الوَهْن الـمُفضي إلى التلاشي الحضاري.. راهنُ البحث العلمي نموذجاً

 خطوة جريئة اتخذتها إحدى الجامعات الأردنية مؤخراً، حين أقدمت على تفعيل مواد اللوائح الداخلية بها بفصل 52 أستاذاً مساعداً من العمل لديها بسبب التقاعس في البحث العلمي، وقد وصل الأمر بهؤلاء أنهم لم يقدموا أبحاثاً ودراسات لمدة 8 أعوام ولا حتى لغايات الترقية، ومن المفارقات أن بعض الأساتذة وصلت مدة عدم ترقيته بسبب غياب أبحاثه إلى 16 عاماً؛ ما يكشف عن حجم التراجع الكبير في مؤسسات التعليم العالي.

لكنْ يبدو أن هذا ليس حال الجامعات الأردنية فقط، ذلك أن الكثير من المقالات والتقارير العربية – ناهيك عن الدولية – تنحي باللائمة على أوضاع البحث العلمي في الجامعات العربية تمويلاً وجودة وتطبيقاً  في الكم والكيف؛ الأمر الذي أخرج معظم الجامعات العربية من التصنيفات الدولية لمستويات الجودة في التعليم الجامعي، أو وضعها في مستويات متدنية في سلم تصنيفات أُخر.

ومن هذه التصنيفات تصنيف جامعة «جياو تونج» الصينية في شنغهاي للعام 2015م، والذي ضمّ 500 جامعة، وخرجت نتائجه لتؤكد تصدُّر الجامعات الأمريكية للجامعات العالمية، تلتها الجامعات البريطانية، لكن الأمر الذي كان لافتاً في هذا التصنيف هو ورود اسم جامعة الملك سعود السعودية وحيدةً ضمن المائة جامعة الأولى في التصنيف.

أستاذ برتبة مدرس!

ولا عجب – والحال هكذا – أن تجد بعض الأساتذة ما زال على رتبة «مدرس/ أستاذ مساعد» منذ حصوله على الدكتوراه منذ ربع قرن أو يزيد! أو على درجة «أستاذ مساعد/ مشارك» وليس له من إنتاج علمي يُذكر، وربما أنجز بعض النزر اليسير من البحوث لكنه بأي حال لا يضاهي إنتاج أقرانه في الرتبة العلمية، بل إننا نجد كثيراً من تلاميذه قد فاقه في الرتبة والإنتاج، وقد أحيل بعض هؤلاء الأساتذة إلى التقاعد وهم على هذه الرتبة، ولم تمسسهم الجامعة بسوء أو حتى وجهت لهم لوماً يوماً ما، كل ذلك في غياب أي موانع صحية كانت سبباً في هذا السبات العميق.

والعجيب أن بعضاً من هؤلاء الباحثين ما إن تتح لهم فرص العمل في جامعات أوروبا وأمريكا حتى تدب في أوصالهم الحركة والنشاط ويتميزون بشكل منقطع النظير!

فلا عيب إذن في هذا الباحث أو ذاك، إنما العيب يكمن في النظم واللوائح التي تحكم العمل عندنا، فالذي أتيح له أن يعمل في الجامعات الغربية يعلم تماماً أنه لا محاباة في تطبيق النظم الجامعية، وأنه إن حاد عن الجادة سيكون مصيره خارج أسوار الجامعة، وربما لا يمكنه العمل في أي جامعة أخرى؛ فلن تبخل عليه الجامعة التي طرد منها من أن تسطر له في شهادة سير وسلوك تهاونه في أداء ما كُلف به، وعدم قيامه بمقتضيات العمل في السلك الجامعي، وعلى رأسها البحث العلمي.

مشرف غير متخصص

أما عن الإشراف العلمي على الأطروحات الجامعية من ماجستير ودكتوراه، ومناقشاتها فحدّث ولا حرج، إذ في بعضها العجب العجاب! فقد تجد من يشرف على رسالة علمية وهي بعيدة كل البعد عن تخصصه، وآخر يشارك في مناقشات رسائل بعيدة كثيراً عن تخصصه الدقيق، بل وعن تخصصه العام! وهناك شواهد على ذلك لا تخطئها العين ليست في حالة واحدة بل في حالات، وقد التقطتُ بعضها من السير الذاتية المنشورة للأساتذة في المواقع الإلكترونية للجامعات التي ينتمون إليها، وكأننا نعيش – بمفردنا – في عصر لم يعرف بعد التخصصات! وكأن الجامعات عقمت أن تخرج متخصصين، أو تفتقر إلى وجودهم.. لا وألف لا، ولكنْ للمسألة حسابات أخرى تختلط فيها الأوراق، وتخرّب فيها الذمم، وتباع بسببها الضمائر، ويطغى السياسي على العلمي، وتداس بالأحذية كل أخلاقيات البحث العلمي.

وللمتابع لهذه الأوضاع المتردية أن يتساءل: لِمَ يلجأ الأساتذة في الأقسام العلمية إلى ذلك؟ وأي جُرم يجنيه هؤلاء على البحث العلمي؟ وإلى أي مكانة يذهب ذلك باسم الجامعة وكلياتها وأقسامها وخريجيها؟ وما ذنب الطالب المسكين الذي لا يملك من أمره رداً عندما يُعهد به لغير متخصص من الأساتذة إشرافاً على بحثه؟ وأي إضافة للبحث العلمي يستطيع المشرف غير المتخصص أن يقدمها؟ وأي مسارات بحثية يمكن للمشرف غير المتخصص أن يرشد هذا الطالب إليها؟ ولماذا – أصلاً – كل هذا؟ ومن يقف وراءه؟ أهو لهث وراء العائد المادي، أم هي المجاملات والمحسوبيات؟ إن الأمثلة الواقعية على ذلك كثيرة ومتنوعة ومؤلمة، ويمكن متابعتها في أخبار مواقع الجامعات التي – ربما – لا تكذب ولا تتجمل، ناهيك عن التجارب الشخصية لمن يعملون في الجامعات، أو من كانوا باحثين فيها.

وجها العملة

وإذا كان البحث العلمي وتخريج الكفاءات البشرية المدربة هما وجهي الجامعة في أي مجتمع توجد فيه، فإن الأمر يختلف في مجتمعاتنا العربية، ذلك أن العناية القصوى والأهم تركز على الثاني وهو التخريج، لكنْ ليس لكفاءات بشرية علمية مدربة، فكثيراً ما نسمع عن هؤلاء الخريجين الذين لا تحتاجهم أسواق العمل ومن ثم فلا بد من التدريب وإعادة التأهيل حتى يمكن لهؤلاء أن يلتحقوا بذاك السوق، هذا إن لم يكن قد أصبح كاسداً أو أغلق بابه باكراً، وكثيراً ما نسمع من هؤلاء وغيرهم من يردد: إن ما دُرّس في الجامعة شيء والواقع العملي شيء آخر.

أما البحث العلمي فإلى وقت ليس ببعيد لم نكن نسمع عن مراكز بحثية ملحقة بالكليات أو الجامعات، وكان النشاط البحثي يقوم به عضو هيئة التدريس بغرض الترقية، ولا تسألَنّ بعد ذلك عن تطبيقاتها على أرض الواقع، ولئن سألت عن علل المعوقات في هذا لأتتك أسبابها تترى لعل من أبرزها التمويل، الناتج عن الميزانيات الهزيلة المخصصة للجامعات عامة والبحث العلمي خاصة.

أذكر أن أحد المعاهد العلمية والبحثية العربية التي أُنشئت بغرض استقطاب النابهين من الطلاب العرب لإعداد كوادر علمية وبحثية عربية متميزة في البحوث والدراسات العربية، وقد انتدب للعمل فيه نخبة من كبار العلماء من جامعات عربية عدة، وذلك منذ أكثر من سبعين عاماً، يعتمد هذا المعهد بشكل كبير في تمويله – منذ ما يقارب العقدين – على ما يحصله من رسوم طلاب الدبلوم والماجستير والدكتوراه، بعد أن كانت الدراسة فيه مجانية في صورة منح، بل كان الطالب المتفوق يحصل على مكافأة مالية تشجعه على مواصلة مشواره العلمي، في الوقت الذي تخرج فيه مجموعة من التقارير التي تفيد أن ميزانية البحث العلمي في الكيان الصهيوني الغاصب تفوق بمراحل أضعاف كل ميزانيات البحث العلمي في العالم العربي.

الأستاذ والسياسة

إنَّ أمر البحث العلمي في جامعاتنا غاية في الغرابة! فالأستاذ هو من يعهد إليه بالبحث أو بالإشراف عليه، وهو كذلك مَن يعلم طلابه أسس البحث وطرقه ومن قبله أخلاقياته، وكم من طلاب يجلّون أساتذتهم ويرفعون رايات الوقار والتقدير لهم لإيمانهم بالحق والعدل والحرية! لكن الصورة ما تلبث أن تهتز وتتبدل سريعاً عندما يتولى بعض هؤلاء الأساتذة منصباً سياسياً أو رسمياً ويدلي بتصريحات هنا وهنا، وتكون له مواقف تناقض المبادئ التي غرسها في طلابه وعلّمها إياهم خاصة في علوم القانون والسياسة والتاريخ، حيث يراهم طلابهم وقد فُتنوا ببريق الأضواء والإعلام ووقعوا أسر مقاعد حجزت لهم في برامج حوارية مدفوعة بأجور سخية يسيل لها اللعاب.

وختاماً؛ فإن واقع البحث العلمي والباحثين في جامعاتنا لا يمكن فصله عن حالة الوَهْن العام الذي تعيشه المجتمعات العربية، وأنه لا سبيل إلى معالجة هذا الوهن إلا بتشخيصه تشخيصاً علمياً صحيحاً، ورسم خطط للنهوض به، وتجاوز العقبات التي تعترض الطريق، وإزالة الركام الذي غطى على جهود كثير من العلماء العاملين الذين آثروا العزلة بعد أن غصت الساحة بالتافهين والمدعين والمنافقين واللاهثين.

فهل آن الأوان لبزوغ فجر النهضة العلمية، وسطوع شمس حضارة تعيد صناعة تاريخ جديد لأمتنا؟ 

أحسب أن ذلك ليس بعزيز على جامعاتنا التي لا تعدم الكفاءات – في الداخل والخارج – رغم كل ما تعانيه.

المهم أن تتوافر النوايا الصادقة والمخلصة القائمة على ذلك بعيداً عن الدعايات الإعلامية الرخيصة، والله الموفق.

Exit mobile version