البعد الطائفي في القضية السورية

 الشعب السوري لا يعرف الطائفية، ولم يمارسها سلباً، رغم وجود الحالة المذهبية، والتعدد الديني منذ مئات السنين، والمجتمع السوري -عبر التاريخ- مجتمع متعايش، أبناؤه ارتضوا الحياة معاً، وفيه مسلمون وغير مسلمين، وهم متجاورون طابع بلاد سورية أنها بلاد سنية من باب الأكثرية، ودمشق عاصمة الحضارة الأموية، في بُعدها المعرفي الإسلامي، وتاريخها السياسي والثقافي، ولكن هذه الحقيقة صارت عامل مسؤولية، ترتب عليها أن يكون أبناء هذا البلد على عاتقهم أمانة الاستقرار المجتمعي، والأمان الحياتي، ولم تكن حقيقة الأكثرية وطابعها الأموي سبباً في نشوء نتوءات ما لا تحمد عقباه في هذا الشأن، من طائفية حارقة، أو عدوان على أقلية لأنها أقلية.

وكانت تجربة السياسي الوطني فارس الخوري، وتعاضده مع سائر أبناء الشعب السوري، ومنهم السباعي، والزرقا، والمبارك، والبيطار، والدواليبي، خير مثال على حقيقة هذا التعايش، وأوضح مثال على عدم وجود مشكلة في هذا المجال الذي ندندن حوله، وهذه التجربة بكل توسعاتها تحتاج إلى تأمل دقيق، وإعادة إنتاج للتجربة، رغم كل التخريب المنظم الذي جاء به نظام السوء والظلم والفجور والفتنة والضياع.

بداية إيقاظ الفتنة

جاء هذا النظام الفاجر المجرم، وتسلم زمام السلطة «حافظ الأسد» الذي ينتمي إلى الطائفة النصيرية (العلوية)؛ فهيج غبار نتن الطائفية، وحرك فحيح سمومها، ونسج خيوط ظلامها، ببرنامج عمل هدام، وخطة تخريبية، ما زال الشعب السوري إلى يومنا هذا يعاني من ويلاتها، وأخذ يحدث الشروخ داخل المجتمع السوري، ويثير الحساسيات، ويختلق الإشكالات، ويصطنع المشكلات، ويرسخ الفتن، فكان من منهجه أن اعتمد الطائفية طريقاً للسيطرة على مقاليد السلطة، وجعل مفاصل الدولة بيد الطائفيين، وفي المجالات المركزية كافة، وقدم كثيراً من أقربائه من أبناء الطائفة، ليكونوا نسيج الحكم، ويمثلوا القبضة الحديدية التي تمسك بزمام السلطة، وركز كثيراً على المنظومة العسكرية والأمنية والإعلامية والاقتصادية، ومع الأيام –وما زالت– تبرز أسماء فاجرة عاثت في السابق أيام جبروت رفعت الأسد، وما فعله بتدمر وحماة، وما كان منه في باقي المحافظات أيام السرايا التي كانت تدار من قبله، وما نزع الحجاب من على رؤوس المحجبات في شوارع دمشق عنا ببعيد. 

ومن تمام اللعبة أن ترك نظام الطائفية شكل الأمر وصورته لجماعات يحسبون على أسر أهل السُّنة، ورغم هذا وفي هذا الشكل لم يقدم إلا من كان موالياً له مائة في المائة، ومن لعب بذنبه، ولو من باب التمطي وأخذ فسحة اللعب، فلا يلومن إلا نفسه، والشواهد في هذا يطول ذكرها.

وكان نصيب الآخرين من أبناء الشعب السوري، وفي المقدمة منهم أبناء أهل السُّنة، التهميش والإقصاء، والفصل من الوظائف، والتسريح من الجيش، والسجون والإعدامات، والتهجير المباشر وغير المباشر، وسياسات التضييق على سائر أبناء الشعب السوري، شاهد السر والعلن، على طريقة العمل لهذا النظام.

وكنموذج على هذا، يذكر رائد الفضاء محمد فارس، أنه لما تولى إدارة المعهد الجوي لتدريب الطيارين، كان سبعون بالمائة من الطلاب المتدربين من الطائفة، وثلاثون بالمائة لباقي أبناء سورية، بمن فيهم أبناء الأكثرية السُّنية. 

وفتحت السجون أبوابها لكل حر شريف عمل على التصدي لجرائم طائفية هذا النظام، أو نبس ببنت شفة معارضاً للنظام الطائفي، ومن يمر على كتاب “القوقعة” ليقرأ تجربة رجل مسيحي دخل السجن، حيث سطر حقائق الطغيان وحكى قصة تكميم الأفواه، والتعذيب المنظم، وإذلال الناس، فمنهم من قضى تحت التعذيب، وبعضهم فقد بعض أعضائه، وتركت بصمات الأسى ندباتها على متفرقات جسده وأحاسيسه ومشاعره، وصنعت هذه الوقائع ذاكرة جديدة، تمثل مفصلاً من مفاصل الأيام في تاريخ سورية، وكثير من هؤلاء الأحرار علقوا على أعواد المشانق، في جو عام يشهد بطائفية نظام منتقم، يحمل في جعبة تاريخه حقداً ظلامياً، ونفسية سادية، تفوح روائح نتنها من دهاليز الضغينة المرة، فصار أصحابها، لا همّ لهم سوى إرواء نهمهم الشهوي بكل أبعاده، وسائر صوره، ومن اقترب من هذا السياج فليس له سوى الحرق.

نذر الثورة المباركة

وإمعاناً في إغراق البلد في الطائفية، عمل «حافظ الأسد» ونظامه الطائفي على بناء علاقة قوية مع نظام الملالي في طهران، لتنسج مرحلة سوداوية، تراكم بعضها فوق بعض، لتشكل حالة من الويل القادم، يعرفه الذين فهموا المشهد بدقة، وأخذ الوضع في سورية يتجه نحو الطائفية بلون مركز جديد، عمل على تمكين الطائفيين من الذين ينتمون إلى تشكيل الولي الفقيه، خصوصاً في الجانب الاقتصادي، والعمل على نشر «التشيع» في ربوع سورية، وظهرت نذر الخطر، وتعمق الجرح، ونادت كتائب الفطرة، أن لا بد من نهاية لهذا الفساد والإجرام والقتل ونهب الثروة والاستئثار بالسلطة، والطائفية التي تمارس من طرف هذا النظام الطغياني، على شعب لا يحب الطائفية ولا يريدها، أما وقد بلغ السيل الزبى فلا بد من الثورة.

قامت ثورة شعبنا (15/3/2011م) حيث مهدها الأول في درعا وشعبها الأصيل، وكان موقد شرارتها أطفال درعا الأباة، حتى عمت الثورة جل ربوع البلاد السورية، تطالب بالإصلاح في بداية الأمر، وكانت سلمية بامتياز، ولم يرفع فيها شعار واحد يشي بطائفية، ورغم هذا قوبلت بالحديد والنار، بلغة مليئة بالحقد الدفين، الذي صار يصب فوق رؤوس شعبنا حمماً، لكن من بركان زفرات  الطائفيين، وهنا يظهر محور الشر ودوره التخريبي، في تدمير البلد، وقتل البشر، وتشريدهم، نحو تغيير ديمجرافي ممنهج يخدم أجندات الولي الفقيه، الذي عاث في الأرض فساداً، فاستنفر كل طاقات نظامه، وبذل كل ما يملك، حضوراً في معركة ليس لها عنوان سوى حمى الطائفية، بداية من الشعارات الخطرة، التي وسمت حراكهم بوسم الفساد، حيث صاروا يصيحون “يا لثارات الحسين”، وسموا كتائب قتالهم الظالم بشارات “الفاطميون” و”الزينبيون” والسيدة فاطمة والسيدة زينب، وآل البيت منهم براء، وأهل سورية يحبون الآل والأصحاب، ولا يفرقون بينهم، ويقولون عنهم: رضي الله عنهم جميعاً.

وأول بوادر التدخل كانت بإدخال مليشيات تدعي حماية ضريح السيدة زينب، إن هي إلا ذريعة كاذبة، وحجة مكشوفة، فقبر السيدة زينب له مئات السنين بدمشق، ولم يعتد عليه أحد في يوم من الأيام، وأهل سورية يحبون السيدة، وما عرفنا هذا الهراء الذي صار يتهم به شعب سورية، إلا لما ظهر هذا النظام الطائفي، وتحالف مع أعوانه الضالين المضلين.

التدخل الطائفي

ثم لما شعر نظام إيران أن نظام سورية صار يترنح، وهو قاب قوسين أو أدنى من السقوط، بفعل ثورة الشعب، هنا رسم خطته، وأدخل كتائبه الطائفية، من كل حدب وصوب، بإشراف الحرس الثوري الإيراني، وقائده قاسم سليماني، الذي ظهر يتبختر على إثر سيطرة القوى الطائفية على حلب، بفعل دمار ممنهج من القوات الروسية الغازية.      

فكان “حزب الله” اللبناني وكذا العراقي، في مقدمة القوى الطائفية التي ارتكبت مجازر بحق أبناء الشعب السوري، وشارك في الإجرام المنظم والإرهاب العريض كتائب من الطائفيين، منها لواء أبي الفضل العباس، وعصائب أهل الحق، وحزب النجباء، وفيلق الوعد الصادق، وهم عبارة عن تجمع طائفي من بلدان مختلفة.

ومن مخاطر البعد الطائفي الذي يمارسه النظام، ومن سانده، من الطائفيين وغيرهم، تلك الجريمة التي تمارس على الأرض، ألا وهي قضية “التغيير الديمجرافي”، وذلك عن طريق ترحيل أبناء أهل السُّنة وتهجيرهم من ديارهم، وإحلال طائفيين مكانهم، أو التجهيز لذلك الإحلال، وارتكبت فظائع في هذا المجال، ومنها ذاك الذي حدث في داريا، وما قصة “الباصات الخضر” عن وسائل الإعلام عنا ببعيد، حيث كانت تنقل الناس من مكان إلى مكان، ومن بلد إلى بلد، وهذا يعكس صورة مؤلمة ومحزنة ومقلقة، كما حدث في حلب، ووادي بردى، والزبداني، ومضايا، وغيرها من المواقع الجغرافية، حتى صار رأس النظام يباهي بهذا، ليصف المجتمع السوري -بعد عملية التغيير الديمجرافي– بأنه أكثر تجانساً، وهذا أمر خطر، وشأن دبر بليل، ويحتاج إلى جهود من أجل مقاومة هذا التغيير الديمجرافي.

ويلزم لمقاومة هذا الخطر الداهم أن يتعاون السوريون فيما بينهم، وتشجيع أصحاب مشاريع مواجهة هذا التغيير، وكذا الوصول إلى منظمة التعاون الإسلامي، ونخص بالذكر منهم بعض الدول ذات الاهتمام في هذا الجانب، بحكم جملة من الاعتبارات، ومنها تركيا، كما أن فضح هذا المشروع على المستوى العالمي، ووضع المجتمع الدولي أمام مسؤولياته، من واجبات الوقت.

هذا البعد الطائفي المحزن، الذي يمارس من طرف واحد، على شعبنا، قابله أهلنا من أبناء الثورة بشعارات الوحدة السورية الوطنية، واتفقت كلمة معارضته –وهي من كل أطياف الشعب السوري-  في الوثائق المعلنة على نبذ الطائفية، وأنها ليست بسبيل مستقيم، وهم يؤكدون أن الشعب السوري ليس طائفياً، وإنما الطائفية نبتت في تكوينات النظام السوري، وغذيت من مصادر النظام الإيراني، وأذرعه هنا وهناك.

ويبقى السؤال الذي يطرح نفسه بقوة: إلى متى يظل شعبنا يذبح -على مرأى ومسمع كل العالم- من هؤلاء الطائفيين الإرهابيين شذاذ الآفاق، الذين لا خلاق لهم؟

Exit mobile version