العالم الإسلامي والشركات متعددة الجنسيات.. تبعية أم استقلال؟

تمثل الشركات متعددة الجنسيات إحدى القوى الفاعلة في التأثير في عالمنا المعاصر، ليس على المستوى الاقتصادي فحسب، بل والمستوى الاجتماعي والسياسي أيضاً، وتعد هذه الشركات المحرك الرئيس لظاهرة العولمة التي تمثل المحدد الأساسي لمسار النمو والتنمية في مختلف دول العالم اليوم.

ساعدت العولمة على انتشار الشركات متعددة الجنسيات التي تمتلك موارد طبيعية وقوة مالية ومرتكزات تكنولوجية هائلة، وتسيطر على أهم الأنشطة الاقتصادية في دول العالم، ومنها الدول الإسلامية التي عمدت هذه الشركات إلى البحث عن مصالحها الاقتصادية فيها، ونظرت إلى أولوياتها بغض النظر عن أولويات الدول الإسلامية؛ وهو ما انعكس في صورة مزيد من تبعية الدول الإسلامية اقتصادياً لها.

وقد عرفت الشركات متعددة الجنسيات طريقها للنشأة، على يد الشركات الأمريكية الكبرى التي عمدت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وبصفة خاصة منذ الخمسينيات من القرن الماضي على زيادة استثماراتها المباشرة خارج الولايات المتحدة، وذلك بإنشاء وحدات إنتاجية في كندا وأوربا وأمريكا اللاتينية في إطار إستراتيجية إنتاجية عالمية موحدة.

عوامل الانتشار

وقد سارت الشركات الأوروبية على نفس النهج بعد الحرب العالمية الثانية، وإعادة بناء قوتها، فأنشأت وحدات إنتاجية خارج حدودها، ثم جاء بعد ذلك دور الشركات اليابانية التي انتشرت عالمياً، وقد ساهم في انتشار الشركات متعددة الجنسيات اتفاقية «الجات»، وميلاد منظمة التجارة العالمية، واتجاه العالم بقوة نحو العولمة، حتى أصبحت تلك الشركات تستحوذ على ثلثي التجارة العالمية.

وقد تعددت أساليب تكوين الشركات متعددة الجنسيات، فقد تقوم الشركة الأم بتكوين شركات في دول أخرى سواء بميلاد تلك الشركات لأول مرة، أو بتملك تلك الشركات من خلال شراء أسهمها والسيطرة عليها، أو بتملكها من خلال الاندماج ومن ثم اختفاء تلك الشركات.

ومن خلال تتبع وضع الشركات متعددة الجنسيات في الدول النامية التي تعد الدول الإسلامية جزءاً منها؛ نجد أنها تستحوذ على 15% فقط من النشاط الاستثماري لهذه الشركات، ولا أحد ينكر مقدرة الشركات متعددة الجنسيات بما لديها من موارد ضخمة على سد الفجوة بين احتياجات العديد من الدول الإسلامية من رؤوس الأموال اللازمة لتمويل المشروعات التنموية، وحجم المدخرات أو الأموال المتاحة محلياً، ولكن هذه المقدرة لا تأتي وفق رغبات الدول الإسلامية، بل وفق إستراتيجيات الشركات متعددة الجنسيات التي تبحث عن مصالحها بغض النظر عن مصالح الدول الإسلامية المضيفة.

ترسيخ التبعية الاقتصادية

وقد وصف الأستاذ الجامعي في جامعة هارفرد «ريمون فيرنون»، الشركات متعددة الجنسيات بقوله: «أصبحت هذه الشركات تجسّد كل ما هو فاسد في المجتمع الصناعي الحديث، وهي في ظل هيمنتها على الاقتصاد العالمي، نراها لا ترحم في حساباتها الشعوب النامية، ومنها العالم العربي، وسوف تستمر في التأثير على الحكومات في هذه البلدان، علماً بأن رؤوس الأموال الخاصة بالشركات الكبرى المتجهـة نحو البلدان النامية ضعيفة، في حين تتركز وتنصب على الدول الغنيّة من العالم».

إن الواقع يكشف أن الشركات متعددة الجنسيات عملت على ترسيخ التبعية الاقتصادية في العالم الإسلامي، من خلال تعميق التبادل اللامتكافئ بين الدول المتقدمة والدول الإسلامية التي ما زالت تقع – للأسف الشديد – تحت مظلة الدول النامية، وقد بدا دور الشركات متعددة الجنسيات في تعميق التبادل اللامتكافئ من خلال إنتاج وإعادة إنتاج التبادل اللامتكافئ، والتقسيم الدولي الجديد للعمل، ونقل التكنولوجيا.

وإذا كان البعض ينظر للشركات متعددة الجنسيات على أنها عملت على نقل التقنية للدول الإسلامية، فإن الواقع يكشف أنه ليس كل تقنية يمكن أن يتم نقلها؛ بل إن التقنية التي تلامس رغبات الشركات متعددة الجنسيات.. فتحت الباب أمام السفه الاستهلاكي في العالم الإسلامي، وأهملت المساهمة باستثماراتها في تغيير البنية الهيكلية للإنتاج، وتعزيز الصناعة التحويلية، واعتمدت بصورة كبيرة على تركيز استثماراتها في قطاع البترول الريعي الذي لا يندرج عليه المساهمة في امتصاص البطالة التي تعتبر قنبلة موقوتة في العالم الإسلامي خاصة في قطاع الشباب.

إضافة إلى أنها اتجهت باستثماراتها نحو القطاع الخدمي، ولم يجنِ العالم الإسلامي منها سوى استغلال موارده وعمالته، واحتكار السلع والخدمات، وتغيير هوية وثقافة الأمة، وعقد الصفقات من خلال الرشوة والفساد، وجعل اقتصاده عاجزاً عن توفير شروط تراكمه ونموه داخلياً، وحتى إذا حدث نمو اقتصادي يظل تبعياً، وربط مصالحه بما ترضاه تلك الشركات، حتى باتت التبعية في كل شيء؛ تبعية غذائية وتكنولوجية وثقافية وسياسية، بل بدت التبعية المالية أيضاً من خلال تغريق العديد من الدول الإسلامية  في بحر لجي من الديون الخارجية، وتوظيف الدول النفطية الإسلامية أموالها في أسواق المال الدولية في الدول الغربية.

سوق إسلامية مشتركة

لقد آن الأوان لدول العالم الإسلامي للخروج من نفق تبعية الشركات متعددة الجنسيات، والاعتماد على ذاتها، وتنسيق الجهود فيما بينها، لميلاد سوق إسلامية مشتركة، تعتمد على التخصص وتقسيم العمل بين دول العالم الإسلامي، وتستفيد مما حباها الله من موارد طبيعية هائلة، وقوى بشرية ماهرة، ورأسمال لا يستهان به، لتخرج الأمة من دور المغلوب المولع بالغالب إلى أمة تعتمد في تلبية حاجاتها على سواعد أبنائها، وتبني علاقتها مع الآخر على أساس المصالح المتبادلة وفقاً لميزان العدل دون طغيان أو إخسار.

Exit mobile version