خواطر اقتصادية من ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم

  

في صبيحة يوم الإثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول في عام الفيل، شهدت مكة المكرمة ولادة أفضل الخلق في أشرف بيت من بيوتها، فقد اصطفاه الله من بني هاشم، واصطفى بني هاشم من قريش، واصطفى قريشاً من سائر العرب.

في ذكرى هذا الميلاد الكريم تبرز العديد من الجوانب الاقتصادية التي ارتبطت بميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم حتى بعثته، وسوف نتناول هنا جانبين مهمين؛ أولهما: البركة الاقتصادية، وثانيهما: ترسيخ قيمة العمل والاعتماد على النفس.

أولاً: البركة الاقتصادية:

إذا كان مولد النبي صلى الله عليه وسلم بركة للعالمين، فإن مظاهر البركة الاقتصادية لرسول الله صلى الله عليه وسلم بدت بصورة واضحة منذ نعومة أظفاره مع مرضعته حليمة بنت ذؤيب السعدية التي لم تجد حيلة إلا أخذه بعد أن امتنعت المرضعات عن ذلك ليتمه، فكان فاتحة خير عليها وعلى أهلها.

وفي هذا تقول: «خرجت من بلدي مع زوجي، وابن صغير لي أرضعه في نسوة من بني سعد بن بكر، ألتمس الرضعاء، في سنة شهباء لم تبق لنا شيئاً، وخرجت على أتان لي قمراء، معنا شارف لنا، والله ما تبض بقطرة، وما ننام ليلنا أجمع من صبينا الذي معنا، من بكائه من الجوع، ما في ثديي ما يغنيه، وما في شارفنا ما يغذيه، ولكنا كنا نرجو الغيث والفرج، فخرجت على أتاني تلك فلقد أدمت بالركب حتى شق ذلك عليهم ضعفاً وعجفاً، حتى قدمنا مكة نلتمس الرضعاء، فما منا امرأة إلا وقد عرض عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأباه، إذا قيل لها: إنه يتيم، وذلك أنا إنما كنا نرجو المعروف من أبي الصبي، فكنا نقول: يتيم وما عسى أن تصنع أمه وجده فكنا نكرهه لذلك، فما بقيت امرأة قدمت معي إلا أخذت رضيعاً غيري.

فلما أجمعنا الانطلاق قلت لصاحبي: والله إني لأكره أن أرجع من بين صواحبي ولم آخذ رضيعاً، والله لأذهبن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه، قال: لا عليك أن تفعلي، عسى الله أن يجعل لنا فيه بركة، قالت: فذهبت إليه فأخذته، وما حملني على أخذه إلا أني لم أجد غيره، قالت: فلما أخذته، رجعت به إلى رحلي، فلما وضعته في حجري أقبل عليه ثدياي بما شاء من لبن، فشرب حتى روي وشرب معه أخوه حتى روي، ثم ناما وما كنا ننام معه قبل ذلك، وقام زوجي إلى شارفنا تلك، فإذا إنها لحافل، فحلب منها ما شرب، وشربت معه حتى انتهينا رياً وشبعاً، فبتنا بخير ليلة. 

وقال صاحبي حين أصبحنا: تعلمي والله يا حليمة، لقد أخذت نسمة مباركة، فقلت: والله إني لأرجو ذلك، قالت: ثم خرجنا وركبت أتاني، وحملته عليها معي، فوالله لقطعت بالركب ما يقدر عليها شيء من حمرهم، حتى إن صواحبي ليقلن لي: يا ابنة أبي ذؤيب، ويحك اربعي علينا، أليست هذه أتانك التي كنت خرجت عليها؟ فأقول لهن: بلى والله، إنها لهي هي، فيقلن: والله إن لها لشأناً.

ثم قدمنا منازلنا من بلاد بني سعد وما أعلم أرضاً من أرض الله أجدب منها، فكانت غنمي تروح على حين قدمنا به معنا شباعاً لبناً، فنحلب ونشرب، وما يحلب إنسان قطرة لبن، ولا يجدها في ضرع، حتى كان الحاضرون من قومنا يقولون لرعيانهم: ويلكم اسرحوا حيث يسرح راعي بنت أبي ذؤيب، فتروح أغنامهم جياعاً ما تبض بقطرة لبن، وتروح غنمي شباعاً لبناً، فلم نزل نتعرف من الله الزيادة والخير حتى مضت سنتاه وفصلته».

ثانياً: ترسيخ قيمة العمل والاعتماد على النفس:

لم يركن النبي صلى الله عليه وسلم منذ صغره إلى الاعتماد على غيره، فبعد أن ذاق اليتم ثلاث مرات: يتم الأب وهو في بطن أمه، ويتم الأم وهو ابن خمس سنين، ويتم من تولى كفالته وهو جده عبد المطلب وهو ابن ثماني سنين، وانتقال كفالته لعمه أبي طالب، رأي الحالة الاقتصادية غير المتيسرة لعمه، فعمل صلى الله عليه وسلم برعي الغنم لمساعدة عمه، وفي الحديث: «ما بعث الله نبياً إلا رعى الغنم»، فقال أصحاب: وأنت: فقال: «كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة» (رواه البخاري).

إن اعتماد النبي على ذاته في الكسب رسالة واضحة بأن الكلمة حتى تخرج من الفم حرة أبية يجب ألا يتحكم في إطعام هذا الفم غير صاحبه، وأن من يكون عالة على غيره لا يمكن أن يكون قراره ناتجاً عن إرادة حقيقية، فالمسلم مطالب بالاعتماد في معيشته على جهده وكدّه، حتى لا يكون لأحد من الناس منة أو فضل يحول بينه وبين الصدع بالحق.

وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يتكبر على عمل وعمل برعي الغنم، فإنه بعد ذلك عمل رجل أعمال في مال سيدة أعمال من أشراف وسادات قريش هي السيدة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، حيث بلغها صدق محمد صلى الله عليه وسلم وأمانته وكرم أخلاقه، فعرضت عليه أن يخرج في مالها إلى الشام تاجراً، ورأت خديجة رضي الله عنها من البركات الاقتصادية في مالها ما لم تجده من قبل، وكان ذلك سبباً في طلبها الزواج من النبي صلى الله عليه وسلم.

إن ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم فرصة لتجديد القلوب بمحبته، وإبراز قيمة الاقتصاد في حياة الأمة، فالأمة التي تهمل إنتاجها ولا تستغل مهارات وقدرات أبنائها، وتعتمد على غيرها في تلبية حاجاتها هي أمة ضائعة ومغيبة، فلا مكان يذكر لاقتصادها، ولا مستقبل مشرقاً ينتظرها.

وما أحوجنا في ذكرى ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم أن نتمثل الشخصية الاقتصادية الناجحة والمتميزة التي لخصتها السيدة خديجة رضي الله عنها في قولها لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم نزول الوحي عليه: «إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتعين على نوائب الحق».

 

Exit mobile version