لماذا لا تمتلك النظم الاستبدادية مشروعاً لتخطيط القيم والمحافظة على الهوية؟

 يعد مشروع تخطيط القيم والمحافظة على هوية المجتمع من أهم المشاريع التي تأخذ بها الدول المتحضرة، لأنها تستثمر ذلك المشروع في التحسين المستمر لجودة السلوك المجتمعي، وتقليل معدلات المشكلات البينية والجرائم، ومن ثم تحسين منسوب الأمن المجتمعي، وكذلك تعزيز الوحدة الثقافية والاجتماعية واللحمة الوطنية للمجتمع.

مشاريع تخطيط القيم تربي وتنتج جيلاً قوياً واعياً بذاته الحضارية، مما يدعوه للبحث في ممكنات فعله؛ ومن ثم اكتشاف مواهبه وقدراته وموارده ومقدراته، والسعي للأداء المهني الجاد، والاستخدام الأمثل لموارده لتحقيق أفضل عائدات ممكنة، ومن ثم يساهم في زيادة وتحسين جودة الإنتاج وتقليل الاستيراد، بما يضمن تحسين الناتج المحلي وميزان المدفوعات والدخل القومي للمجتمع، والعودة للدخول في ميدان التنافس الحضاري مع الدول المتقدمة، والانتقال إلى مصاف الشعوب المتحضرة التي تحيا حياة حرة كريمة عزيزة مرفهة تليق بها وبتاريخها وبمواردها.

لذلك تمتلك كافة الدول المتقدمة مشروعاً واضحاً للقيم يسمى نظام قيم المجتمع والدولة (نظام القيم اليابانية، منظومة القيم الأمريكية، النظام القيمي الفرنسي.. إلخ)، وهو المسؤول عن التحسين المستمر لجودة الفهم والوعي والسلوك والأداء المهني للمواطنين، يمسك بزمامه أحد مسؤولي الأمن القومي بالدولة، والمسؤول تحديداً عما يسمى إدارة وتوجيه وتطوير السلوك المجتمعي، والذي يشرف تحديداً على الوزارات الست العاملة في مجال بناء الانسان (التعليم، الثقافة، الإعلام، الشؤون الاجتماعية، الأوقاف، الشباب والرياضة)؛ ليخطط منظومة الأفكار والقيم الموحدة التي تتبناها الدولة، ويوزع مهام تنفيذها وتمكينها على الوزارات الست كل حسب تخصصها، لتعمل كل وزارة على بناء وتعزيز وتمكين هذه القيم في نفوس الشريحة العمرية والنوعية للمجتمع، حتى تتحول إلى سلوك ومهارات يومية تمثل ثقافة ونمط حياة يومياً معتاداً لمواطني الدولة.

ولكن وبطبيعة الحال، يختلف الأمر في الدول النامية التي تقبع تحت نظم الحكم الاستبدادية والتي تتجنب امتلاك مشروع لتخطيط القيم والمحافظة على هوية المجتمع، وربما تمارس بعد الأعمال الشكلية فقط والتي توحي بالاهتمام بالقيم والهوية، وتحرص جميعها على اختزال هوية الدولة في العلم والنشيد الوطني وصور وشخصية رأس الدولة، بينما هي في حقيقة الأمر تتجنب تماماً العمل في هذا الملف، وذلك لعدة أسباب؛ من أهمها:

– مخافة نمو وعي وفهم الجماهير؛ ومن ثم المطالبة بحقوقهم في الحريات العامة والمشاركة في السلطة وصناعة القرار، وتوزيع الثروة؛ مما يشكل تهديداً لمصالح الحكام المستبدين وأعوانهم المنتفعين من حولهم.

– مخافة وعي المواطنين بذاتهم الحضارية وبموقعهم الحضاري بين المجتمعات، وحقهم في العيش في مستوى أفضل مما هم عليه، يضاهي المجتمعات المتقدمة، والبحث في أسباب ضعف وفشل هذه الأنظمة عن تحقيق وتوفير ذلك، ناهيك عن اكتشاف فسادها واستحواذها على السلطة والثروة وحرمان الشعب منها.

– مخافة وعي المواطنين بذاتهم واكتشاف قدراتهم وأدواتهم المختلفة للفعل والإنجاز، بالإضافة إلى مقدرات وموارد الدولة المتوافرة، ومن ثم الفرص الحقيقية الكبيرة المتاحة للنمو، بيد أن ضعف وتخلف وفساد الحكام المستبدين هو ما يحول بينهم وبين ذلك.

– مخافة وعي الجماهير المتنوعة بمكوناتها وثراءها الديني والفكري والعرقي المتنوع بقيم التسامح والتعايش والوحدة والتعاون والتكامل؛ ومن ثم تمكنها من الوحدة والاحتشاد ضد النظام للمطالبة بحقوقها ومصالحها.

– مخافة وعي ونضج الجماهير، واكتشاف الخدعة الكبرى بضحالة مستوى قيادتهم ونظامهم السياسي ومدى ضعفه وفساده وسوء إدارته لموارد البلاد، والفرص الضائعة منهم للنمو والتطور والعيش حياة كريمة أفضل مما هم عليه؛ ومن ثم المطالبة بتغييره.

لذلك نجد الدول المتقدمة تحرص على تربية مجتمعاتها على قيم الحرية والاعتزاز بالذات، وحب العلم والبحث العلمي، والعمل المؤسسي المنظم، والتفكير والإبداع والابتكار والتنافس الإيجابي، والتسامح والتعايش والوحدة والمواطنة والاحتشاد، بينما لا نجد لذلك أثراً في خطط الوزارات الست العاملة في مجال بناء الإنسان بالدول المستبدة؛ نجد في واجهة الاهتمام الثقافي والإعلامي والفني أعمالاً تشرح وتبرز وتعزز وتمكن لقيم التحلل الخلقي والعشوائية والبلطجة والتسفيه المتعمد للعلم والعلماء، وتكريس الفردية والأنا وقبول والتعايش مع الظلم والاستبداد والعبودية والقهر إلى غيرها من القيم التي تدمر أخلاق المواطن وتفكك أسباب قوته وتصنع منه إنساناً ممسوخاً مغيب الهوية، غائباً عن الوعي والفعل العام، ضعيفاً تابعاً يرضى بالدونية من الحياة.

 

*رئيس مركز هويتي لدراسات القيم والهوية

Exit mobile version