المنطقة الآمنة.. التصور التركي والعقبات الماثلة

أعلنت تركيا هدفين رئيسين لعملية “نبع السلام” التي أطلقتها بالشمال السوري، في التاسع من أكتوبر الماضي؛ وهما إبعاد عناصر وحدات حماية الشعب (YPG) عن حدودها إلى عمق 30 كلم، وإنشاء منطقة آمنة لإعادة مليوني لاجئ سوري في المرحلة الأولى، وثلاثة ملايين منهم لاحقاً إليها.

التصور التركي للمنطقة الآمنة كان أن تشمل الأخيرةُ الحدودَ التركية – السورية بدءاً من عين العرب/ كوباني في الغرب، وحتى الحدود العراقية في الشرق، وبعمق 30 – 32 كلم داخل الأراضي السورية.

عولت تركيا على أن هذه المنطقة الواسعة -مضافاً لها منطقتا “درع الفرات” و”عفرين” اللتان تديرهما المعارضة السورية بالتعاون مع القوات التركية- يمكن أن تستقبل ذلك العدد من السوريين المقيمين على أراضيها، وكانت أنقرة قد أعلنت أنها أنهت تصورها للمنطقة الآمنة الذي يشمل إنشاء مدن وبلدات عديدة، وإعادة إعمار بعض ما تهدم منها، وتطوير البنية التحتية للمنطقة لتكون مؤهلة لذلك.

كان ذلك هو التصور التركي الأوليّ للمنطقة الآمنة التي يفترض بعملية “نبع السلام” أن تساهم في تأسيسها وإعلانها، لكن الوقائع والتطورات على الأرض كشفت عن فجوة هائلة بين التصور وإمكانية التنفيذ لعدة أسباب وعقبات مهمة.

ففي المقام الأول، تحتاج المنطقة الآمنة في الشمال السوري، وخصوصاً بالمواصفات المتصورة تركياً، إلى الدعم الدولي؛ قراراً وغطاءً وتمويلاً، وهو أمر يبدو متعسراً إلى حد بعيد وفق المعطيات الحالية؛ ذلك أن العملية التركية لم تحظَ بتأييد واسع على الساحة الدولية، بل كان حظها الشجب والتنديد من معظم الأطراف لا سيما الأوروبية، والتحفظ والتحذير من أطراف أخرى لا سيما الولايات المتحدة وروسيا، ولم يؤيدها ويدعمها إلا عدد قليل من الدول.

أكثر من ذلك، لا يحظى التصور التركي للمنطقة الآمنة بإجماع دولي كذلك، بل قدمت ألمانيا مثلاً تصوراً آخر لإدارة المنطقة الآمنة من خلال حلف شمال الأطلسي (ناتو)، لم يتم البت بالمقترح حتى اللحظة، وثمة شكوك كبيرة بإمكانية تحقيقه؛ حيث تملك روسيا تحديداً كل الرغبة والإمكانات لعرقلته، لكنه يبقى مؤشراً على افتقار الرؤية التركية للمنطقة الآمنة إلى الدعم الأوروبي بالحد الأدنى.

ثانياً: لن تكون تركيا قادرة على إنشاء المنطقة الآمنة على كل المساحة المعلن عنها؛ فالعملية توقفت عند المرحلة الأولى التي تمتد في عمق 32 كلم بين رأس العين وتل أبيض فقط، بفعل التفاهمات التركية – الأمريكية، والاتفاق التركي – الروسي حولها.

يعني ذلك أن المساحة التي تقع تحت نفوذ القوات التركية وقوات المعارضة السورية المنضوية تحت اسم “الجيش الوطني السوري” أقل بأضعاف مضاعفة من المخطط له مسبقاً، والمعلن عنه هدفاً للعملية، وهذا أمر له انعكاسه المباشر على الأعداد التي يمكن أن تستوعبها المنطقة في نهاية تنفيذها، في حال وجدت طريقها للتنفيذ فعلاً.

ثالثاً: ستتواجد القوات الروسية حتى عمق 30 كلم في المناطق إلى الشرق والغرب من منطقة عملية “نبع السلام”؛ أي إلى الشرق من رأس العين حتى الحدود العراقية، وإلى الغرب من تل أبيض وحتى عين العرب/ كوباني، إضافة لدوريات مشتركة لها مع حرس الحدود التابع للنظام السوري حتى عمق 10 كلم في تلك المناطق نفسها.

ومما لا شك فيه أن تواجد النظام والقوات الروسية في تلك المناطق الواسعة وعلى مقربة من منطقة عملية “نبع السلام” لن تجعلها منطقة “آمنة” بالنسبة لأغلبية السوريين الذين عانوا على مدى سنوات طويلة -وما زالوا- من عمليات القصف المستمرة للطرفين، خاصة مؤخراً في إدلب، وهذا تطور له ارتداداته بطبيعة الحال على عدد الراغبين بالعودة لتلك المنطقة في المستقبل القريب؛ ما يجعله بعيداً جداً عن الأرقام المرتفعة المعلنة تركياً.

رابعاً: ما زالت منطقة عملية “نبع السلام” نفسها بعيدة نسبياً عن إعلان هذه المنطقة منطقة آمنة، بسبب استمرار خروقات وحدات الحماية لتفاهمات تركيا مع كل من واشنطن وموسكو، بما يشمل عمليات تفجير وتفخيخ واشتباكات متقطعة بين الحين والآخر تستهدف المدنيين والعسكريين، على حد سواء.

هذه الاعتداءات بحد ذاتها -إضافة لما تفرضه من احتمال استئناف تركيا لعمليتها بذريعة عدم وفاء الأمريكيين والروس بالتزاماتهم، وهو احتمال ضئيل بطبيعة الحال- تشكل عقبات إضافية أمام عودة اللاجئين السوريين للمنطقة لا سيما بأعداد كبيرة كما ينبغي، خصوصاً أن المعلن تركياً أن العودة ستكون اختيارية طوعية، بعد تهيئة الظروف الملائمة لها.

غياب التقديرات

وعليه، يمكن القول: إن الرؤية التركية الطموحة للمنطقة الآمنة في الشمال السوري أعقد بكثير مما تبدو عليه، وأكبر كذلك من إمكانات أنقرة، لا سيما في المرحلة الحالية، وتقف أمامها عدة عقبات، بعضها سياسي والآخر عسكري ميداني؛ ذلك فضلاً عن غياب التقديرات الدقيقة لأعداد السوريين المقيمين على الأراضي التركية والمستعدين للعودة إلى الشمال السوري، بعد سنوات من العيش داخل تركيا وما ارتبطوا به من شبكات الدراسة والعمل والعلاقات وغيرها.

ولذا، فإنه من المستبعد جداً وفق المعطيات الحالية أن تستطيع تركيا إنشاء المنطقة الآمنة وفق تصورها الذي أعلنته، لا الآن ولا في المدى المنظور، فما زالت المنطقة التي تديرها صغيرة جداً بالمقارنة مع الرؤية الأولية، وكذلك بعيدة عن مفهوم “المنطقة الآمنة” فنياً ولوجستياً.

بناء على كل ما سبق، فإن المرجح هو عودة أعداد قليلة نسبياً من اللاجئين السوريين إلى المنطقة، وتحديداً من أهلها وسكانها السابقين قبل خروجهم أو تهجيرهم على أيدي وحدات الحماية، هذا السيناريو المرجح مطابق لما حصل في المنطقتين اللتين تشرف عليهما القوات التركية وعناصر المعارضة السورية بعد عمليتي “درع الفرات” و”غصن الزيتون”، حيث تقدر السلطات التركية أعداد العائدين إليهما حتى اللحظة بما يقارب 300 ألف شخص.

وقد أعلنت تركيا فعلاً عودة ما يقرب من 30 ألف سوري إلى منطقة عملية “نبع السلام”، حتى لحظة كتابة هذه السطور، وهو الرقم المرشح للارتفاع أكثر، ولكن ليس إلى درجة يمكن مقارنتها بالسقف التركي المعلن بخصوص المنطقة الآمنة والمقدر بمليون سوري في المرحلة الأولى، ثم رفعه تدريجياً إلى مليونين، ثم إلى ثلاثة ملايين.

Exit mobile version