مساحات «الجهاد» وأنواعه لم تُبقِ عذراً لأحد

 

هناك بشائر كثيرة تبرق في سماء حياتنا، ودلائل صريحة تؤكد أن المستقبل لهذه الأمة، وأن الأحداث تتسارع، مؤشرة على ميلاد جيل واسع، يُصنع على عين الله تعالى، مقدمته المثابرة، وديمومة العمل، مع تضحية وبذل لم يُعهد منذ عقود من الزمن.

نقول هذا، رغم الأحداث الخطرة التي تواجه الأمة، في أتون معركة تأكل الأخضر واليابس، وتعمل على سحق كل جميل عندنا، وتسعى لحرق الأبيض والأسود والأصفر، وتحاول التهام كل مظهر من مظاهر الخيرية في هذه الأمة، من هنا فإننا نقول، وهذا بات من بدهيات الوعي المعاصر: إن الأمة تتعرض لحرب استئصال، ولمعركة اجتثاث، ولسجال مصيري، ولمسح من خريطة الحياة، من خلال معارك طاحنة، ونزالات خطرة، وسنن تدافُع تبرُز لها صور مختلفة، وأشكال متنوعة، واعتداءات متعددة، مع تحالفات مقلقة، وتجليات مزعجة، وصور لعرض قادم، تجعل أبناء الأمة أمام محك دقيق، واختبار وثيق، وتضعهم أمام ابتلاءات، لا بد من مواجهتها بالجهد البشري، مستعينين بالتأييد الإلهي، فربنا بيده كل شيء، وهو على كل شيء قدير.

ولو استعرضنا بنظرة سريعة ما يحدث من تقسيمات هذا المشهد وإيقاعاته، ومراحل تساوقه وخطواته، لوجدنا العجب العجاب، انطلاقاً من مصر، وما يراد لهذا البلد الميمون، وما يُكاد له، مروراً بالقضية الفلسطينية، وما يحاك لها من مكائد، ووقوفاً على الذي يجري في ميانمار وأفريقيا الوسطى وبنجلاديش، وما في تلك البلاد من كوارث وطامات، وما يحدث في العراق، مع مصاب أليم من عام 2003م إلى يومنا هذا، استنزاف مالي وبشري، وتغيير ديمجرافي، وصور لا تنتهي من مشاهد المأساة في العراق، وفي العراق جوع، وهو بلد النفط والرافدين وملايين أشجار النخيل! حتى نركز كثيراً على سورية بلاد الشام، وما حل بها، وما يجري فيها، لنجد ملايين المشردين والنازحين والمهاجرين، وخسر الشعب السوري مئات الآلاف ممن نحسبهم شهداء، وهذا يترتب عليه عدد كبير من الأيتام والأرامل، أما الهدم والتخريب فحدّث ولا حرج، مع تغيير ديموجرافي، ومكائد سياسية خطرة، واستنزاف للمال والدم، والمشهد السوري بجملته، يحكي قصة كارثة، قل نظيرها، وندر شبيهها.

أنواع الجهاد

وهذا الواقع يستلزم حالة نهوض ونفرة في سبيل الله تعالى، حيث إني لم أرَ تجلياً لمفهوم شمول الجهاد، يظهر كما في أيامنا هذه، وتتجلى قيمه كما في واقعنا المعاصر اليوم، وهذا التنوع لمفهوم الجهاد، ضرورة شرعية، وحاجة واقعية، وهو تعبير أصيل يعبر عن ثقافتنا الإسلامية الرائدة، فالكلمة جهاد ولا ننسى جهاد القلم، وجهاد اللسان، وجهاد العلم والدعوة، والنشاط في العمل الإسلامي، في كل جوانب الحياة، فالإسلام نظام شامل ينتظم شؤون الحياة جميعاً، والسيف جهاد، والإعلام جهاد، وبالمال يكون الجهاد، والعمل السياسي جهاد، والتحرك الدبلوماسي الصادق جهاد، وبالوقفة يكون الجهاد وكذا بالموقف، وما أكثر مساحات الجهاد، ولكن أين العاملون؟

قال الله سبحانه وتعالى: (لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُـلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى) (النساء:95).

وفي الحديث الصحيح: وعن أنس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم» (رواه أحمد والنسائي وصححه الحاكم).

يقول ابن القيم رحمه الله: «وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ جِنْسَ الْجِهَادِ فَرْضُ عَيْنٍ إِمَّا بِالْقَلْبِ، وَإِمَّا بِاللِّسَانِ، وَإِمَّا بِالْمَالِ، وَإِمَّا بِالْيَدِ، فَعَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يُجَاهِدَ بِنَوْعٍ مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ».

حصر الجهاد بنوع من أنواعه:

فقصر الجهاد على الرصاصة والسيف هو لغة أهل الغلو، وجماعات الاستعجال غير المنضبط، وهذا الصنف يحاول تعطيل كل أنواع الجهاد، ويحقر من شأنها ويسخر من القائلين بها، ويتهمهم بالانبطاح، والانهزام والانكسار، وربما وصفهم بالجبناء والمتخاذلين، ويقول قائلهم: «لا جهاد إلا حيث ينطق الرصاص».

وجهاد السيف – على أهميته – له فقهه الدقيق، وأحكامه الوازنة، وتقديره الزماني والمكاني، وهذا يحتاج إلى فتوى أهل العلم من المحققين، وتقدير موقف من أصحاب الخبرة والرأي، وقادة العمل الميداني، فما يصلح في مكان ليس بالضرورة أن يكون صالحاً لكل مكان، فالأمر دقيق ويحتاج إلى نظر سديد، مع الإعداد له بكل لوازم المواجهة، وليس عملية طائشة تتحكم بها العواطف، وتقودها حالات الانفعال الارتجالي.

الجهاد في عصر العولمة:

ونحن اليوم في عصر العولمة، الزمن الذي صار فيه العالم كأنه قرية صغيرة، بفعل هذا الانفجار المعرفي، من وسائل الاتصالات، ووسائل المواصلات، وتكاثر أدوات التصنيع الإلكتروني والكهربائي، التي جاءت بكل مدهش، وأبهرت الناس بغرائب تصنيعها، وهذا كله جعلنا أمام مساحات عمل لم تكن متوافرة في زمن مضى، وهذا من ثم يرتب علينا أحكاماً جديدة، في مسائل التعامل مع قضايانا ومسائلنا الدعوية والسياسية، ويجعل الأمة أمام تحدّ جديد في الإفادة من هذه المساحات المهمة، التي من خلالها نحقق المراد الذي ربما يختصر علينا كثيراً من الأوقات، ويوفر لنا جملة لا يستهان بها من الأموال.

وأمام هذه الحقيقة العامة، فإنه يجب على كل مسلم أن يقوم بواجب الجهاد في سبيل الله تعالى، ولا يجوز القعود عن ذلك، ومن قصر في هذا يكون آثماً، من هنا لزم على القادر في مجال الإعلام أن يقوم بهذا من خلال خطة تعمل على إسناد قضايا الأمة وتناصرها، ورب تغطية إعلامية تفعل ما يعجز عنه صاروخ، والإعلام جيش جرار له أكبر الأثر في صناعة الأحداث والتأثير فيها.

كما أن الدأب الصحيح في مربعات العمل السياسي، والحراك السلمي، يكون جهاداً له أثره الكبير، في إحداث نواتج الخير التي هي ثمرة الجهاد.

والعمل الدعوي صارت مساحاته متنوعة، وأدوات عمله للوصول إلى الناس متوافرة ظاهرة، كما أن فيها جوانب التشويق، ومعالم الجذب، وعناصر التحبيب، ولكن نحتاج إلى من يتقن التعامل مع هذه الأدوات، بصورة صحيحة وعمل تخصصي وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

أما جهاد المال، الذي هو عصب الحياة، فإنه يحتاج منا إلى مجاهدة النفس حتى تتحرر من الشح، وتُزكى من البخل، من أجل استخدام المال في جوانب الخير، وما شرعت الزكاة إلا لسد حاجة الفقير والمسكين وابن السبيل وفي سبيل الله، وسد حاجات المحتاجين، والإنفاق في وجوه الخير من مشاريع الفضيلة من خلال فتوى محققة، ونظر شرعي، ولا يفوتنا أن في المال حقاً سوى الزكاة.

وهكذا في كل أنواع الجهاد يجب أن تكون نفس النظرة، وذات الفقه، وعين الفكر، حتى ينتظم الحياة جميعاً.

ملاحظات وتنبيهات:

1- لا يطلق وصف «مجاهد» إلا على من استحقه، ومن خصائص هذا الوصف أن يكون صاحبه مضحياً، ولما في قدرته باذلاً، فيجاهد بماله، ويجاهد بحركته، ويجاهد بدأبه وسهره، ومواصلته للعمل، ويجاهد بوقته، ويجاهد بمواهبه التي حباه الله بها.. أما الكسالى والنُوَّم، والمتقاعسون القاعدون، فلا يجوز منحهم هذا الوسام العظيم، من هنا استحق كبار الدعاة والعلماء مثل هذا الوصف، كقولنا عن الشيخ الندوي العلامة المجاهد، والعلامة المجاهد محمد الحامد، والإمام المجاهد حسن البنا، والمجاهد بديع الزمان سعيد النورسي، وربما بعض من يوصف بهذا حصل عليه، بسبب جهاده الدعوي، أو جهاده في قول الحق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

2- يجب التحذير من فقه أهل الغلو (التطرف) وفكرهم، فقد أربكوا الساحة، وخلطوا الأوراق، وحرفوا العربة عن طريقها الصحيح.

3- في خضم هذا العمل نحتاج إلى تحديد المسار، بشكل منضبط، حتى لا نقع في مربعات الخطأ، ومن أمثلة ذلك، الدخول في معارك جانبية، تؤدي إلى تشتيت الجهد، وتفريق الصف، وضياع البوصلة.

4- ألاحظ أن نوعاً من الثارات القديمة، أصبحت تطل بقرنها هنا وهناك، وهذا أمر لا نجني منه سوى العلقم، فالحذر الحذر.

5- من هنا، يكون جواب من يسأل: كيف أخدم إخواني المنكوبين في كل مكان، ومنها سورية عامة، وأهل حلب خاصة؟ نقول لهم: إسناد هؤلاء في محنتهم يمكن أن يكون: بالدعاء لهم، وبنشر قضيتهم على وسائل الإعلام المتاحة بين يديك، اكتب خاطرة، دوّن تغريدة، سطّر مقالة، تعاون بالمال فما أكثر المؤسسات العاملة، انصروا إخوانكم بالوقفات والمظاهرات في الأماكن التي تسمح بذلك، مارسوا الضغط السياسي بكل الطرق المشروعة، والوسائل السلمية، عيشوا قضيتهم في برامج عملكم واجعلوا ذلك جزءاً من جدول الحراك اليومي.

Exit mobile version