كيف نستخدم سلاح الاقتصاد لنصرة القدس؟

أعلن الرئيس الأمريكي «دونالد ترمب» في 6 ديسمبر 2017م قراره الجائر باعترافه بالقدس عاصمة لـ»إسرائيل» ونقل السفارة الأمريكية لها في وقت لاحق، متحدياً بذلك مشاعر أكثر من مليار و600 مليون مسلم في بقاع المعمورة، ويأتي قرار «ترمب» بعد مائة عام مضت على «وعد بلفور» الذي به أعطى من لا يملك أرض فلسطين لمن لا يستحق، ولم يكتف «ترمب» بذلك، بل استخدمت الولايات المتحدة حق «الفيتو» في الأمم المتحدة للحيلولة دون رفض قرار «ترمب».

تسارعت تلك الأحداث، والعالم الإسلامي يشهد المدافع عن حرمة القدس والمتواطئ الذي لبس لباس الصهاينة وإن تسمى بأسماء إسلامية وارتدى لباساً عربياً، حتى إن تحرك منظمة التعاون الإسلامي بقيادة تركيا ضد قرار «ترمب» وجد من يعوقه ويحول دون فاعليته حتى اقتصر حضور قمة القدس بإسطنبول على ستة عشر رئيس دولة إسلامية في الوقت الذي زاد عددهم في قمة «ترمب» بالرياض على خمسين رئيس دولة إسلامية التي عاد منها «ترمب» محملاً باتفاقيات اقتصادية وعسكرية بلغت 460 مليار دولار، ووصف «ترمب» في حينها تلك الصفقات في حسابه على «تويتر» بـ»الحلب»، وأنه سوف يترتب عليها توفير وظائف للأمريكيين.

وفي ظل تلك الظروف العصيبة التي يتم فيها تقديم القدس والأقصى لقمة سائغة للصهاينة من قبل الأمريكيين، ونسيان أو تناسي تلك القضية باعتبارها قضية المسلمين الأولى والمحورية بفعل فاعل، ينبغي التأكيد على أن هذه الأرض المباركة هي أرض وقفية؛ بها أولى القبلتين ومسرى النبي الأمين، وهي الامتداد الطبيعي لمكة المكرمة والمدينة المنورة ومحور الدفاع عنهما، ومن ثم تبدو أهمية بذل الغالي والنفيس لتحرير فلسطين، وإذا كان التخاذل الرسمي بدا واضحاً جلياً من بعض الدول في الواقع العملي ودون حياء، فإن نبض الشعوب ما زال باقياً، ولن تموت قضية يحملها شعب في قلبه، ويضعها في بؤرة اهتماماته باعتبارها قضية إسلامية مقدسة والبعد عن تقزيمها بوصفها بالعربية أو الفلسطينية، فالكيان الصهيوني يتباهى بدولته الدينية التي سماها باسم نبي من أنبياء الله.

الجهاد الاقتصادي

إن ما تمر به فلسطين من اعتداء سافر وما يلقاه الصهاينة من دعم واضح من الإدارة الأمريكية لا سيما في قرارها الأخير بتهويد القدس يوجب على الشعوب الإسلامية السعي نحو الجهاد الاقتصادي لتحرير الأقصى، ولا أقل في الوقت الراهن من القيام بهذا الجهاد إيجاباً وسلباً باعتبار ذلك من أضعف الإيمان.

ونقصد بالجهاد الاقتصادي الإيجابي تربية النفس وتطويعها على الإنفاق في سبيل الله، والخروج من دائرة استعباد المال، بتخصيص مبلغ شهري من دخل الفرد لدعم قضية فلسطين، وليتذكر كل مسلم ما شهدته غزوة “تبوك” من معالم ونماذج، فقد تسابق المسلمون في إنفاق الأموال وبذل الصدقات، وكان عثمان بن عفان قد جهز عيراً للشام، 200 بعير بأقتابها وأحلاسها، و200 أوقية، فتصدق بها، ثم تصدق بـ100 بعير بأحلاسها وأقتابها، ثم جاء بـ1000 دينار فنثرها في حجر النبي صلى الله عليه وسلم، فكان رسول الله يقلبها ويقول: “ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم”، ثم تصدق عثمان وتصدق حتى بلغ مقدار صدقته 900 بعير و100 فرس غير النقود.

وجاء عبدالرحمن بن عوف بـ100 أوقية فضة، وجاء أبو بكر بماله كله، ولم يترك لأهله إلا الله ورسوله، وكانت 4 آلاف درهم، وهو أول من جاء بصدقته، وجاء عمر بنصف ماله، وجاء العباس بمال كثير، وجاء طلحة، وسعد بن عبادة، ومحمد بن مسلمة، كلهم جاؤوا بمال، وجاء عاصم بن عدي بـ90 وسقاً من التمر، وتتابع الناس بصدقاتهم قليلها وكثيرها، حتى كان منهم من أنفق مداً أو مدين لم يكن يستطيع غيرها، وبعثت النساء ما قدرن عليهن من مسك ومعاضد وخلاخل وقرط وخواتيم.

وقد وصل الأمر غايته في هذه الغزوة حينما جاء سبعة من بني مقرن إلى رسول الله لا يجدون ما يساهمون به في الإنفاق، وطلبوا من الرسول أن يحملهم معه في هذه الغزوة، ولم يجد الرسول ما يحملهم عليه فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع، حتى سموا بـ”البكائين السبعة”، ونزل فيهم قرآن يُتلى حتى قيام الساعة؛ (وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ {92}‏) (التوبة)، ولم يمسك أحد يده ويبخل بماله في هذه الغزوة إلا المنافقون؛ (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ {79}‏) (التوبة).

وقد كانت غزوة «تبوك» صورة واضحة كاشفة لنعمة الإيمان ومعرة النفاق، وكذلك اليوم ما يدور على أرض فلسطين يكشف بوضوح حقيقة المجاهدين المرابطين، ويفضح بامتياز حقيقة المنافقين المتصهينين، فليحرص كل مسلم أن يكون في زمرة المجاهدين المرابطين في أرض فلسطين بالمال أو النفس، وليفر من أن يكون منافقاً متصهيناً مخذلاً لجهاد إخوانه في فلسطين الذين قال في حقهم رسول الله: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لعدوهم قاهرين لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك»، قالوا: يا رسول الله، وأين هم؟ قل: «ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس» (رواه الطبراني).

وليعلم كل مسلم غيور على دينه يستشعر بالتبعة والمسؤولية تجاه إخوانه في أرض فلسطين أن الدولة العبرية تعتمد بشكل رئيس على ما يجمع إليها من تبرعات، فما من اقتصاد في العالم يعتمد على المساعدات الخارجية مثل الاقتصاد «الإسرائيلي»، حيث تصل هذه المساعدات في وقت السلم إلى ما بين 6 – 7 مليارات دولار سنوياً، بين مساعدات رسمية وغير رسمية، ويقدر حجم المساعدات الأمريكية فقط المقدمة لـ»إسرائيل» منذ عام 1949 وحتى نهاية عام 2012م بمبلغ 112 مليار دولار أمريكي، وشكلت تلك المساعدات منذ عام 1950 حتى العام 2012م نسبة 4% من مجموع الناتج المحلي «الإسرائيلي».

سلاح المقاطعة

أما الجهاد الاقتصادي السلبي فنقصد به مقاطعة السلع والخدمات الصهيونية، إضافة إلى أهمية التركيز في الوقت الحالي ومستقبلاً على مقاطعة السلع والخدمات الأمريكية بصورة منظمة وبنَفَس طويل، وكذلك عدم الاحتفاظ بأرصدة دولارية وتغييرها إلى عملات أخرى، فضلاً عن اتجاه المستوردين إلى إحلال العملات الأخرى محل التعامل بالدولار.

وإذا كان سلاح المقاطعة يمثل أضعف الإيمان والحد الأدنى المطلوب للمقاومة، فإنه في حقيقته سلاح فعَّال ومهم، فأمريكا تناصر دولة الكيان الصهيوني بالباطل، مستخدمة في ذلك المال والسلاح و”الفيتو” الأمريكي، ولا ينبغي لنا أن نستخدم أموالنا في دعم عدونا، والمساهمة في تحويل هذه الأموال إلى صواريخ وقذائف مدفعية ورصاص تستقر في صدور إخواننا في فلسطين.

والمقاطعة الاقتصادية ليست بدعاً، فقد عرفها وطبقها المشركون في مكة على بني هاشم وبني المطلب حتى يسلموا إليهم رسول الله للقتل، وامتنعوا عن البيع لهم أو الابتياع منهم، وقطعوا عنهم الميرة والمادة، حتى بلغهم الجهد والتجؤوا إلى أكل الأوراق والجلود.

كما طبقها ثمامة بن آثال الحنفي بعد إسلامه على مشركي مكة، فقد خرج معتمراً بعد إسلامه، فلما قدم مكة قالوا: أصبوت يا ثمامة؟ فقال: لا، ولكني اتبعت خير الدين، دين محمد، ووالله لا تصل إليكم حبة من اليمامة حتى يأذن فيها رسول الله، ثم خرج إلى اليمامة، فمنعهم أن يحملوا إلى مكة شيئاً، فكتبوا إلى رسول الله: إنك تأمر بصلة الرحم، وإنك قد قطعت أرحامنا، وقد قتلت الآباء بالسيف، والأبناء بالجوع، فكتب رسول الله أن يخلي بينهم وبين الحمل.

وفي القرن الماضي قاطع الزعيم الهندي “غاندي” العادات والمنتجات البريطانية، وحمل الهنود على ذلك؛ حتى أعلنت بريطانيا سحب آخر جندي إنجليزي من الهند عام 1947م، كما قاطعت مصر المنتجات البريطانية بعد أحداث ثورة 1919م، وعقب معاهدة 1936م حتى تم إلغاؤها عام 1951م.

وفي حرب أكتوبر 1973م حققت المقاطعة الاقتصادية العربية من خلال سلاح البترول نصراً فريداً، حتى قال الملك فيصل قولته الشهيرة لـ”كسينجر”، وزير الخارجية الأمريكي، الذي جاء يساومه حينذاك: “إننا على استعداد أن نعيش بالتمر والماء وفي الخيام على ألا نفرط في حقوقنا”.

وفي أيامنا هذه، مازلنا نجد فرنسا تقاطع ليل نهار ليس البضائع الأمريكية فحسب، بل اللغة الإنجليزية، والأفلام والوجبات الأمريكية.

بل إن أمريكا نفسها طبقت سلاح المقاطعة ما بين عامي 1993 – 1996م ستين مرة ضد 35 بلداً ومازالت تطبقه، وإن استخدمته بشكل مقلوب ووحشي من خلال حصارها للدول والشعوب غير الموالية لها من كوبا إلى إيران مروراً بليبيا وكوريا الشمالية والسودان والعراق الذي فرضت عليه مقاطعة شاملة منذ أغسطس عام 1990م وحتى عدوانها عليه واحتلاله وإسقاط نظام “صدام حسين” في عام 2003م.

بل إن “إسرائيل” نفسها طبقت سلاح المقاطعة على السلع البلجيكية في عام 2003م، وطلبت من يهود العالم عدم شراء هذه السلع رداً على قرار المحكمة العليا البلجيكية بإمكانية محاكمة “أرييل شارون”، رئيس الوزراء “الإسرائيلي”، كمجرم حرب بمجرد خروجه من الوزارة وانتهاء حصانته، وقد أدت هذه المقاطعة إلى تراجع السلطات البلجيكية عن موقفها بشأن هذه المحاكمة.

فلا قيمة لما يردده الواهنون والمخذلون والمنهزمون من عدم جدوى المقاطعة، فما لا يدرك كله لا يترك كله، ومن المعروف أن الولايات المتحدة دولة تحركها المصالح، والمطلع على آليات العمل السياسي الأمريكي بها يجد أنها لا يحكمها السياسيون بقدر ما يحكمها رجال المال والأعمال.

فالسياسيون وأعضاء مجلس الشيوخ والنواب في غالبيتهم يمثلون الشركات الكبرى الأمريكية، والإضرار بمصالح هذه الشركات وأرباحها إضرار مباشر باللاعبين الحقيقيين خلف الستار القادرين على تحويل مسار السياسة الأمريكية بالفعل لا بالقول، وهو ضرب على العصب الحساس العاري.

إن مقاطعة السلع والمنتجات الأمريكية سيؤدي إلى كساد تلك المنتجات وتكدسها في مستودعات الشركات، ومن ثم انخفاض دخل تلك الشركات، واضطرارها إلى تسريح الآلاف من العمال، وبالتالي انتشار البطالة؛ مما يشكل عامل ضغط على الحكومة الأمريكية للنظر في سياستها مرات ومرات، وهو ما قد يصل بها في نهاية المطاف إلى تغيير سياستها وفقاً لمصالحها المادية في بلد النفوذ فيه لرأس المال، وهذا ما أكده البروفيسور الفرنسي المسلم “روجيه جارودي” في قوله: “إن نقطة ضعف الولايات المتحدة الاقتصاد، وهي مهددة بانفجار رأسمالي أسوأ مما حدث عام 1929م؛ مما دفع “بول ماري دولاجورس” ليطلق عليها لقب الإمبراطورية الأخيرة، فهناك 33 مليون أمريكي يعيشون تحت خط الفقر، وهناك طفل من ثمانية أطفال لا يأكل ما يكفي لسد جوعه، إن هذه المعادلة تؤكد أن الولايات المتحدة لا تستطيع أن تتحمل أبداً خسارة مليار أو مليارين من زبائنها؛ إذ سيؤدي ذلك إلى الانهيار الفعلي للاقتصاد الأمريكي”.

وختاماً؛ فإنه تبدو أهمية تحويل الجهاد الاقتصادي الفردي إيجاباً وسلباً إلى عمل مؤسسي من خلال مؤسسات المجتمع المدني حتى يكتب له الفعالية والاستمرار، كما أن الأمل لا يزال معقوداً نحو بعض الدول الإسلامية الحرة للعمل على تقنين ذلك والدعوة إليه وخلق الوعي به، مع تفعيل نظام المدفوعات الثنائية بين تلك الدول بعيداً عن الدولار الأمريكي.

Exit mobile version