذَيْنِ؟» فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا آخُذُهُمَا بِدِرْهَمٍ، قَالَ: «مَنْ يَزِيدُ عَلَى دِرْهَمٍ؟» مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثاً، قَالَ رَجُلٌ: أَنَا آخُذُهُمَا بِدِرْهَمَيْنِ، فَأَعْطَاهُمَا إِيَّاهُ وَأَخَذَ الدِّرْهَمَيْنِ، فَأَعْطَاهُمَا الْأَنْصَارِيَّ، وَقَالَ: «اشْتَرِ بِأَحَدِهِمَا طَعَاماً فَانْبِذْهُ إِلَى أَهْلِكَ، وَاشْتَرِ بِالْآخَرِ قَدُوماً، فَأْتِنِي بِهِ»،  فَفَعَلَ، فَأَخَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَشَدَّ فِيهِ عُوداً بِيَدِهِ، وَقَالَ: «اذْهَبْ فَاحْتَطِبْ وَلَا أَرَاكَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْماً»، فَجَعَلَ يَحْتَطِبُ وَيَبِيعُ، فَجَاءَ وَقَدْ أَصَابَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، فَقَالَ: «اشْتَرِ بِبَعْضِهَا طَعَاماً وَبِبَعْضِهَا ثَوْباً»، ثُمَّ قَالَ: «هَذَا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَجِيءَ وَالْمَسْأَلَةُ نُكْتَةٌ فِي وَجْهِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَصْلُحُ إِلَّا لِذِي فَقْرٍ مُدْقِعٍ، أَوْ لِذِي غُرْمٍ مُفْظِعٍ، أَوْ دَمٍ مُوجِعٍ».

فهذا الحديث يعكس صورة عملية للتمكين الاقتصادي تعد منهجاً نبوياً لذلك التمكين، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يعالج المشكلة الاقتصادية للصحابي من خلال الوعظ والترهيب من المسألة فقط، أو من خلال الحلول المؤقتة المسكّنة، بل جعل من الصحابي شريكاً له صلى الله عليه وسلم في علاج المشكلة، وبدأ النبي صلى الله عليه وسلم بالحل من بيت هذا الصحابي، وما به من موارد حتى ولو كانت بسيطة في حجمها أو نوعها، وتوجيه استخدامها بطريقة رشيدة، من خلال تحويلها إلى موارد منتجة، ببيع تلك الأصول البسيطة غير المنتجة التي يمكن تعويضها بالعمل والإنتاج، والاستفادة من ثمنها في اتجاهين، أحدهما استهلاكي؛ لقضاء حوائج أهل ذلك الصحابي لفترة مؤقتة حتى يحقق الكسب، والآخر إنتاجي؛ بشراء أداة الإنتاج التي أعدها ولي الأمر بيده الكريمة الشريفة ليعمل الصحابي ويكفي نفسه وأهله مستقبلاً.

واختار النبي صلى الله عليه وسلم المهنة الملائمة لشخصية الصحابي وقدرته ومهارته وظروفه والبيئة التي يعيش فيها، مهيئاً له بذلك الظروف المناسبة للعمل، وحرص صلى الله عليه وسلم على متابعة الصحابي في عمله، حرصاً على الجدية وتحقيق نتائج ملموسة في العمل، وهو ما يخلق في النفس روح المبادرة وتجاوز الصعاب، وبذلك تحول الرجل من شخص عالة على المجتمع إلى شخص مُتمكّن منتج يستفيد هو بإنتاجه وكذلك المجتمع من حوله.

وهذا التوجيه النبوي الكريم هو أولى بالتطبيق في زماننا هذا من خلال تكاتف الدول والمؤسسات الخاصة (ربحية وخيرية)، في توفير فرص عمل للعاطلين، بصورة تمكنهم من إغناء أنفسهم بأنفسهم، من خلال توفير المساعدة اللازمة لهم لإقامة مشروعات صغيرة ومتناهية الصغر، وذلك بإكسابهم المهارات اللازمة لإدارة تلك المشروعات وتأهيلهم وتدريبهم على ذلك، وإمدادهم بآلات ومعدات ومستلزمات الإنتاج، مع المتابعة المستمرة لهم، وتقويم الأداء، وتنمية الإيجابيات وعلاج السلبيات.

فمن خلال الزكاة يمكن توفير الآلات والمعدات اللازمة لإقامة مشروعات صغيرة أو متناهية الصغر للمحتاجين، وإقامة مشروعات جماعية كمصانع أو متاجر أو مؤسسات تعمل على خلق فرص عمل للمحتاجين مع تمليكها لهم. 

كما أنه من خلال الوقف الخيري يمكن إقامة مشروعات منتجة يتم من خلالها تشغيل المحتاجين، كما يمكن تمويل المحتاجين من منفعة الوقف بتوفير أدوات ومستلزمات الإنتاج اللازمة لهم بدون مقابل، أو من خلال استرداد القيمة على فترات معينة.

كما يمكن للمؤسسات المالية، وفي مقدمتها البنوك الإسلامية، المساهمة في التمكين الاقتصادي بصورة فعالة من خلال توفير التمويل اللازم لبناء رجال وسيدات أعمال في المجتمع، بإنشاء مشروعات صغيرة ومتناهية الصغر، بأساليب التمويل الإسلامية؛ سواء أكانت أساليب التمويل قائمة على التبرعات والبر والإحسان؛ كالقرض الحسن والصدقات التطوعية والزكاة والوقف، أو قائمة على المشاركات؛ كالمشاركة المنتهية بالتمليك والمضاربة والمساقاة والمزارعة والمغارسة، أو قائمة على المعاوضات؛ كالبيع الآجل وبيع المرابحة وبيع السلم وبيع الاستصناع والتأجير التشغيلي والتأجير التمويلي.

وكل هذا يتيح فرصاً ومجالات أكثر لتمويل تلك المشروعات، فضلاً عن كون هذه الأساليب التمويلية تقوم على أساس دراسات الجدوى من الناحية الاقتصادية، وعلى أساس الحلال من الناحية الشرعية، وهذا يعني أن هذه المشروعات عند دراستها تخضع للأولويات الإسلامية من ضروريات وحاجيات وتحسينات، مما يحقق تخصيصاً أمثل للموارد، وعلاجاً لمشكلات الفقر والبطالة، ويحقق ما تصبو إليه البلاد الإسلامية من تنمية اقتصادية واجتماعية مستدامة.

ويمكن للدولة تفعيل نظام «الحمى» بتوزيع الأراضي على المحتاجين، وتوفير الأدوات اللازمة لذلك، مع تمليكها لهم في حالة تعميرها زراعياً أو صناعياً أو خدمياً وفق أولويات المجتمع، ففي الحديث: «من أحيا أرضاً ميتة فهي له» (رواه أبو داود)، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: «من عطل أرضاً ثلاث سنين لم يعمّرها فجاء غيره فعمّرها فهي له».

وختاماً، يبدو أهمية تفعيل دور الدولة من خلال: توفير سبل التسويق لمنتجات المشروعات الصغيرة والمتناهية الصغر، والتخطيط التنموي الشامل بربط مخرجات التعليم بسوق العمل، وترشيد النفقات وتوجيهها لدعم وتنمية المشروعات الصغيرة والمتناهية الصغر، وتحفيز وتوجيه الاستثمارات نحو المشروعات التي تستوعب أكبر عدد من العاطلين، وتوليد رزق لأكبر عدد من الأحياء، التي تقع في مجال الضروريات والحاجيات، مع تقديم الحوافز الاستثمارية لها، والتسهيلات اللازمة لدعم إنتاجها وزيادة قدرتها على النمو والاستمرار، وتوفير قاعدة معلوماتية للوظائف المطروحة والباحثين عنها؛ من خلال إنشاء بنوك قومية للتوظيف توفر قواعد معلومات ضخمة للوظائف الشاغرة، يتم تحديثها يومياً، وتكون متاحة من خلال مواقع إنترنت متخصّصة أو دليل شهري يوزع بمقابل مادي رمزي على الباحثين عن العمل.

وكذلك توجيه وسائل الإعلام؛ من أجهزة مرئية ومسموعة وصحف ومجلات ومواقع إنترنت ومنابر المساجد، لتوضيح أن الحرفة عمل شريف لا تنتقص من قيمة العامل، بل تجعله يشعر بأنه إنسان له قيمة ووجود في الحياة ويسهم في بناء المجتمع.

*******************

خواطر اقتصادية من الهدي النبوي

عن عائشة رضي الله عنها، أن رجلاً اشترى عبداً فاستغله، ثم وجد به عيباً فرده، فقال: يا رسول الله، إنه قد استغلَّ غلامي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الخراج بالضمان» (رواه الترمذي وابن ماجة).

مصطلحات الحديث:

الخراج: هو الذي يخرج من ملك الإنسان؛ أي هو الفائدة التي تعود على المالك من ملكه، فالخراج: ما ينتج منه من النتاج، وما يغل من الغلات؛ كلبن الحيوان، ونتائجه، وبدل إجارة العقار، وغلال الأرَضين وما إليها من الأشياء، وفي الأشباه لابن نجيم: كل ما خرج من شيء فهو خراجه؛ فخراج الشجرة ثمرها، وخراج الحيوان دَرُّه ونسلُه.

الضمان: هو ضمان المتلف، أو ضمان المال ممن هو داخل في ملكه في حال تلفه أو تغيره بنقصان، فالضمان: هو تعويض عما أتلفه الإنسان، والخراج ضد الضمان، ففي الضمان تدفع، وفي الخراج تأخذ.

الدروس الاقتصادية في الحديث:

1- ما خرج من الشيء من عين ومنفعة وغلة، فهي للمشتري عوض ما كان عليه من ضمان الملك؛ فإنه لو تلف المَبِيع كان من ضمانه، فالغلة له؛ ليكون الغُنم في مقابلة الغُرم، ومن هنا استخلص الفقهاء قاعدة «الغُنم بالغُرم».

2- المال إذا صار مضموناً على المضارب ومن ثم تحمل مخاطره فإنه يستحق جميع ربحه، ويكون ذلك بمقابلة الضمان، خراجاً بضمان، ولذلك تستحق البنوك الإسلامية عائد الحسابات الجارية باعتبارها قرضاً مضموناً.

3- من اشترى سلعة ولم يقبضها لا يجوز له بيعها إلا بعد قبضها ودخولها في ضمانه، وهو ما يحول دون التداول الوهمي على السلع وارتفاع أثمانها بدون مقتضى قوى السوق الحقيقية من عرض وطلب.

4- لو رد المشتري سيارة مثلاً بخيار العيب، وكان قد استعملها مدة، لا تلزمه أجرتها؛ لأنه لو تلفت في يده قبل الرد لكانت من ماله، فمن يضمن شيئاً إذا تلف يكون نفع ذلك الشيء له في مقابلة ضمانه حال التلف، أما لو علم المشتري العيب ثم هلك المَبِيع يسقط خياره، ولا يحق له الرد.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) أستاذ التمويل والاقتصاد بجامعة إسطنبول صباح الدين زعيم ورئيس الأكاديمية الأوروبية للتمويل والاقتصاد الإسلامي

Exit mobile version