حسن البنا.. ورؤيته في البناء الاقتصادي

يشهد هذا الشهر (فبراير) وبالتحديد في الثاني عشر منه مرور 70 عاماً على استشهاد الأستاذ حسن البنا، حيث طرح رؤيته الشاملة للإسلام التي ترتكز على بناء الإنسان اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً.. فقد كان البنا دقيقاً (في رسالة التعاليم) حينما وصف الإسلام بأنه: «نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعاً؛ فهو دولة ووطن أو حكومة وأمة، وهو خلق وقوة أو رحمة وعدالة، وهو ثقافة وقانون أو علم وقضاء، وهو مادة أو كسب وغنى، وهو جهاد ودعوة أو جيش وفكرة، كما هو عقيدة صادقة وعبادة صحيحة سواء بسواء»؛ فجعل من شمولية النظام الإسلامي ما يحتويه من نظام اقتصادي وما يتضمنه هذا النظام من مادة أو كسب وغنى.

وصف الأستاذ البنا (في رسالة المؤتمر الخامس) جماعة الإخوان المسلمين بأنها «شركة اقتصادية»، وذكر في تبريره لهذا الوصف بأن الإسلام يعنى بتدبير المال وكسبه من وجهه، وهو الذي يقول نبيه صلى الله عليه وسلم: «نعم المال الصالح للرجل الصالح» (رواه أحمد)، ويقول: «من أمسى كالاً من عمل يده أمسى مغفوراً له» (رواه الطبراني)، وقال: «إن الله يحب المؤمن المحترف» (رواه الطبراني).

فالاقتصاد جزء أساسي من الرؤية الشاملة التي تميز بها حسن البنا سواء تعلق هذا بالبناء الاقتصادي لجماعة الإخوان التي أسسها عام 1928م أو إصلاح المجتمع المصري اقتصادياً؛ حيث حرص على بناء الإنسان الاقتصادي الصالح، وبناء المؤسسات، فضلاً عن توجيه النصح بصورة قوامها ربط التنظير بالتطبيق لتحقيق الإصلاح الاقتصادي للدولة.

بناء الإنسان الاقتصادي

فقد ظهرت رؤيته في البناء الاقتصادي عند البنا من خلال حرصه على بناء الإنسان الاقتصادي الصالح باعتباره هو الذي يصنع الثروة، ولا تصنعه الثروة، وقد بين ذلك بوضوح في رسالة «التعاليم»، حيث جعل نحو ربع واجبات الأخ العامل (التي يبلغ إجمالها 38 واجباً) واجبات اقتصادية، ممثلة فيما يلي:

1- أن يزاول عملاً اقتصادياً مهما كان غنياً، وأن يقدم العمل الحر مهما كان ضئيلاً، وأن يزج بنفسه فيه مهما كانت مواهبه العملية.

2– ألا يحرص على الوظيفة الحكومية، وأن يعتبرها أضيق أبواب الرزق، ولا يرفضها إذا أتيحت له، ولا يتخلَّ عنها إلا إذا تعارضت تعارضاً تاماً مع واجبات الدعوة.

3– أن يحرص كل الحرص على أداء مهنته من حيث الإجادة والإتقان وعدم الغش وضبط الموعد.

4- أن يكون حسن التقاضي لحقّه، وأن يؤدي حقوق الناس كاملة غير منقوصة بدون طلب، ولا يماطل أبداً.

5– أن يبتعد عن الميسر بكل أنواعه مهما كان المقصد من ورائها، ويتجنب وسائل الكسب الحرام مهما كان وراءها من ربح عاجل.

6– أن يبتعد عن الربا في جميع المعاملات وأن يطهر منه تماماً.

7– أن يخدم الثروة الإسلامية العامة بتشجيع المصنوعات والمنشآت الاقتصادية الإسلامية، وأن يحرص على القرش (المال)؛ فلا يقع في يد غير إسلامية مهما كانت الأحوال، ولا يلبس ولا يأكل إلا من صنع وطنه الإسلامي.

8– أن يشترك في الدعوة بجزء من ماله، ويؤدي الزكاة الواجبة فيه، وأن يجعل منه حقاً معلوماً للسائل والمحروم مهما كان دخله ضئيلاً.

9– أن يدخر للطوارئ جزءاً من دخله مهما قل، وألا يتورط في الكماليات أبداً.

بناء المؤسسات

ولم تقف كلمات البنا عند الإرشاد، بل إلى صورة عملية في تحويل ما يؤمن به نظرياً إلى واقع عملي في الميدان الاقتصادي من خلال بناء المؤسسات، وقد اعتمد البنا في بناء مؤسسات جماعة الإخوان المسلمين على أموال الجماعة لقيامها بنشاطها وتحقيق أهدافها، وتناول ذلك تفصيلاً في رسالة «هل نحن قوم عمليون؟»، حيث تناول مشاريعها ومؤسساتها العامة النافعة؛ من مساجد، ومدارس، ولجان خير وبر، ودروس ومحاضرات وخطب وعظات، ولجان متطوعة للإشراف على المرافق العامة في القرى من ترميم المساجد وتنظيف الشوارع وإضاءة الطرقات والسعي في إيجاد المشافي المتنقلة، ولجان إحياء السنن والفرائض التي نسيها الناس بالعمل لا بالقول؛ كجمع زكاة الحبوب في مخزن خاص وتوزيعها بمعرفة الجماعة على المستحقين دون محاباة ولا تحيز.

كما قدم نموذجاً عملياً للاستثمار الإسلامي بعيداً عن الربا، بإقامة مشروعات استثمارية في مجالات متعددة، ومن أهم هذه المشروعات شركة المعاملات الإسلامية، والشركة العربية للمناجم والمحاجر، وشركة الغزل والنسيج، وشركة الإخوان للصحافة، وشركة الإخوان للطباعة، وشركة التجارة والأشغال الهندسية، وشركة التوكيلات التجارية، وشركة الإعلانات العربية.

ولم يقتصر إنشاء الشركات على شركات الجماعة، بل انتشرت الشركات التي يملكها أعضاء جماعة الإخوان في كافة أنحاء مصر، وقد تعرضت كل هذه الشركات للمصادرة الحكومية بعد حل الجماعة، وتم إجهاض نهضة اقتصادية ملموسة قدرت أصولها وقت صدور الأمر العسكري رقم (63 لسنة 1948م) بحـل جماعة الإخوان بنحو 60 مليون جنيه مصري، وهو ما يتجاوز مبلغ 4 مليارات جنيه مصري بالأسعار الحالية.

الإصلاح الاقتصادي للدول

توجه البنا برؤيته الشاملة المعهودة بالنصح والإرشاد لإصلاح الدولة اقتصادياً حتى لا تظل أسيرة لغيرها وتلبي حاجتها وتمتلك كلمتها، فذكر في رسالة «مشكلاتنا الداخلية في ضوء النظام الإسلامي.. النظام الاقتصادي» حتمية الإصلاح السياسي لتحقيق الإصلاح الاقتصادي، باعتبار أن الأول أصل وما عداه تابع له، مستشهداً بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب» (متفق عليه)؛ حيث أكد أن الحكومة هي قلب الإصلاح الاجتماعي كله، فإذا فسدت أوضاعها فسد الأمر كله، وإذا صلحت صلح الأمر كله.

وكشف عن المعضلات الاقتصادية الثلاث بمصر؛ ممثلة في الفساد الاقتصادي، والتفاوت الطبقي، والتخبط الاقتصادي، موضحاً هذا التخبط باتباع نظم اقتصادية وضعية نبتت في غير أرضنا لأوضاع غير أوضاعنا، ومجتمعات فيها غير ما في مجتمعنا.

ودعا إلى الأخذ بالنظام الاقتصادي الإسلامي؛ ذلك النظام الكامل الذي يؤدي إلى الإصلاح الشامل في توجيهات الإسلام الحنيف، الذي وضع للاقتصاد قواعد كلية أساسية لو علمناها وطبقناها تطبيقاً سليماً؛ لانحلت مشكلاتنا، ولظفرنا بكل ما في هذه النظم من حسنات، وتجنبنا كل ما فيها من سيئات، وعرفنا كيف يرتفع مستوى المعيشة وتستريح كل الطبقات، ووجدنا أقرب الطرق إلى الحياة الطيبة.

وقد حدد البنا محاور الإصلاح الاقتصادي في إصلاح السياسة النقدية والمالية والهيكلية؛ ففي إصلاح السياسة النقدية طالب بوجوب استقلال النقد، والاعتماد على رصيد ثابت من مواردنا ومن ذهبنا، لا على أذونات الخزانة الأجنبية، منتقداً ضعف الرقابة على النقد، والاستهانة بأمره استهانة بلغت حد الاستهتار، وما نتج عن  هذه المآسي التي نصطلي بنارها من التضخم الذي استتبع غلاء المعيشة، وصعوبة الاستيراد والتصدير.

وفي إصلاح السياسة المالية، طالب بأهمية ترشيد الإنفاق وتنظيم الضرائب، مبيناً أن روح الإسلام توجب علينا في تشريعه الاقتصادي أن نبادر بتنظيم الضرائب الاجتماعية، وأولها الزكاة، وليس في الدنيا تشريع فرض الضريبة على رأس المال لا على الربح وحده كالإسلام، وذلك لحكم جليلة، منها: محاربة الكنز وحبس الأموال عن التداول؛ فلا بد من العناية بفرض ضرائب اجتماعية على النظام التصاعدي -بحسب المال لا بحسب الربح– يعفى منها الفقراء طبعاً، وتجبى من الأغنياء الموسرين، وتنفق في رفع مستوى المعيشة بكل الوسائل المستطاعة.

ومن لطائف سيدنا عُمر رضي الله عنه، أنه كان يفرض ضرائب ثقيلة على العنب لأنه فاكهة الأغنياء، وضريبة قليلة لا تُذكر على التمر لأنه طعام الفقراء؛ فكان أول من لاحظ هذا المعنى الاجتماعي في الحكام والأمراء رضي الله عنه.

ولعل ما يميز البنا في الجانب الاقتصادي أنه أول من لفت النظر لميلاد بنوك إسلامية، ووضع حلولاً عملية لآفة الربا، وتناول ذلك في مجلة «النذير» عام 1939م، حيث بين أنه من الممكن والميسر أن يعالج النظام الاقتصادي العام علاجاً يشفيه من داء الربا، كما تخلص العالم بفضل الإسلام من نظام الاسترقاق الذي كان ينظر إليه كضرورة بشرية في عرف الإنسان.

وذكر أن «الإسلام وضع علاج ذلك بالزكاة، ولأمر اقترن الربا بالزكاة في كثير من الآيات القرآنية، فليؤخذ من مال الزكاة وصندوقها ما يغني المقرضين عن الربا»، كما ذكر علاجاً فنياً آخر يراه بعض الاقتصاديين بقوله: «ذلك أن المهيمن على السوق الاقتصادية في نظامنا الحديث؛ المصارف المالية، وهي التي تعتمد أكثر ما تعتمد على الفوائد إيداعاً وإقراضاً، وفي وسع هذه المصارف أن توظف معظم ودائع العملاء في الأسهم، فتستفيد وتفيد، وتربح لنفسها ولعملائها وتقاسمهم هذا الربح، وتفيد السوق الاقتصادية فائدة جمة، وتستطيع المصارف أن تجد من أبواب الإيراد، وخدمة الاقتصاد ما لا يقع تحت حصر لتوظيف الأموال في التجارة والصناعة، والعمولة والوساطة في بيع المحاصيل، وبيع العملة الأجنبية، وصرف الشيكات، وتأجير الخزن، وحفظ الودائع وغيرها، وهذا من حيث إفادة نفسها وعملائها، ومن حيث الإقراض للمحتاجين للمال؛ ففي وسعها أن تتخذ لهذا الإقراض بصورة تجعله من صلب الشركة، أو من باب العوض، أو نحو ذلك، وبهذا تستغني تمام الاستغناء عن نظام الفائدة».

كما تناول البنا إصلاح السياسة الهيكلية التي تتعلق بتغير نوعي في هيكل النشاط الاقتصادي بما يحقق التنمية من خلال دعوته لاستغلال منابع الثروة، والصناعة، والزراعة، وتشجيع المشروعات الصغيرة، وذلك في رسالته «مشكلاتنا الداخلية في ضوء النظام الإسلامي، النظام الاقتصادي»، حيث رسم الطريق لاستغلال الثروات من خلال العناية بالمشروعات الوطنية الكبرى، كما كشف عن أهمية التصنيع كإستراتيجية ضرورية وملحة لبناء الاقتصاد، فذكر أن التحول إلى الصناعة فوراً من روح الإسلام، كما كشف عن أهمية الزراعة والعمل على زيادة إنتاج هذا القطاع وإنتاجية العاملين فيه بإعادة النظر في نظام الملكيات بمصر، باختصار الملكيات الكبيرة، وتعويض أصحابها عن حقهم بما هو أجدى عليهم وعلى المجتمع، وتشجيع الملكيات الصغيرة، حتى يشعر الفقراء المعدمون بأنه أصبح لهم في هذا الوطن ما يعنيهم أمره، ويهمهم شأنه، وأن يتم توزيع أملاك الحكومة حالاً على هؤلاء الصغار كذلك حتى يكبروا، كما طالب بتعزيز دور المشروعات الصغيرة، وتمصير الشركات، وترشيد الاستهلاك، وحث على الوحدة الاقتصادية والاكتفاء الذاتي.

رحم الله الأستاذ حسن البنا، فقد كان مدرسة متكاملة تجسد الإسلام بمفهومه الشامل وفي القلب منه الاقتصاد.

Exit mobile version