الاقتصاد.. والصحة النفسية

ترى منظمة الصحة العالمية أن الصحة النفسية جزء أساسي لا يتجزّأ من الصحة، وفي هذا الإطار ينص دستورها على أنّ «الصحة هي حالة من اكتمال السلامة بدنياً وعقلياً واجتماعياً، لا مجرّد انعدام المرض أو العجز»؛ فالصحة النفسية ليست مجرّد غياب الاضطرابات النفسية، بل هي حالة من العافية يستطيع فيها كل فرد إدراك إمكاناته الخاصة والتكيّف مع حالات التوتّر العادية، والعمل بشكل منتج ومفيد، والإسهام في مجتمعه المحلي.

أبرزت منظمة الصحة العالمية محدّدات الصحة النفسية من خلال عوامل اجتماعية ونفسية وبيولوجية متعددة يرجع إليها الدور الرئيس في تحديد مستوى صحة الفرد النفسية في مرحلة ما. وذكرت مثالاً على ذلك بالضغوط الاقتصادية، حيث تعد من المخاطر التي تحدق بالصحة النفسية للأفراد والمجتمعات المحلية، وفي مقدمة ذلك ما تعكسه مؤشرات الفقر، وما يتعرض له الأفراد من ظروف العمل المجهدة.

وقد أظهرت دراسة لمنظمة الصحة العالمية بالتعاون مع البنك الدولي نشرتها “المجلة الطبية الدولية” (لانسيت) للطب النفسي في جنيف، أنه في حالات الطوارئ يتأثر واحد من كل خمسة أشخاص بالاكتئاب والقلق، وأن الاكتئاب واضطرابات القلق يكلفان الاقتصاد العالمي تريليون دولار سنوياً. 

كما أشارت الدراسة إلى وجود ارتباط بين الصحة النفسية والاقتصاد، وأن كلاً من الصحة والاقتصاد يستفيدان من الاستثمار في العلاج النفسي للأمراض العقلية الأكثر شيوعاً على مستوى العالم، فعلاج الاكتئاب والقلق يخلق شعوراً جيداً بالصحة والرفاهية، وهذا قرار سليم من الجانب الاقتصادي، وكل دولار يُستثمر في توسيع نطاق علاج الاكتئاب والقلق يعود بأربعة دولارات على جودة الصحة والقدرة على العمل، وذلك سبب تحسن حالة المريض الصحية وارتفاع قدرته على العمل.

وحذرت الدراسة من أن عدم إيجاد حلول سريعة وفاعلة لهذا الواقع سيكلف 12 مليار يوم عمل (50 مليون سنة)؛ بسبب الأمراض العقلية عام 2030م، وبحسب معطيات الدراسة؛ فإن الكثير من الدول تحجم عن الإنفاق على المرضى النفسيين بشكل كاف، إذ تستخدم حكومات عدة 3% فقط من متوسط إجمالي الميزانية المخصصة للصحة لديها لمصلحة علاج هذه النوعية من الأمراض.

ارتباط وثيق

إنه مما لا شك فيه أن هناك ارتباطاً وثيقاً بين الصحة النفسية والاقتصاد، حتى يمكن القول: إن إنتاجية الفرد تتناسب طردياً مع صحته النفسية، فكلما ارتفعت الصحة النفسية للفرد ارتفعت إنتاجيته، والعكس صحيح، وهو ما يندرج تأثيره إيجاباً أو سلباً على الاقتصاد بحسب الأحوال.

كما أن معاناة المجتمع من البطالة والفقر تمثل عاملاً رئيساً في الإصابة بالأمراض النفسية واضطراباتها التي يمثل استمرارها عجز الفرد عن بلوغ إنتاجيته المأمولة نوعاً وكماً، وهو الأمر الذي يعرض المجتمع إلى خسارة اقتصادية تستنزف الاقتصاد من ناحيتين؛ الأولى: انخفاض إنتاجية الفرد بل وانعدامها، والثانية: ما يتكبده الفرد والدولة من علاج نفسي، وهو ما يجعل المجتمع يتحمل أعباء مالية إضافية، وهو ما يزيد من ارتفاع فاتورة الخسائر الاقتصادية.

إن تدهور الصحة النفسية للفرد إذا كانت تؤثر سلباً على الاقتصاد فإنها من ناحية أخرى تدفع بالفرد إلى المزيد من التدهور النفسي، وهو ما يندرج سلباً على الاقتصاد مرة أخرى، حيث إن تدهور صحة الفرد النفسية ستضعف من قدرة الفرد على العمل وحسن متابعته، ومن ثم سيترتب على ذلك ضعف مواظبته على الحضور، بل وربما فقدان عمله، ووقوعه فريسة الفاقة والحاجة، ويفتقد المجتمع لإنتاجيته وعناصر نموه وإنتاجه، وفي الوقت نفسه تزداد حالة الفرد النفسية سوءاً نتيجة هذا العوز والحاجة.

الإسلام.. والصحة النفسية

والناظر إلى المنهج الاقتصادي الإسلامي يجد حرصه على تحقيق الصحة النفسية للفرد؛ فقوام هذا المنهج الموازنة بين الجوانب المادية والمعنوية؛ ﴿فَلۡيَعۡبُدُواْ رَبَّ هَٰذَا ٱلۡبَيۡتِ ٣ ٱلَّذِيٓ أَطۡعَمَهُم مِّن جُوعٖ وَءَامَنَهُم مِّنۡ خَوۡفِۢ ٤﴾ (قريش)، وقد ربط الله تعالى المسلم بذكره حتى يطمئن قلبه وتتحقق له السكينة النفسية؛ ﴿ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَطۡمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكۡرِ ٱللَّهِۗ أَلَا بِذِكۡرِ ٱللَّهِ تَطۡمَئِنُّ ٱلۡقُلُوبُ ٢٨﴾ (الرعد)، ﴿هُوَ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ لِيَزۡدَادُوٓاْ إِيمَٰنٗا مَّعَ إِيمَٰنِهِمۡۗ﴾ (الفتح: 4)، وجعل اتباع هداه من عوامل الراحة النفسية؛ ﴿فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ ٣٨﴾ (البقرة).

كما فرض على المسلم خمس صلوات في اليوم تحقق له الأمن النفسي وتزيح همه وغمه، كما جعل الإيمان بالله واليوم الآخر والقدر خيره وشره حلوه ومره عاملاً للاستقرار النفسي، فإذا كان الأخذ بالأسباب واجباً، فإن النتيجة مهما كان وضعها فهي خير لصاحبها؛ ﴿ وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ  وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ٢١٦﴾ (البقرة)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: “عجباً لأمر المؤمن؛ إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له” (رواه مسلم)، وهو في كل أحواله يستمد قوته من إيمانه بربه والتسليم لأمره واللجوء إليه؛ “احفَظِ اللَّهَ يَحفَظكَ، احفَظِ اللَّهَ تَجِدهُ تُجاهَكَ، إذَا سَألتَ فاسألِ اللَّهَ، وَإِذَا استَعَنتَ فاستَعِن باللَّهِ، وَاعلَم أنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجتَمَعَت على أن يَنفَعُوكَ بِشَيءٍ، لَم يَنفَعُوكَ إِلاَّ بِشَيءٍ، قَد كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَإِنِ اجتَمَعُوا على أن يَضُرُوكَ بِشَيءٍ، لَم يَضُرُوكَ إِلا بِشَيءٍ، قد كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيكَ، رُفِعَتِ الأقلامُ وَجَفَّتِ الصحُفُ” (رواه الترمذي).

فالله تعالى قريب منه؛ ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌۖ أُجِيبُ دَعۡوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِۖ فَلۡيَسۡتَجِيبُواْ لِي وَلۡيُؤۡمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمۡ يَرۡشُدُونَ ١٨٦﴾ (البقرة)، ومن ثم لا يعرف لليأس سبيلاً؛ ﴿وَلَا تَاْيۡسُواْ مِن رَّوۡحِ ٱللَّهِۖ إِنَّهُۥ لَا يَاْيۡئسُ مِن رَّوۡحِ ٱللَّهِ إِلَّا ٱلۡقَوۡمُ ٱلۡكَٰفِرُونَ ٨٧﴾ (يوسف)، كما أن تعامله مع مجتمعه قائم على التعاون والتسامح والتراحم؛ ﴿وَلَا تَسۡتَوِي ٱلۡحَسَنَةُ وَلَا ٱلسَّيِّئَةُۚ ٱدۡفَعۡ بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ فَإِذَا ٱلَّذِي بَيۡنَكَ وَبَيۡنَهُۥ عَدَٰوَةٞ كَأَنَّهُۥ وَلِيٌّ حَمِيمٞ ٣٤ وَمَا يُلَقَّىٰهَآ إِلَّا ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّىٰهَآ إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٖ ٣٥﴾ (فصلت)، وكل ذلك يحقق له في حياته اليومية استقراراً نفسياً.

وختاماً، فإن الصحة النفسية لا تقل أهمية عن الصحة البدنية؛ فهما وجهان متكاملان، ومن ثم تبدو أهمية سعي الدول الإسلامية لتعزيز الصحة النفسية من خلال التكريم الذي ميز به الله تعالى الإنسان، ذلك التكريم الذي يتطلب تهيئة الظروف المعيشية والبيئية المناسبة لاعتماد أنماط حياة صحية والحفاظ عليها من خلال حماية الحقوق الإسلامية المدنية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية للفرد، ودمج مسألة تعزيز الصحة النفسية في السياسات والبرامج الحكومية لا سيما في قطاعات الصحة والتعليم، مع تعزيز دور مؤسسات المجتمع وتكاملها مع مؤسسات الدولة لتحقيق الصحة النفسية في المجتمع.

(*) أستاذ التمويل والاقتصاد بجامعة إسطنبول صباح الدين زعيم

Exit mobile version