الاقتصاد الإسلامي.. بين الماضي والحاضر والمستقبل (1)

لم يعرف مصطلح الاقتصاد الإسلامي طريقه للظهور إلا في أواخر القرن الرابع عشر الهجري؛ أي في النصف الثاني من القرن العشرين، وإن كان جوهر ومضمون هذا المصطلح ارتبط بالإسلام منذ ظهور رسالته التي وضعت الأسس الشرعية والفكرية والتطبيقية لعلم الاقتصاد، حيث عرفت الممارسات الاقتصادية منذ العام الهجري الأول.

فقد أقام الرسول صلى الله عليه وسلم سوقاً بالمدينة، ووضع الضوابط اللازمة للمعاملات بما يكفل القضاء على الغش والغبن والاحتكار والربا، وحرص على جمع الزكاة وإقطاع الأرض لمن يريد أن يحييها بالاستصلاح، ونظم استخدام الموارد المائية، ورسخ مفهوم العدل في المعاملات، واحترام الملكية الفردية، وحرية الأسواق وما يجري فيها من معاملات وأسعار ما دامت في إطار الشريعة الإسلامية الغرّاء، ووضع الضوابط اللازمة في مجالات الإنتاج والتوزيع والاستهلاك.

وجاء عصر الصحابة والتابعين؛ فانتشر مفهوم فقه المعاملات كنتيجة طبيعية لاتساع هذا الفقه باتساع رقعة الدولة الإسلامية، وظهرت كتابات قيمة في الاقتصاد الإسلامي بأيدي المفسرين والفقهاء والمؤرخين وفلاسفة علم الاجتماع والسياسة والأخلاق، فقد كتب أبو يوسف (يعقوب بن إبراهيم، ت 182هـ/ 798م) كتابه «الخراج»، وكتب محمد بن الحسن الشيباني (ت 198هـ/ 804م) كتابه «الاكتساب في الرزق المستطاب»، وكتب يحيى بن آدم القرشي (ت 203هـ/ 818م) كتابه «الخراج»، وكتب أبو عبيد القاسم بن سلام (ت 224هـ/ 838م) كتابه «الأموال»، وكتب على محمد بن حبيب الماوردي (ت 450هـ/ 1057م) كتابيه «الأحكام السلطانية»، و«المضاربة».

وإلى جانب ذلك ظهرت العديد من الكتابات في علم الاقتصاد الإسلامي لأئمة الفقه وتلاميذهم من خلال تعرضهم للفقه الإسلامي بجوانبه المتعددة، فضلاً عن العديد من الكتابات المتفرقة والمتعمقة في الاقتصاد الإسلامي للعديد من العلماء، وفي مقدمتهم الإمام أبو حامد الغزالي (ت 505هـ/ 1111م) الذي تناول في كتابه «إحياء علوم الدين» اكتساب الدخل، ومشروعية تكوين الثروة، وصعوبات المقايضة، والنقود، والربا، وأبو الفضل جعفر بن على الدمشقي (ت 570هـ/ 1174م) الذي تناول في كتابه «الإشارة إلى محاسن التجارة» الحاجات، وتقسيم العمل، وصعوبات المقايضة، والنقود، والأسعار، وابن تيمية (ت 728هـ/ 1328م) الذي تناول في كتبه «السياسة الشرعية»، و«مجموع الفتاوى»، و«الحسبة» النقود، والأسعار، ودور الدولة في الرقابة على الأسواق ورعاية المحتاجين من الناحية الاقتصادية كما تناولها أيضاً تلميذه ابن القيم (ت 751هـ/ 1350م) في كتابيه «الطرق الحكمية في السياسة الشرعية»، و«إعلام الموقعين عن رب العالمين».

ومع نهايات القرن الثامن وبدايات القرن التاسع الهجري، ظهر رائد على الاجتماع ومن ثم علم الاقتصاد – باعتباره فرعاً من العلوم الاجتماعية – ابن خلدون (ت 808هـ/ 1404م) الذي كتب كتابه «المقدمة» قبل أن يولد من سماه الغرب أبا الاقتصاد آدم سميث الذي نشر كتابه «ثروة الأمم» عام 1776م، فقد كشفت مقدمة ابن خلدون عن تطرقه بالمناقشة  للعديد من المبادئ الاقتصادية بصورة تجمع بين الفهم العميق والنظر البعيد والفكر الثاقب، فتعرض على سبيل المثال لتقسيم العمل، والأسعار، والنقود، والعرض والطلب، وتقسيم السلع إلى ضرورية وكمالية، والتجارة الخارجية، كما ناقش بإسهاب الأنشطة الاقتصادية المؤدية إلى اكتساب الدخل في القطاعات الرئيسة، وقدم تحليلاً دقيقاً للنمو الاقتصادي ودور الدولة فيه خلال مراحل تطورها.

وفي تلك الفترة ظهر أيضاً المقريزي (ت 845هـ/ 1442م) الذي تناول بالتحليل في كتابه «إغاثة الأمة بكشف الغمة»، أسباب غلاء الأسعار في مصر في تلك الفترة متناولاً النقود والأسعار، محللاً التغيرات في قيمة النقود وعلاقتها بالارتفاع المستمر في الأسعار والأزمات الاقتصادية المترتبة على ذلك، معللاً أسباب الغلاء بسوء التدبير والفساد الإداري وزيادة كمية النقود المتداولة، كما ظهر بعد ذلك شاه ولي الله (ت 1176هـ/ 1762م) الذي تناول في كتابه «حجة الله البالغة» عقود المشاركات، والربا، والقمار، والزكاة، والضرائب، والإسراف.

وقد انطبق على عصر ابن خلدون نظريته الخالدة بأن «تقدم العلوم يتوقف على تقدم المجتمع نفسه»، حيث بدأ في عصره نهاية الازدهار الإسلامي، وفي مقدمة ذلك علم الاقتصاد الإسلامي الذي شهد نمواً سريعاً وعمقاً واسعاً حتى القرن الرابع الهجري العاشر الميلادي، ثم كانت وتيرته بصورة أقل حتى القرن الثامن الهجري الرابع عشر الميلادي، ثم عاش في زاوية النسيان بعد ذلك خاصة بعد القضاء على الخلافة الإسلامية عام 1924م وسيطرة الاستعمار الغربي على ديار المسلمين، وفي الوقت نفسه أصبح الاقتصاد التقليدي علماً قائماً بذاته في الغرب، ويشهد حراكاً واسعاً نحو التطوير.. وللحديث بقية.

Exit mobile version