ليبيا.. ساحة نفوذ إقليمية جديدة لتركيا

على مدى تسعين عاماً منذ تأسيس الجمهورية الحديثة على أنقاض الدولة العثمانية، ظلت تركيا متجهة نحو الغرب ومهملة الشرق، وعلى الأخص جوارها القريب في العالمين العربي والإسلامي، على قاعدة عدم التدخل في النزاعات والأزمات الخارجية، والانكفاء على الداخل، في ظل شعار أتاتورك «سلام في الوطن، سلام في العالم».

مع وصول حزب العدالة والتنمية للحكم في تركيا عام 2002م، أعاد توجيه سياسة بلاده الخارجية نحو الاهتمام بالشرق على قاعدة التوازن والتنوع وليس الاستبدال، في ظل نظريات أحمد داود أوغلو –الذي بقي لسنوات طويلة الراسم لسياسات بلاده الخارجية– وفي مقدمتها العمق الاستراتيجي والقوة الناعمة وتصفير المشكلات مع دول الجوار.

إلا أن كل ذلك تغير جزئياً أولاً مع الثورات العربية عام 2011م حين تخلت أنقرة عن السياسات المتوازنة والمتحفظة وانخرطت في الأحداث والتطورات الدراماتيكية القائمة، ثم جذرياً لاحقاً مع الثورات المضادة في العالم العربي والمتغيرات الكبيرة في المنطقة، وابتداءً من عام 2013 حتى 2015م، ساهمت تطورات وتحديات كبيرة داخلياً وخارجياً في مراجعات مهمة في سياسة تركيا الخارجية، قامت على مبدأ «تكثير عدد الأصدقاء وتقليل عدد الخصوم» الذي رفعته حكومة بن علي يلدرم، خلَف داود أوغلو في رئاسة الحزب والحكومة.

التغيير الأهم

إلا أن ذلك لم يكن التغيير الأوحد، بل لعل التغير الأهم كان عمل تركيا على تعزيز قدراتها الذاتية لا سيما على صعيد التسلح والصناعات الدفاعية وانتهاجها القوة الخشنة بشكل تدريجي ومتزايد مع الوقت، وهو ما تبدى في القواعد العسكرية في أكثر من بلد؛ مثل قطر والصومال والعراق، وكذلك العمليات العسكرية خارج الحدود؛ مثل «درع الفرات»، و»غصن الزيتون»، و»نبع السلام» في سورية، وعدد من العمليات في العراق كان آخرها سلسلة عمليات «المخلب».

هذا الأمر الذي كان حكراً على سورية والعراق انتقل مع نهاية العام 2019م إلى ليبيا، البلد الذي بات محط اهتمام العالم تحديداً بسبب غناه بالنفط وتأثيره في ملف غاز شرق البحر الأبيض المتوسط، الذي وجدت تركيا أنها تُستبعد عنه بشكل مقصود وممنهج.

استغلت اليونان تطورات ما بعد الثورة الليبية وسقوط القذافي لتوسع حدودها البحرية ومنطقتها الاقتصادية على حساب ليبيا ودون التنسيق معها، كما أنشأت مع عدد من دول المنطقة -في مقدمتهم قبرص اليونانية ومصر إضافة للكيان الصهيوني- «منتدى غاز المتوسط»، الذي دعيت له أيضاً دول مثل فرنسا وإيطاليا وحتى الأردن والسلطة الوطنية الفلسطينية، بينما تم تجاهُل تركيا تماماً رغم أنها تملك الشواطئ الأطول على شرق المتوسط.

هذا البعد الحساس والمرتبط بأمن الطاقة بالنسبة لتركيا كدولة إقليمية صاعدة وطامحة، وفي الوقت نفسه مفتقرة لمواد الطاقة الخام، أضيف له بُعد التنافس الإقليمي في ليبيا، حيث يدعم المحور المنافس (الخصم لتركيا) الجنرال خليفة حفتر ضد حكومة فايز السراج المعترف بها من الأمم المتحدة وفق اتفاق الصخيرات؛ ما فتح لتركيا باب الانخراط في الأزمة الليبية من بوابة المصالح والاضطرار في آنٍ معاً.

وقَّعت أنقرة، مع نهايات العام الماضي، مع حكومة الوفاق الوطني اتفاقين مهمين؛ الأول مذكرة تفاهم بين الطرفين حول ترسيم الحدود البحرية بينهما، بما أعاد لكليهما مساحات كانت سلبت منهما بفعل التصرف أحادي الجانب من اليونان، التي كانت أقحمت أيضاً جزراً صغيرة تابعة لها كأطراف مستقلة لها مناطقها الاقتصادية الخاصة بها ما أدى لحشر تركيا –ذات السواحل الطويلة على المتوسط– في منطقة صغيرة جداً.

الاتفاق الثاني يختص بالتعاون العسكري والأمني بين البلدين، وقد تضمن -إضافة لمسارات التعاون العسكري والاستخباري والتدريب والتنسيق- إمكانية إرسال أنقرة قوات عسكرية للأراضي الليبية في حال طلبت الحكومة الليبية ذلك.

طلبت حكومة السراج رسمياً ذلك، وتجاوبت أنقرة معلنة على لسان الرئيس أردوغان بدء توجُّه قوات بلاده إلى الأراضي الليبية، وإن كان ذلك في البداية بأعداد قليلة جداً على هيئة شخصيات قيادية للتنسيق والتوجيه وليس قوات ميدانية مقاتلة بأعداد كبيرة.

استفاقة أوروبية

كانت الخطوة التركية المفاجئة، لا سيما إذا ما قورنت بتاريخ سياستها الخارجية المتحفظة، كفيلة بإشعال غضب أطراف عديدة كانت تأمل بأن يستطيع حفتر السيطرة على طرابلس وإسقاط حكومة السراج سريعاً فضلاً عن ثوران حفيظتها بسبب ملف الغاز، تناسى الكثيرون أن حفتر يهاجم طرابلس منذ أبريل الماضي، وأنه يحظى بدعم سياسي من أطراف إقليمية، وتقاتل معه مجموعات من المرتزقة والشركات الأمنية الخاصة، واعتبروا أن الخطوة التركية تساهم في إشعال الأوضاع الميدانية وإبطاء الحل السياسي.

الأهم ربما أن التحرك التركي أفاق الأطراف الأوروبية من سباتها، بالأحرى من مواقفها الغامضة والمكتفية تقريباً بالمراقبة، لتشهد المنطقة لقاءات واتصالات وتواصلات بين مختلف الأطراف، كما تحرك الاتحاد الأوروبي معلناً عن زيارة إلى طرابلس سيقوم بها وزراء خارجية الدول الأوروبية الأكثر تأثيراً والأقرب للملف الليبي؛ وهي فرنسا وإيطاليا وبريطانيا وألمانيا رفقة المنسق الأعلى للسياسة الخارجية والأمن في الاتحاد جوزيب بوريل، وهي الزيارة التي أجلت –عملياً ألغيت- في وقت لاحق.

ورغم التوقعات باحتمال حصول مواجهة تركية – روسية غير مباشرة في ليبيا في حال أرسلت تركيا قواتها إلى هناك بسبب مشاركة شركة «فاغنر» الروسية الخاصة بالقتال إلى جانب حفتر، توصل الرئيسان أردوغان، وبوتين إلى اتفاق قدَّما من خلاله دعوة مشتركة لوقف إطلاق النار في ليبيا، ودعا بوتين كلاً من السراج، وحفتر إلى موسكو للتوقيع، هدأ الميدان قليلاً، ووقّع السراج على الاتفاق، لكن حفتر تمنَّع وطلب مهملة للتفكير والتشاور في خطوة اعتبرها كثيرون ممطالة منه و/أو ضغطاً عليه من داعميه، و/أو رغبة أوروبية بعدم تسليم الملف كاملاً للثنائي الروسي – التركي.

ومما يؤكد هذا السياق الأخير أن مؤتمر برلين، الذي انتظر الجميع عقده لفترة طويلة دون طائل، قد حدد موعده الدقيق في نفس اليوم الذي اجتمع فيه الطرفان الليبيان المتنازعان في موسكو، في دلالة لا تخفى بخصوص التنافس على إدارة الملف.

الاتفاقان التركيان مع حكومة السراج، ثم الإعلان عن بدء إرسال القوات التركية، ثم التعاون مع روسيا لتوقيع اتفاق لوقف إطلاق النار فرضَا تركيا لاعباً أساسياً في الملف الليبي، فبات من المحتم حضورها مؤتمر برلين، وهو ما حصل، حيث قاد أردوغان وفد بلاده إليها، كما تحولت تركيا إلى مركز يجمع مختلف الفرقاء المهتمين بالملف الليبي من خلال الزيارات والاتصالات التي أجريت مع معظم هؤلاء.

دعا البيان الختامي لمؤتمر برلين إلى تثبيت وقف إطلاق النار، وحظر إرسال الأسلحة للفريقَيْن المتنازعين في ليبيا، والعمل على إيجاد آلية للرقابة عليهما، فضلاً على التأكيد على الحل السياسي ودعوة الأطراف الخارجية لعدم التدخل والضغط على اللاعبين المحليين للالتزام بوقف إطلاق النار.

بهذا المعنى تكون أنقرة قد حققت هدفها الأهم من الانخراط في الملف الليبي، ذلك أنها حددت مهمتها بشكل علني بدعم حكومة السراج لإحداث توازن في الميدان يدفع أكثر نحو التهدئة والحل السياسي، كما أنه معروف ضمناً أنها تتدخل لتمنع سقوط حكومة الوفاق الوطني؛ وبالتالي منع إلغاء مذكرة التفاهم بخصوص الحدود البحرية التي تضمن لها حقوقها في غاز المتوسط.

لا يعني ذلك أن الأزمة قد انتهت، وأن تركيا قد حققت تماماً كل ما تريد، فما زالت العقبات والتحديات كثيرة وصعبة، بدءاً بالتطورات الميدانية وليس انتهاءً بأدوار الفواعل الخارجية، لكن يمكن القول: إن أنقرة انتقلت لتصبح لاعباً رئيساً في ملف شائك مثل الليبي يحوز على اهتمام مختلف الأطراف الإقليمية والدولية، وتناكف هذه الأطراف بشكل ندِّيٍّ، مدافعة عن حقوقها في الغاز، وأنه لم يعد من السهل استبعادها أو تجاهلها في هذين الملفين بغض النظر عن مسارهما المستقبلي.

 

 

_____________________________________________________________

(*) محلل سياسي مختص بالشأن التركي.

Exit mobile version