ابن خلدون والزيادة السكانية

يخرج علينا بين حين وآخر من يحصر مشكلات التنمية في البلدان الإسلامية في الزيادة السكانية، ويعتبرها من أهم أسباب التخلف والعائق أمام التنمية، خاصة من تولوا أمر بعض البلاد في الدول النامية عامة والإسلامية خاصة، وفشلوا فشلاً ذريعاً في التقدم ببلادهم نحو أي تنمية، فصارت الزيادة السكانية شماعة يعلقون عليها فشلهم وسوء إدارتهم وفسادهم، والإرادة للإصلاح الغائبة عن ذهنهم، تحت سكرة السلطة وقوة البطش.

وقد فطن ابن خلدون في مقدمته إلى قيمة القوة السكانية وقدرتها على تحقيق التنمية، واعتبرها من مقوماتها ودلالتها؛ فالزيادة السكانية في نظره تؤدي إلى زيادة درجة العمران، وقلتها في بداية الدولة تعيق التنمية وفي نهايتها تضعفها، فقد ذكر ابن خلدون أن «الترف (الرفه) يزيد الدولة في أولها قوة إلى قوتها، والسبب في ذلك أن القبيل إذا حصل لهم الملك والترف كثر التناسل والولد والعمومية، فكثرت العصابة واستكثروا أيضاً من الموالي والصنائع وربيت أجيالهم في جو ذلك النعيم والرفه، فازدادوا بهم عدداً إلى عددهم وقوة إلى قوتهم بسبب كثرة العصائب حينئذ بكثرة العدد»‏.

كما ذكر أن «عظم الدولة واتساع نطاقها وطول أمدها على نسبة القائمين بها في الكثرة والقلة»، وأضاف أيضاً: «ألا ترى إلى الأمصار القليلة الساكن كيف يقل الرزق والكسب فيها أو يفقد؛ لقلة العمال الإنسانية، وكذلك الأمصار التي يكون عمرانها أكثر يكون أهلها أوسع أحوالاً وأشد رفاهية».

خرافات «مالتوس»!

وبذلك نظر ابن خلدون لقيمة الزيادة السكانية كقوة تنموية قبل أن تظهر خرافات «مالتوس» بمئات السنين؛ ففي القرن الثامن عشر ظهرت نظرية الاقتصادي الإنجليزي الشهير «مالتوس» في السكان، التي ادعى فيها أن العالم لا بد أن يشهد كل ربع قرن ما يشبه المجاعة، وذلك نتيجة ميل سكانه للزيادة وفق متوالية هندسية، بينما يميل الغذاء إلى الزيادة بحسب متوالية عددية، ومن ثم فإن وجود فجوة بين السكان والموارد الغذائية أمر لا مفر منه، وازدياد هذه الفجوة اتساعاً بمرور الزمن أمر لا فكاك عنه.

وقد توصل «مالتوس» لحل ينافي الفطرة الإنسانية لهذه المشكلة من خلال مطالبته بالعزوف عن الزواج أو تأجيله بهدف الحد من الزيادة السكانية، وإلا فإن الطبيعة ستحصد الرؤوس الزائدة من خلال الأمراض والأوبئة نتيجة سوء التغذية، أو بالحروب نتيجة للتصارع على الموارد الغذائية.

وقد تبنت المؤسسات الدولية تلك النظرية لتخفيض عدد السكان في الدول النامية، في الوقت الذي حرصت فيه على تحفيز الزيادة السكانية في الدول الغربية، التي تعاني أصلاً من انخفاض في معدل المواليد كنتيجة حتمية للانحرافات الخلقية، والله تعالى خلق كل نسمة وتكفل برزقها، قال تعالى: (وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ {6}) (هود).

فعدد السكان لا يمكن النظر إليه على أنه عبء ومصيبة، بل هو نعمة يجب أن تُشكر، ومصدر قوة يجب أن تُستغل، والله تعالى كفل أرزاق العباد وطلب منهم الأخذ بالأسباب والمشي في مناكب الأرض، وخلق لهم فماً واحداً، في الوقت الذي أنعم عليهم بيدين لهما القدرة على إطعام هذا الفم من رزق الله بالعمل والإنتاج، كما أنه إذا كان يولد في كل عام مئات الآلاف من البشر، إلا أنه في الوقت نفسه تولد كل عام مئات الأفكار والمخترعات، وتزيد أفق المعرفة فيتسع العالم وتزيد موارده من تلك الأفكار التي لو أحسن استغلالها لتكشفت ينابيع متجددة ومتعددة من الثروات.

إن زيادة السكان تعني من جهة المزيد من الأيدي العاملة؛ ومن ثم إمكانية التخصص وتقسيم العمل؛ وبالتالي المزيد من الإنتاج والمزيد من الفائض الاقتصادي، ومعنى ذلك تحقق حلول معقولة لنظرية العرض، كما أنها تعني من جهة أخرى المزيد من الطلب؛ ومعنى ذلك حل مشكلة الطلب.

وكم من دول فقيرة في الموارد ولكنها استخدمت ما لديها من قوة عاملة في بناء نهضتها؛ فعلى سبيل المثال اليابان – التي بلغت صادراتها بجودتها الآفاق – تفتقر إلى الموارد الطبيعية، ولكنها أجادت استخدام مواردها البشرية، فمساحتها تبلغ 380 ألف كيلو متر مربع، ونسبة 20% من الأراضي اليابانية غير قابلة للاستغلال على الصعيد الاقتصادي، وبقية الأرض تشكلها الجبال، وعدد سكانها يتسم بالكثافة حيث يبلغ 118 مليون نسمة، ومع ذلك وصلت إلا ما وصلت إليه من تقدم وتنمية.

{mp4}60177{/mp4}
Exit mobile version