قراءة تحليلية في نتائج الانتخابات التونسية

 

لم تكن نتائج الانتخابات الرئاسية التونسية صادمة لمراكز الدراسات واستطلاعات الرأي، لكنها كانت صادمة للقوى العلمانية والإسلامية التي كانت تحكم في تونس، إذ أن النتائج أسفرت عن هزيمة كبيرة لكل من شارك في السلطة بعد الثورة التونسية، السؤال لما هذا التقلب الحاد في مزاج الناخب التونسي؟ وما الرسالة التي أراد أن يرسلها الشعب التونسي للأحزاب والقوى السياسية؟ وما هي انعكاسات نتائج الانتخابات على حركة النهضة أكبر حركة سياسية إسلامية في تونس.

(1) في فهم البيئة التونسية:

تونس دولة من دول المغرب العربي متوسطة المساحة الجغرافية نسبياً تطل على البحر الأبيض المتوسط يشكل المسلمين أغلبية كبيرة فيها مع أقلية مسيحية وأقلية يهودية صغيرة جداً، بلد خرجت منها شرارة الربيع العربي في عام 2011م، وأسقطت نظام بوليسي حكم لأكثر من ثلاثين سنة، وبقيت محافظة على ثورتها في ظل مد الثورات المضادة وتقهقر الربيع العربي في معظم الأقطار العربية.

يبلغ عدد سكان تونس حوالي أحد عشر مليون نسمة، يمثل الشباب والذين تقل أعمارهم عن 29 سنة ما نسبته 55% من الشعب التونسي، تمتاز تونس بارتفاع نسبة التعليم وانخفاض نسبة الأمية إلى أدنى الدرجات عربياً، حيث يوجد لديها ثلاثة عشر جامعة ويلتحق بها أكثر من ثلاثمائة وخمسون ألف طالب وطالبة في التعليم الجامعي العالي.

ارتفعت نسبة البطالة بين التونسيين إلى 15%، كما بلغت نسبة الفقر – الذين لا يتجاوز دخلهم السنوي 600 دولار أمريكي – الى 12%، وإنخفض متوسط دخل الفرد السنوي إلى 4000 دولار أمريكي، كما بلغت نسبة العنوسة بين الذكور والإناث العازفين عن الزواج إلى نسبة قد تكون الأعلى على مستوى العالم إذ بلغت 80% بين فئات الشباب الذين لم تزد أعمارهم عن 30 عاماً كنتيجة طبيعية للظروف الاقتصادية الحرجة التي تعيشها البلاد.

(2) كيف صعد قيس سعيد ونبيل القروي ؟:

– قيس سعيد:
رجل قانون يبلغ من العمر 60 عاماً، وهو رجل قانون مخضرم وأستاذ في القانون الدولي، يسمى الآلة الميكانيكية أو الروبوت، أطلق عليه هذا الوصف كونه يتحدث باللغة العربية الفصيحة ويتكلم بذات الطبقة الصوتية بشكل متواصل، يوصف الرجل بانه جاء من العدم السياسي اذ لم يكن يعمل في السياسة ولم ينتم إلى أي حركة سياسية أو حزبية ولم يشارك في أي نضال سياسي طيلة العهد البورقيبي وعهد بن علي الأكثر استبداد ودكتاتورية والذين تسلموا الدولة بشكل متلاحق بعد رحيل الاستعمار.
كثيرة هي القراءات التي تفسر صعود قيس سعيد لكن أهم تلك القراءات وأكثرها إقناعاً نجملها في التالي :
• برنامج الرجل القانوني: والذي يؤصل للمطالبة بتعديل القوانيين الانتخابية وإعادة تشكيل الهياكل القانونية في الدولة فهو مؤمن بالانتقال من النظام المركزي إلى النظام اللامركزي في إدارة البلاد لتمكين الشعب من إدارة أقاليمه التي تضم 24 ولاية بما يناسب وضعها وظروفها وحاجاتها ومتطلباتها المعيشية وليصبح الشعب أكثر مشاركة في حكم نفسه وصناعة القرار الذي يعنيه.

• انتخابه جاء ردة فعل عقابية من القواعد الشعبية على أداء كل من شارك في الحكم في مرحلة ما بعد الثورة، حيث أنه استطاع فيما أثبتته أرقام شركة الاستطلاعات سيغما كونسايو والتي أفادت بأن 25% ممن صوتوا لسعيّد صوتوا سنة 2014م لنداء تونس العلماني، و15% صوتوا للنهضة التونسية الإسلامية، وأكثر من 30% من الناخبين الجدد الذين لم يصوتوا سابقاً، قيس سعيد سحب من الجمهور العلماني ضعف ما سحب من الجمهور الإسلامي.

• قدوم الرجل من العدم السياسي، قد تكون هذه الصفة أكثر ما أفاد قيس سعيد في ظل السخط الشعبي على الساسة وقيادة مرحلة ما بعد الثورة، رجل لم يعمل سياسياً وبالتالي لم يخطئ فدخل المعركة متخففاً من أي وزر وأخطاء سياسية سابقة خلافاً لمعظم المرشحين الذين كانوا جزء أصيل من مرحلة ما بعد الثورة فكان له نصيب من أصوات جماهير أخذت تبحث عن حلول من خارج الصندوق الانتخابي المعهود.

• انفتاح الرجل على جميع التيارات والمكونات السياسية فكان جزء من حملته الانتخابية رضا شهاب مكي اليساري أو ما يعرف “رضا لينين” من أبرز مؤسسين التيار الوطني الديمقراطي، وانضمام رضا بالحاج الناطق الإعلامي السابق لحزب التحرير الاسلامي للحملة الانتخابية لقيس سعيد، هذا التنوع الأيدلوجي وقدرة الرجل على جمع هذه المكونات المتناقضة في بوتقة واحدة كانت عامل إثراء كبير لحملته الانتخابية.

• رفع الرجل لواء محاربة الفساد والمنظومة القديمة والدولة العميقة والتي يعتقد الشعب التونسي أنها من أهم الأسباب في تردي وضعه الاقتصادي، فرفع شعار التخلص من تلك المنظومة التي تسللت إلى الجسم الثوري وأعادت إنتاج ذاتها من خلال تشكيل أكبر حزب سياسي “نداء تونس” قبل أن يتفتت إلى ستة أحزاب متناحرة، إلا أن الرجل لم يكن شعبوي في طرحه السياسي، ولم يقدم وعود وردية بعيدة عن الواقع، فالوعود لديه كانت تتسم بالواقعية ويركز على مكافحة الفساد المنظم وما أفرزه من طبقية اقتصادية ويؤصل قانونياً لإعادة هيكلة البناء السياسي للنظام التونسي والسير نحو اللامركزية.

• ظهور الرجل بمظهر الزاهد السياسي، فلا حملات انتخابية كبيرة ولا مصاريف إعلامية باهظة، رفض أخذ المخصصات التي تصرفها الدولة للمشاركين في الانتخابات الرئاسية، قليل الظهور الإعلامي والاعتماد على طرق التواصل المباشر مع الجمهور في المقاهي والشوارع والزقاق فكان بذلك أقرب لقلب الشارع التونسي الذي بدأت تسوء أحواله الاقتصادية بشكل ملحوظ ما بعد الثورة.

نبيل القروي:
نبيل القروي رجل أعمال تونسي بدأ حياته العمل في فرنسا كموظف تسويق ثم أخذ بتأسيس شركته (قروري قروي) في الدعاية والإعلان والإعلام، شركة حققت نجاحات في أكثر من دولة وتحولت خلال سنوات قليلة إلى شركة متعددة الجنسيات وأسس بعد ذلك قناة فضائية ” نسمة” قبل الثورة وحولها بعد الثورة الى قناة إخبارية، دخل الحياة السياسية بعد الثورة من خلال حزب نداء تونس فهو من أوائل من أسسوا حزب نداء تونس مع الراحل الباجي قائد السبسي لمواجهة النهضة في 2014م وكان قريب ومرافق للراحل، لكنه كان أيضاً جزء من الانشقاقات التي طالت حزب نداء تونس ليؤسس حزب قلب تونس بعد ذلك ويخوض الانتخابات باسم حزبه الجديد قلب تونس وينافس الزبيدي مرشح حزب نداء تونس.
نبيل القروي فقد ابنه الأكبر خالد في حادث عام 2016م ليؤسس جمعية خيرية أسماها جمعية خالد القروي والتي كانت واجهته للعمل الخيري واستطاع من خلالها النفوذ للعمل السياسي والذي إنعكس على إنحياز الطبقات الفقيرة لنبيل القروي وخاصة الناس الأكبر سناً.
كما كان لقرار- رئيس الحكومة الشاهد والخاسر في الانتخابات الرئاسية- تقديم نبيل القروي الى القضاء والزج به في السجن بتهمة غسيل الأموال في بداية الحملة الانتخابية الأثر الأكبر في جلب التعاطف معه باعتباره ضحية للصراع السياسي على الانتخابات الرئاسية.

(3) النهضة ما بعد الخسارة الانتخابية:

هي نتائج الصدمة الكبيرة لحركة النهضة، نتائج لم يكن يتوقعها أكثر المتشائمين من داخلها، إذ استطاع رجل قادم من وسط العدم السياسي أن يهزم أحزاب كبيرة وعريقة في الحياة السياسية، لكن ما هي آثار هذه النتيجة على حركة النهضة؟

بعيداً عن التفسير والتفكير الرغايبي الذي يقدمه أتباع الإسلام السياسي المشرقي بالترويج إلى أن النتيجة الانتخابية جاءت عقاب من الناخب التونسي للنهضة لتخليها عن لونها الإسلامي التقليدي أو الفاقع ومغادرتها مربع الإسلام السياسي إلى مربع الإسلام الديمقراطي فهذا تفسير يبدو أنه لا يوجد إلا في العقلية المشرقية الإسلامية في تفسير الحدث ولا يعززه أو يدعمه شيء على أرض الواقع.

دائما تقول الأحداث السياسية أن الصدمات الانتخابية تفكك التنظيمات الهرمية القوية والمتماسكة، وأن صدمة الهزيمة تفرغ طاقتها السلبية في المفاصل التنظيمية، وهذا بالفعل ما حدث خلال اليومين من خلال تقديم أكثر من استقالة في حزب النهضة احتجاجاً على إدارة المشهد النهضاوي الداخلي والتحالفات الانتخابية وتكتيكاتها التي أدت للفشل.

الشيخ راشد بدأ أكثر اهتماماً باستعادة الحديث عن الخط الثوري فألمح بشكل واضح إلى أن النهضة لن تقف على الحياد في الجولة الثانية وأنها سوف تقف إلى جانب الخط الثوري إشارة إلى قيس سعيد، وفي ذلك قراءة سريعة إلى أن من كان يسعى للتوافق معهم لم يعودوا أقوياء على الأرض وأن هناك قوى أخرى غير منظمة بدأت تظهر في الساحة يمكن التعاون معها وتأسيس التشارك معها في المرحلة القادمة على أسس الخط الثوري بعد أن اشتد ساعد الثورة وصلب عودها كما أظهرت النتائج.

يدرك قادة النهضة أن الحركة بدأت تتراجع انتخابياً بشكل متدرج من بعد انتخابات 2011 حيث أنها حصلت على كتلة تصويتية حينها بلغت 1.4 مليون صوت لتصل إلى اقل من 450 الف صوت في الانتخابات الرئاسية الأخيرة بتراجع متدرج بلغ 68% من كتلتها التصويتية، هذا التراجع يفسره شيء واحد أن النهضة دفعت كثيراً من شعبيتها الانتخابية في تقاربها مع المنظومة القديمة وتحقيق التوافقات التي أنقذت الحياة السياسية التونسية من الثورات المضادة، الشيخ راشد كان يدرك ذلك فقال خسرنا السلطة وكسبنا تونس، النهضة تدرك أنها ذهبت كبش فداء شعبي لحماية الثورة والتي لولا تقاربها مع المنظومة القديمة ما كانت الحياة السياسية التونسية بهذا الشكل ولعاد النظام القديم بالقوة كما حصل في مصر وبلاد الثورات المضادة ودخلت البلاد في أتون نفق الاستبداد والقمع والتنكيل أو الحروب الأهلية.

إستطلاعات الرأي السابقة قبل ظهور نتائج الانتخابات الرئاسية كانت تضع حركة النهضة في المقدمة على باقي الكتل والتجمعات الانتخابية، لكن النهضة تدرك اليوم أن الخارطة الانتخابية قد تنقلب بشكل كبير بعد نتائج الانتخابات الرئاسية، وأن حظوظ قوائم حزب قلب تونس حزب نبيل القروي قد تتعزز بدافعية فوز القروي وحلوله ثانياً في الجولة الأولى للانتخابات الرئاسية، حيث أن استطلاعات رأي سابقا كانت تعطي قوائمه 15% من أصوات الناخبين بفارق عشر نقاط أو أكثر خلف النهضة التي تتصدر المرتبة الأولى.

النهضة ستكون حريصة كل الحرص على الانتخابات التشريعية حيث أن 85% من السلطات التنفيذية هي بيد الحكومة المنتخبة من البرلمان وأن الثقل السياسي الحقيقي بيد السلطة التشريعية، تعلم النهضة أيضاً أن استطلاعات الرأي لا تعطيها الأغلبية للفوز بالانتخابات التشريعية وتشكيل حكومة في ظل كثرة القوائم الانتخابية، وما ألقته ظلال هزيمة مورو في الانتخابات الرئاسية عليها من أثر سلبي.

النهضة اليوم قد تكون كالأسد الجريح الذي يريد أن يستجمع قواه ويسابق الزمن للمحافظة على ذات المقاعد التي حققها في تشريعية انتخابات 2014م ليكون شريك في صنع القرار لقيادة مجلس النواب والحكومة وليبعد خيار الانتخابات البرلمانية المبكرة نتيجة لفرز برلمان معلق.

في ظل انهيار المنظومة القديمة في الانتخابات الرئاسية واندحار الأحزاب الكبيرة وشبه تبخرها شعبياً، تدرك نهضة تونس أن المسؤولية أصبحت ملقاة على عاتقها أكثر في بذل المزيد من أجل استعادة زمام المبادرة حتى لا تذهب السلطة إلى العدم السياسي الذي طل برأسه في الانتخابات الرئاسية وتخشى أن يطل برأسه في الانتخابات التشريعية مما يهدد الحياة الديمقراطية الوليدة لعدم الخبرة والتي ضحت من أجلها النهضة بالسلطة والغالي والنفيس من تماسكها الداخلي وشعبيتها التصويتة لبقاء مركب الثورة يعب الفجاج في ظل بحر لجي متلاطم من الثورات المضادة.

Exit mobile version