وداع أرطغرل.. واستقبال عثمان

بالحلقة الخمسين بعد المائة التي أذيعت أواخر مايو 2019م، انتهى مسلسل “قيامة أرطغرل” الذي ملأ الفضائيات وشغل الناس على مدى خمس سنوات، وشاهده نحو ثلاثة مليارات نسمة في خمس وثمانين دولة على امتداد العالم، وحمل رسائل مهمة إلى العالم الإسلامي وغير الإسلامي.

في البداية طالع المشاهدون المسلسل وهم يظنونه مسلسلاً تاريخياً عادياً سيملّونه بعد حلقتين أو ثلاث، ولكنهم استمرّوا معه خمسة مواسم، يشاهدون في كل موسم ثلاثين حلقة، كل حلقة في ساعتين أو أكثر، ويصمدون أمام الشاشات أو “اليوتيوب” ليتابعوا الأحداث الشائقة، والأداء المبهر، واللغة الجديدة التي افتقدوها في مسلسلات الأشاوس والنشامى حيث تمتلئ بالغثّ والمبتذل، والشتائم والسطحية والعري، والنماذج الشائهة، والتقليد الأعمى لمسلسلات الغرب.. ثم وهو الأخطر تشويه الإسلام وتنفير المشاهدين منه، وتقديمه في صورة مقزّزة ومتوحشة ومعادية للإنسانية والفطرة البشرية!

أيضاً فقد درج العلمانيون الأتراك على تقديم مسلسلات لا علاقة لها بتركيا العثمانية الإسلامية، إنها تقدم تركيا التغريب ورفض الإسلام واللغة العربية والاندماج في المجتمع الغربي بسلبياته وموبقاته، دون التفات إلى إيجابياته ومحاسنه.

وللأسف فقد قدموا التاريخ العثماني مشوّهاً، وبائساً، ومتخلّفاً كما حدث بالنسبة لمسلسل السلطان سليمان القانوني الذي عرض تحت اسم “القرن العظيم”، وعرفه العرب باسم “حريم السلطان”، فقد صوّروا السلطان سليمان في صورة الخليفة المشغول بالنساء، والغارق في الملذات والشهوات، وذهب خيال كاتبة المسلسل العلمانية إلى تشويه الرجل الذي قاد أقوى دولة في زمنها، وتسيّد العالم أرضاً وبحراً، فتحول لدى العلمانيين إلى صورة مبتذلة يحتفي بها الإعلام العربي الفاسد الموجه، وصار العرب وغيرهم ينشغلون بتاريخ مزيف صنعه معادون للإسلام، موالون للغرب.

لقد ذكّر أردوغان ذات يوم حكام أوروبا وعلى رأسهم الرئيس الفرنسي نيكولاي ساركوزي في مناسبة اجتماع لهم؛ بقيمة السلطان سليمان القانوني، حين أهداهم رسالة استغاثة وطلب العون بعثها ملك فرنسا فرنسيس الأول للسلطان سليمان عندما وقع أسيراً في يد الإسبان، فطمأنه السلطان ووعده بنجدته وخاطبه قائلاً: “أنا سلطان السلاطين وبرهان الخواقين، أنا متوّج الملوك، ظلّ الله في الأرضيين، أنا سلطان البحر الأبيض والبحر الأسود والبحر الأحمر..”، ولكن الكاتبة العلمانية التي كتبت حريم السلطان لم تعلم بذلك وجعلت سليمان القانوني زير نساء!

لقد استاء الأتراك الطيبون من تشويه سلطانهم القوي العادل الذي لقب بـ”القانوني”، وقدموا عشرات الشكاوى لمن يعنيهم الأمر، وعبّر أردوغان عن غضبه من المسلسل وصانعيه، ولكن الرد العملي كان تقديم التاريخ العثماني في صورته الحقيقية الأصيلة، التي شوهها المغرضون والمعادون للوحدة الإسلامية.. فرأينا مجموعة من المسلسلات الطويلة المهمة التي صاغت التاريخ العثماني في عصور مختلفة: “أرطغرل”، “السلطان عبدالحميد”، “كوت العمارة”.. من خلال قصص فنية شائقة، وإخراج متقن، وتمثيل فائق، وتصوير رائع.

حظي مسلسل “قيامة أرطغرل” باهتمام كبير لأنه وجه رسالة متعددة الأغراض إلى الداخل التركي والعالم الإسلامي، لعل أهمها: مقاومة الغزاة المعتدين مهما كانت قوتهم إيماناً بالحق وطلباً للشهادة، تطهير الصفوف من الخونة والمنافقين، الوقوف بجانب المظلومين وإقامة العدل، العمل على وحدة المسلمين والتعاون فيما بينهم.. وكل ذلك في إطار القيم الإسلامية التي ترفض الظلم والبغي والعدوان، ولا تفرط في الحقوق والواجبات، وتسعى لتقديم الرحمة والعطف، ومنح المخالفين بل الأعداء فرصة التحول إلى الصواب من خلال التعرف على الإسلام وقواعده وقيمه من خلال الوفاء بالعهود والالتزام بالاتفاقيات والمعاهدات، وعدم التمييز بين رعاياهم أياً كانت معتقداتهم ومذاهبهم، وكان هناك دائماً عالم الدين الذي يشرح قواعد الإسلام والسيرة النبوية ويحث على بناء العقل الوجداني بالعلم والمعرفة وتقوية الشعور بحب الله والإخلاص والشهادة، ويأتي في سياق فني يلتحم بالعمل الفني دون افتعال أو تكلف.

مع أن أرطغرل كان بطل المسلسل، فإنه يمكن القول: إن فريق التمثيل حقق نوعاً من البطولة الجماعية التي تصور مجتمعاً إسلامياً متكاملاً يتحرك فيه بشر يصيبون ويخطئون، ويحظى المصيب بالتقدير، والمخطئ بالتصويب، والنفوس البشرية في المسلسل ليست ملائكية، أو محصنة، ولكنها تبدع وتقوى غالباً، وتضعف وتتهاوى أحياناً فيقومها المجتمع أو يقف إلى جانبها حتى تعود سيرتها الأولى.

إن المجتمع الذي تمثله القبيلة التي ينتسب إليها أرطغرل (القايي)، يتشارك المسرات والأحزان، ويرتفع بجهاده، ويسقط بفعل العدوان عليه والغدر به من جانب الخونة أو المعتدين، ولكنه ينهض مرة أخرى، ويقاوم، ويستعيد مكانته من جديد.

لقد عالج المسلسل الخيانات -وما أكثرها في زماننا بين العرب والمسلمين- وتخطيط الأعداء من الصليبيين والمغول، وشراء الخونة والجواسيس من أقرب المقربين إلى القادة، وهؤلاء كانوا يتسببون عادة في انهيارات وانكسارات تعصف بالمسلمين، وتقهرهم، ومع أن المخ المعادي كان يعمل ويخطط بذكاء وينفق الذهب بسخاء على العملاء، فإن أرطغرل وصحبه كانوا يواجهون مخططات الأعداء بالعمل والعقل والتدبير المحكم لاصطياد الخونة وكشفهم ومعاقبتهم.

بعض السذج يرون أن معاقبة الخونة تحريض من المسلسل على الشقاق وهز أركان المجتمع، وهدم الدولة!

كانت المرأة في مجتمع “القايي” مثالاً للمرأة الفاعلة المنتجة المقاتلة التي تشارك بالرأي والفكر، بل القيادة في بعض الأحيان، وهي قيادة تتسم بالحكمة والحنكة والصواب.

وهي في كل ذلك محتشمة غير مبتذلة، وللأسف فإن بعض ضيقي الأفق يتهمون المرأة في المسلسل بالسفور والتبرج وعدم الالتزام، ويرتبون على ذلك تحريم مشاهدته، وقد توالت فتاوى عديدة ذات هوى لتحريم المسلسل، معتمدة على أسانيد واهية، كأن يتهمونه بالدعوة إلى الصوفية الباطنية، أو اختلاق وقائع لم تحدث، وهذه أحكام مغرضة تداري العجز الذي تعيشه بعض الجهات التي أخفقت في تقديم أعمال محترمة تشد الجماهير، وتغزوها بالفكر الناضج والتصورات الظافرة.

أياً كانت المآخذ الفنية القليلة على المسلسل، فهي لا تقلل من قيمته التي تجعله تحفة فنية ناعمة صارت -كما وصفها بعضهم- حديث العرب والعجم، وأثرت في كثير من غير المسلمين وجعلتهم يغيرون الصورة السلبية المرسومة في أذهانهم عن الإسلام.

ويكفي المسلسل إيجابية أن المشاهد شنفت أذنيه وأمتعت عينيه آيات القرآن الكريم والأحاديث الشريفة، ومنظر الصلوات الفردية وصلاة الجماعة وخطبة الجمعة، وتلاوة القرآن في أكثر من مكان بتلقائية وعفوية، وهو ما تخلو منه مسلسلات بني جلدتنا الهابطة.. بل إن ختام المسلسل عرف تلاوة جميلة لجزء من سورة الفتح يعبر عن انتصار المسلمين حين يعتصمون بحبل الله، ويعملون بدأب وإصرار حد الشهادة لنصرة الدين الحنيف، وإقامة دولة العدل ونصرة المظلوم.

لقد ودع المشاهدون أرطغرل ليستقبلوا بعد شهور مسلسلاً مكملاً، هو “قيامة عثمان”، ابن أرطغرل حيث تنهض دولة بني عثمان قوية شابة في السنة ذاتها التي سقطت فيها بغداد تحت أقدام المغول (656هـ)، ويمارس التاريخ لعبته في الوقوف إلى جانب من يأخذون بالأسباب مع الإيمان، والتخلي عن أهل الأنانية، والتفرق والتشرذم، والولاء لغير الله!

لقد استحق كاتب المسلسل ومخرجه إشادة من المشاهدين والنقاد ومحبي الإسلام، وهو الذي بذل جهداً كبيراً في تقديم عمل يشهد له يوم القيامة، خدمة للإسلام والمسلمين.

Exit mobile version