مواقف وعبر تربوية من”طبقات الشافعية” لابن السبكي (2)

 

لقد كتب العالمان الفاضلان عبدالفتاح الحلو، ومحمود الطناحي مقدمة رائعة عن ابن السبكي، صاحب «طبقات الشافعية»، وهو تاج الدين أبو نصر عبدالوهاب بن قاضي القضاة تقي الدين أبي الحسن علي بن زين الدين أبي محمد عبدالكافي بن ضياء الدين أبي الحسن علي بن تمام بن يوسف بن موسى بن تمام السبكي، وقد حوت المقدمة قيماً تربوية علمية رفيعة، فأحببت ألا تمر علينا مرور الكرام، بل لا بد من الوقوف معها للإفادة منها، فورد في المقدمة:
«وقد فتح تاج الدين عينيه على بيت يموج بالمعرفة، ورأى وفود العلماء وهي تنسِل إلى مجلس أبيه، ينهلون من علمه، ويقيدون فوائده، فليس غريباً أن يبدأ عبدالوهاب في التحصيل مبكراً، وأن يحفظ القرآن في صغره، ثم يأخذ عن والده أصول العربية والعقيدة والتشريع.
ويتتلمذ لأساتذة عصره، فيجيز له في مصر بعد فترة وجيزة ابن الشحنة، ويونس الدبوسي، ويسمع على يحيى بن المصري، وعبدالمحسن الصابوني، وابن سيد الناس، وصالح بن المختار وعبدالقادر بن الملوك.. وغيرهم.
وحين تولى والده منصب قاضي قضاة الشام رحل معه إلى دمشق، فقدمها في جمادى الآخرة سنة تسع وثلاثين وسبعمائة، وفي دمشق سمع من زينب بنت الكمال، وابن أبي اليسر، وابن تمام، وقرأ بنفسه على المزي، ولازم الذهبي..
ولم يكتف ابن السبكي بتلقيه المعرفة على هؤلاء الأعلام، وإنما اتجه إلى التحصيل بنفسه، وأقبل على العلم بهمة فتيّة، ونفس مشوقة، حتى قال عنه العماد الحنبلي: «طلب بنفسه ودأب»، وقال عنه ابن حجر العسقلاني: «أمعن في طلب الحديث، وكتب الأجزاء والطباق، مع ملازمة الاشتغال بالفقه والأصول والعربية حتى مهر وهو شاب».
وقال عنه بعد ذلك الحافظ شهاب الدين بن حجى: «حصل فنوناً من العلم: من الفقه، والأصول وكان ماهراً فيه، والحديث والأدب، وبرع وشارك في العربية، وكان له يد في النظم والنثر، جيّد البديهة، ذا بلاغة وطلاقة ولسان وجرأة جنان، وذكاء مفرط، وذهن وقّاد».
وتولى أبو نصر بعد هذا مناصب عديدة، فقد تولى التدريس في العزيزية، والعادلية الكبرى، والغزالية، كما تولى تاج الدين خطابة الجامع الأموي بدمشق، وناب عن أبيه في الحكم، وتولى أبو نصر قضاء الشام في ربيع الأول سنة ست وخمسين وسبعمائة، ذكر ذلك ابن العماد الحنبلي.
وقد طارت شهرة تاج الدين في كل الأقطار الإسلامية، وأصبح عمدة الناس في الفُتيا، وكان أهل مصر يرسلون إليه يستفتونه في كثير مما يعرض لهم، كما يقول المقريزي في «المواعظ والاعتبار».
وبعد هذه الحياة الحافلة بجلائل الأعمال، توفي تاج الدين أبو نصر بن علي شهيداً بالطاعون، بالدَّهشة ظاهر دمشق، في ذي الحجة، خطب الجمعة، وطعن ليلة السبت رابعة، ومات ليلة الثلاثاء سابعة سنة 771هـ، ودفن بتربة السبكية بسفح قاسيون، عن أربع وأربعين سنة»(1).
عبر تربوية:
– دور الأب العالم والداعية في صياغة شخصية أبنائه وأهل بيته من حيث العلم والثقافة والدعوة للإسلام.
– أهمية حفظ القرآن والفقه في الصغر.
– تنوع العلماء والمربين له أثره الإيجابي والعميق في التوجه العلمي وقوته بالنسبة للمربَّى.
– الإمامة والتدريس والخطابة والقضاء والإفتاء.. مناصب متعددة مؤثرة في توجيه الناس وتعليمهم وتربيتهم.
– لا بد من الجهد الذاتي والدأب المتواصل والهمة مع الصبر لتحصيل العلم.
والحمد لله رب العالمين.
الهامش
(1) محمود الطناحي وعبدالفتاح الحلو – مقدمة طبقات الشافعية ج1.

Exit mobile version